رايت: هاتفني أحد أقارب الظواهري فتجسست عليَّ الـ {اف.بي.آي}

الصحافي الأميركي أحد أبرز خبراء مكافحة الإرهاب أكد لـ {الشرق الأوسط} وجود يأس كبير بين المسلمين في الغرب يدفع أبناءهم إلى التطرف

لورانس رايت أمام مقر دار الصحافة العربية في العاصمة لندن (تصوير: جيمس حنا)  -  لورانس رايت
لورانس رايت أمام مقر دار الصحافة العربية في العاصمة لندن (تصوير: جيمس حنا) - لورانس رايت
TT

رايت: هاتفني أحد أقارب الظواهري فتجسست عليَّ الـ {اف.بي.آي}

لورانس رايت أمام مقر دار الصحافة العربية في العاصمة لندن (تصوير: جيمس حنا)  -  لورانس رايت
لورانس رايت أمام مقر دار الصحافة العربية في العاصمة لندن (تصوير: جيمس حنا) - لورانس رايت

يعتقد لورانس رايت الصحافي الأميركي الكاتب في مجلة «نيويوركر» المتخصص في الكتابة عن «القاعدة» ومؤلف كتاب «البروج المشيدة.. (القاعدة) والطريق إلى 11 سبتمبر» أن «داعش» لن تختفي من المشهد السياسي بسهولة، ويتميز رايت باللقطة الصحافية، فقد استمد عنوان كتابه الأشهر من الآية القرآنية «أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة» التي جاءت في رسالة بن لادن لمحمد عطا زعيم الانتحاريين في هجمات سبتمبر، وكان يقصد بها استهداف برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك.. كانت تلك إجابة الكاتب الأميركي رايت في حواره لصحيفة «الشرق الأوسط» حول سبب اختياره لعنوان كتابه الشهير «البروج المشيدة»، وقال رايت، إن بن لادن استخدم تلك الرسالة شفرة ملغزة تطلب من عطا أن يمضي في خطته المرسومة، مشيرا إلى استهداف برجي التجارة بنيويورك في سبتمبر 2011.
أمضى رايت 35 عاما من حياته المهنية في البحث وراء شخصية أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، وأجرى مقابلات مع أكثر من 500 شخص من أصدقاء وأقارب بن لادن ومسؤولين في 20 دولة، وخرج إلى العالم قبل ست سنوات بكتابه الذي حصل على جائزة «بوليتزر» (أرقى الجوائز الأميركية في الصحافة)، وعندما جاء إلى دار الصحافة العربية في العاصمة لندن قبل أيام، تحدث عن مسرحيته الأخيرة «كامب ديفيد»، التي عُرضت في الولايات المتحدة وحققت نجاحا على مدار ستة أسابيع متواصلة، وحضر عرضها الافتتاحي الرئيس الأسبق كارتر وزوجته وجيهان السادات قرينة الرئيس المصري الراحل.
وقال رايت: «كان الجميع يعتقد أنه كان رجلا ضعيفا ولن يستمر طويلا. سيبقى لوقت قصير حتى يأتي رئيس آخر قوي مكانه. ولكن السادات قلب الموازين. أثبت أنه الرئيس القوي»، وجاء معه الحوار على النحو التالي:

* لماذا يصبح من السهل على بعض المسلمين، أمثال أبو هريرة الأميركي والمتطرفين في بريطانيا وآسيا، التحول إلى مقاتلين؟
- أعتقد أن بعضا منهم، وخاصة في أوروبا، يجدون مجتمعات تضم جماعات ذات انتماء عرقي أو ديني مميز. في أميركا المجتمع أكثر اختلاطا. في أوروبا تجد جميع الأتراك يعيشون في ألمانيا وهكذا، بذلك يصبح لديك جاليات مختلفة من المسلمين الذين لا يتحدثون بلغة الدولة التي يعيشون بها جيدا أو لا يتحدثون بها على الإطلاق. على سبيل المثال، إذا كان شاب مسلم يعيش في بلجيكا أو فرنسا حيث توجد جالية مسلمة كبيرة، قد لا يتحدث الفرنسية أو الألمانية أو الهولندية، وربما أيضا لا يتحدث العربية جيدا. كذلك من الممكن أنه لم يزر مطلقا المغرب أو الجزائر موطنه الأم، لذا يكون تائها ويصبح دينه هو هويته، وكلما ازداد تطرفا نما لديه شعور بامتلاك الهوية. ولكني أعتقد أن هناك يأسا كبيرا داخل كثير من الدول المسلمة وفي الشتات الذي نراه بين المسلمين في الغرب، حيث يسري شعور بأنهم لم ينجحوا أو لم يتأقلموا، وأعتقد أن هذا يولّد نوعا من اليأس الانتحاري الذي نراه بين الشباب الذين يقتلون أنفسهم الآن.
* ما الجماعة الأخطر؛ «داعش» أم «النصرة» أم «القاعدة»؟
- في تقديري، الأمر الخطير بالفعل هو عدم وجود بديل، لأن كل من تلك الجماعات خطيرة، ولكنها لا تواجه مقاومة بالطريقة التي تحتاج إليها تلك الثقافات من أجل حماية ذاتها من داء التطرف. لا توجد حصانة كافية في العالم العربي والإسلامي في الوقت الراهن. يتنافس كل من تنظيمي «داعش» و«القاعدة» على الاستحواذ على أراضٍ تمتد من روسيا إلى المغرب. وأحيانا ما تجد التنظيمين موجودين على أرض دولة واحدة، وأحيانا أخرى في دول مختلفة، ولكن يجذب تنظيم «داعش» كثيرا من الشباب الذي يرغبون في الإيمان بفكره.
* متى تتوقع أن تختفي هذه الجماعات؟ بعد عشر سنوات أو 20 سنة؟
- لا أدري. لكي أكون صريحا ظننت أن هذا سوف يحدث بحلول الوقت الحالي، ولكن ثبت أنه أكثر قدرة على الاستمرار مما ظننت، وأعتقد أن ذلك يرجع إلى أن السبب الذي أدى إلى ظهور هذه الجماعات لم يتغير، وحتى تتخذ المجتمعات التي ظهرت بها تلك الجماعات بعض الإصلاحات وتحقق بعض التقدم، فسوف نستمر في مشاهدة التطرف وهو يخرج عبر الحدود.
إضافة إلى ذلك، كانت معلومات متناقضة ترد من أميركا بشأن «القاعدة» ومسلحيها، وأخبار عن أشخاص تقتلهم طائرات من دون طيار، ثم يتضح أنهم أحياء.
أعتقد أننا نبالغ باستمرار في تقدير حجم إمكانياتنا الاستخباراتية، وقد ثبت مرارا وتكرارا أننا لا نعلم الكثير عن الصراعات التي نخوضها.
* بعد كتابة العديد من المقالات والكتب، هل أصبحتَ تعرف كل شيء عن «القاعدة»؟
- لا، بالتأكيد لا أعرف، وكل شيء يتغير باستمرار كما ترى ما يحدث أمامنا.
* كم عدد الأشخاص الذين يتحدثون العربية في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أو مكتب التحقيقات الفيدرالية؟ وما قدراتهم اللغوية؟
- تمثل اللغة مشكلة حقيقة. لا أعرف ما إذا كان ذلك تغيرا، ولكن بعد أحداث 11 سبتمبر كان هناك عدد قليل ممن يجيدون التحدث بالعربية أو الأوردية أو الفارسية أو غيرها من أصحاب اللغة الأصليين. يوجد عدد كبير منهم في الولايات المتحدة، وكل من هؤلاء الناطقين بلغاتهم الأصلية لديه جالية كبيرة، ولكن لا يثق بهم مجتمع الاستخبارات الأميركي. أحد الأبطال الذين تحدثت عنهم في كتابي اسمه علي سفيان، وهو مولود في بيروت ويتحدث العربية وهي لغته الأم، ولكني في الوقت الحالي لا أدري إن كان يستطيع الحصول على الوظيفة في مكتب التحقيقات الفيدرالية في ظل التحيز ضد الأميركيين المولودين في الخارج، ولكن ذلك يلحق بنا ضررا. بالتأكيد لا أعرف، وكل شيء يتغير باستمرار كما ترى ما يحدث أمامنا.
* هل أصبح الغرب أكثر معرفة بالمسلمين والإسلام في الوقت الحالي؟
- نعم، بالطبع، انظر إلى لندن، عندما بدأت في المجيء إلى هنا مراسلا شابا، لم أكن أرى سيدة واحدة محجبة، والآن نراهم في كل مكان، لذلك يعرفهم الناس جيدا، ويرجع الأمر في الغالب إلى اضطرار عدد كبير من المسلمين إلى الفرار من بلدانهم والسعي إلى الإقامة في الغرب. تسبب ذلك في إثارة توترات كثيرة، ولكنهم في المقابل جاءوا إلى مناطق يمكنهم الحصول على عمل بها، في حين أنهم لا يستطيعون العمل في أوطانهم، وهم هنا أكثر حرية في أن يكونوا كما يريدون. وربما يؤثر ذلك في النهاية على سكان الدول التي غادروها.
* من وجهة نظركم.. هل يمكن أن تختفي جماعة الإخوان المسلمين نهائيا من مصر؟
- أولا وقبل أي شيء، ازدهرت جماعة الإخوان لأنها كانت السبيل الوحيدة أمام كثير من المصريين للاحتجاج ضد الحكومة، ثم نشأ مزيد من الحركات الراديكالية بعد ذلك، انظر مثلا إلى الظواهري الذي كان يكره «الإخوان». كانت هناك حكومة، ثم تظاهر الإسلاميون ضدها، وكانوا الوحيدين الذين يملكون الجرأة للوقوف ضدها. كانت «الإخوان» جماعة سرية وصلت إلى الحكم ولكنها الآن عادت إلى العمل تنظيما سريا مرة أخرى، بعد عزل الرئيس محمد مرسي. إذا تخلصت من الإخوان المسلمين، وإذا كانت لديك حكومة استبدادية ومتطرفون فقط، من دون وجود الإخوان المسلمين في المنتصف، أعتقد أنك سوف تشهد ارتفاعا في أعداد المتطرفين.
* هل سيُغلق معتقل غوانتانامو يوما ما؟
- يجب أن يُغلق يوما ما. لقد مر على وجوده وقت طويل للغاية، وأصبح يمثل عقبة سياسية، ولم يعد هناك سبب حقيقي جيد لعدم الانتهاء من توزيع هؤلاء المحتجزين الذين لا سبب لوجودهم هناك، ثم محاكمة الآخرين.
* ما أصعب موقف واجهته في حياتك المهنية؟ هل استشعرت يوما بسبب طبيعة عملك أنك تحت رقابة الأجهزة الأمنية؟
- أول مرة ألحظ أن اتصالاتي الهاتفية كانت مراقبة من خلال مصدر لي في محطة «أليكس»، وهي محطة افتراضية لمتابعة ورصد تحركات بن لادن، وكانت مشتركة ما بين الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي. وقتها تلقيت اتصالا من أحد أقارب الظواهري يطلب مني معرفة ما إذا كانت بناته أحياء أم لا، لأنهم لم يكونوا يعلمون عنهن شيئا. وسألني القريب إذا كنت أستطيع البحث عن الأمر، فأخبرته أنني أستطيع أن أسأل، فاتصلت بعميل مسؤول عن ملف الظواهري في مكتب التحقيقات الفيدرالية، الذي أخبرني بوفاتهن، وهي معلومة خاطئة. فاتصلت بالقريب وأخبرته آسفا بأن بنات الظواهري توفين بعد ضربة «درون» في الشريط القبلي، وتسببت في حزن هؤلاء الأقارب من دون داعٍ. بعد فترة، كنت أتحدث مع مصدري في محطة بن لادن، وأخبرته أنني قمت بتلك المكالمة المؤسفة، فقال لي: «نعم، لقد رأيت نصها على جهازي منذ فترة». ظننت على الفور أن المصريين يراقبون عائلة الظواهري، ثم يمررون المكالمات الهاتفية إلى الاستخبارات الأميركية أو ما إلى ذلك من تفسيرات. هذا ما حدثتني نفسي به، ولكني بعد عدة شهور تلقيت اتصالا من مكتب التحقيقات الفيدرالي في أوستن حيث أقطن، يطلب فيه فريق عمل في مكافحة الإرهاب مقابلتي. كنت قد تحدثت مع مكتب التحقيقات الفيدرالي من قبل لأقدم لهم خلفية عن تاريخ «القاعدة» وما إلى ذلك، لهذا ظننت أن الأمر يتعلق بشيء من هذا القبيل. وعندما جاءوا إلى منزلي، كان شخص منهم يحمل حقيبة صغيرة فتحها، وأخرج منها بعض المواد، وبدأ يسألني: «هل تعرف.. ثم ذكر رقما». قلت إن ذلك الرقم يبدو في لندن. فنظرت إلى جهاز الكومبيوتر لدي ووجدت أنه رقم غاريت بيرس، المحامية التي تدافع عن كثير من الجهاديين الذين كنت أتحدث إليهم. كان الأمر متعلقا بطبيعة المحادثات التي أجريها مع عملائها، وكانت تطلب مني ألا أتحدث مع عملائها. لم تكن تريدني أن أتحدث مع أي منهم، ثم سألوني من هي كارولين رايت، فقلت إنها ابنتي. كانوا يعتقدون أنها الشخص الذي يجري هذه الاتصالات الهاتفية، وبدأت أفكر بشأن كيفية عمل مكتب التحقيقات الفيدرالية. إنهم يرسمون روابط متصلة، يرسمون في النهاية خطوات كثيرة ويقولون: «إنك تبعد عن تنظيم القاعدة بثلاث خطوات»، إذن فأنت داخل الدائرة، وسوف نضعك على قائمة الممنوعين من السفر، وإلا فسوف نتعقبك. قلت لهم: كيف وصلتم إلى اسم ابنتي، واسمها ليس مسجلا على هواتفي، وأدركت أنه لا بد أنهم يتنصتون على مكالماتي. وبمجرد أن بدأت في التساؤل عن ذلك وجدتهم قد أغلقوا الحقيبة الصغيرة وغادروا المنزل. ثم بدأت التفكير من جديد في الاتصال الهاتفي الذي جرى مع عائلة الظواهري، واتصلت بمصدري مرة أخرى، وسألته: هل كان ما قرأه «نصا لمحادثتي أم موجزا». وفي ذلك اختلاف مهم، نظرا لأنه في الولايات المتحدة، إذا كان مواطن أميركي متورطا في محادثة، فليس من المفترض أن تكشف عن هويته. لذلك تشير حقيقة أنهم حددوا هويتي إلى أمر ما. بالإضافة إلى ذلك، تقدم «ناسا» ملخصات بالمحادثات التي تجري فقط وليس نصا لها، وقد قال لي المصدر إنه قرأ الملخص، لذلك كان من الواضح أن «ناسا» تتنصت على مكالماتي. كانت هذه هي التجربة التي مررت بها، وانتابتني مشاعر مختلطة بشأنها، لأنهم خلطوا بين كل الأمور. يمكنني أن أتفهم تصورهم لأني على اتصال بأشخاص من «القاعدة»، وأني أود أن أتحدث مع أشخاص في «القاعدة»، فهذا هو عملي، وذلك هو عملهم.
* ما عدد المسرحيات التي كتبتها حتى اليوم.. وهل حققت «كامب ديفيد» النجاح المرجو؟
- كامب ديفيد، تدور المسرحية عن قمة 1978 التي جمعت بين جيمي كارتر وبيغن وأنور السادات وهؤلاء هم شخصيات المسرحية، بالإضافة إلى روزفلت وكارتر وزوجة جيمي كارتر. تتعلق المسرحية بثلاثة رجال يتميزون بأنهم شديدو التدين، اجتمعوا معا وأبرموا معاهدة السلام الوحيدة الدائمة في الشرق الأوسط، وتدور المسرحية عن كيفية حدوث ذلك.
استمر عرض المسرحية لمدة ستة أسابيع، وفي ليلة الافتتاح جاء الرئيس كارتر وزوجته وزوجة السادات. كنت أشعر بالقلق، لأن كارتر لم يكن قد قرأ المسرحية، ولم أعرف ما إذا كانت ستعجبه أم لا. كان ممثلو المسرحية يجدون الرئيس والشخصيات التي يؤدون أدوارها تجلس في الخارج وسط الجمهور، وبعد أن أسدل الستار، صعد الرئيس كارتر وزوجته وزوجة السادات على خشبة المسرح، واحتضنوا جميع الممثلين. وذهبت زوجة السادات إلى رون ريفكين، الذي أدى دور بيغن لتحيته وهي تناديه باسم «بيغن»!



كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
TT

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)

قبل 861 عاماً، نهضت كاتدرائية «نوتردام دو باريس» في قلب العاصمة الفرنسية. ومع مرور العقود والعصور تحوّلت إلى رمز لباريس، لا بل لفرنسا. ورغم الثورات والحروب بقيت «نوتردام» صامدة حيث هي، في قلب باريس وحارسة نهر السين الذي يغسل قدميها. إلا أن المأساة حلّت في شهر أبريل (نيسان) من عام 2019، عندما اندلع حريق هائل، التهمت نيرانه أقساماً رئيسة من الكاتدرائية التي انهار سقفها وتهاوى «سهمها»، وكان سقوطه مدوياً.

منظر للنافذة الوردية الجنوبية لكاتدرائية نوتردام دو باريس(رويترز)

حريق «نوتردام» كارثة وطنية

وكارثة «نوتردام» تحوّلت إلى مأساة وطنية، إذ كان يكفي النظر إلى آلاف الباريسيين والفرنسيين والسياح الذين تسمّروا على ضفتي نهر السين ليشهدوا المأساة الجارية أمام عيونهم. لكن اللافت كانت السرعة التي قررت فيها السلطات المدنية والكنسية مباشرة عملية الترميم، وسريعاً جدّاً، أطلقت حملة تبرعات.

وفي كلمة متلفزة له، سعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى شد أزر مواطنيه، مؤكداً أن إعادة بناء الكاتدرائية و«إرجاعها أجمل مما كانت» ستبدأ من غير تأخير. وأعلن تأسيس هيئة تشرف عليها، وأوكل المهمة إلى الجنرال جان لويس جورجولين، رئيس أركان القوات المسلحة السابق. وبدأت التبرعات بالوصول.

وإذا احتاجت الكاتدرائية لقرنين لاكتمال بنائها، فإن ترميمها جرى خلال 5 سنوات، الأمر الذي يعد إنجازاً استثنائياً لأنه تحول إلى قضية وطنية، لا بل عالمية بالنظر للتعبئة الشعبية الفرنسية والتعاطف الدولي، بحيث تحوّلت الكاتدرائية إلى رابطة تجمع الشعوب.

وتبين الأرقام التي نشرت حديثاً أن التبرعات تدفقت من 340 ألف شخص، من 150 دولة، قدّموا 846 مليون يورو، إلا أن القسم الأكبر منها جاء من كبار الممولين والشركات الفرنسية، ومن بينهم من أسهم بـ200 مليون يورو. ومن بين الأجانب المتبرعين، هناك 50 ألف أميركي، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وكان أحد الأسباب التي دفعته للمجيء إلى فرنسا؛ البلد الأول الذي يزوره بعد إعادة انتخابه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

متطوعون يضعون برنامج الحفل على المقاعد قبل الحفل (أ.ف.ب)

منذ ما يزيد على الشهر، تحوّلت الكاتدرائية إلى موضوع إلزامي في كل الوسائل الإعلامية. وخلال الأسبوع الحالي، حفلت الصحف والمجلات وقنوات التلفزة والإذاعات ببرامج خاصة تروي تاريخ الكاتدرائية والأحداث الرئيسة التي عاشتها في تاريخها الطويل.

وللدلالة على الأهمية التي احتلتها في الوعي الفرنسي، فإن رئيس الجمهورية زارها 7 مرات للاطلاع على التقدم الذي حققه المهنيون والحرفيون في إعادة البناء والترميم. وإذا كانت الكاتدرائية تجتذب قبل 2012 ما لا يقل عن 12 مليون زائر كل عام، فإن توقعات المشرفين عليها تشير إلى أن العدد سيصل العام المقبل إلى 15 مليوناً من كل أنحاء العالم.

المواطنون والسياح ينتظرون إفساح المجال للوصول الى ساحة الكاتدرائية (أ.ف.ب)

باريس «عاصمة العالم»

خلال هذين اليومين، تحوّلت باريس إلى «عاصمة العالم»، ليس فقط لأن قصر الإليزيه وجّه دعوات لعشرات من الملوك ورؤساء الدول والحكومات الذين حضر منهم نحو الخمسين، ولكن أيضاً لأن الاحتفالية حظيت بنقل مباشر إلى مئات الملايين عبر العالم.

وقادة الدول الذين قدّموا إلى «عاصمة النور» جاءوا إليها من القارات الخمس. وبسبب هذا الجمع الدولي، فإن شرطة العاصمة ووزارة الداخلية عمدتا إلى تشكيل طوق أمني محكم لتجنب أي إخلال بالأمن، خصوصاً أن سلطاتها دأبت على التحذير من أعمال قد تكون ذات طابع إرهابي. وإذا كان الرئيس الأميركي المنتخب قد حظي بالاهتمام الأكبر، ليس لأنه من المؤمنين المواظبين، بل لأنه يُمثل بلداً له تأثيره على مجريات العالم.

لكن في المقابل، تأسف الفرنسيون لأن البابا فرنسيس اعتذر عن تلبية الدعوة. والمثير للدهشة أنه سيقوم بزيارة جزيرة كورسيكا المتوسطية الواقعة على بُعد رمية حجر من شاطئ مدينة نيس اللازوردية، في 15 الشهر الحالي. والمدهش أيضاً أنه منذ أن أصبح خليفة القديس بطرس في روما، «المدينة الخالدة»، فإنه زار فرنسا مرتين، ثانيها كانت لمدينة مرسيليا الساحلية. بيد أنه لم يأتِ إلى باريس إطلاقاً. ووفق مصادر واسعة الاطلاع، فإن قرار البابا أحدث خيبة على المستويين الديني والرسمي. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى حدث تاريخي رئيس، وهو أن بابا روما بيوس السابع، قدم إلى باريس يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1804، لتتويج نابليون الأول إمبراطوراً.

وتمثل لوحة الرسام الفرنسي الشهير لوي دافيد، التي خلد فيها تتويج بونابرت، ما قام به الأخير الذي لم ينتظر أن يضع البابا التاج على رأسه، بل أخذه بيديه ووضعه بنفسه على رأسه، وكذلك فعل مع الإمبراطورة جوزفين.

احتفالية استثنائية

لم يساعد الطقس مساعدي الاحتفالية الذين خططوا لأن تكون من جزأين: الأول رسمي، ويجري في ساحة الكاتدرائية الأمامية؛ حيث يلقي الرئيس ماكرون خطابه المقدر من 15 دقيقة، وبعدها الانتقال إلى الداخل للجزء الديني. وكان مقدراً للمواطنين الـ40 ألفاً، إضافة إلى 1500 مدعو حظوا بالوجود داخل الكاتدرائية، أن يتابعوا الحدث من المنصات التي نصبت على ضفتي نهر السين، إلا أن الأمطار والعواصف التي ضربت باريس ومنطقتها أطاحت بالبرنامج الرئيس، إذ حصلت كل الاحتفالية بالداخل. بيد أن الأمطار لم تقض على شعور استثنائي بالوحدة والسلام غلب على الحاضرين، وسط عالم ينزف جراء تواصل الحروب، سواء أكان في الشرق الأوسط أم في أوكرانيا أم في مطارح أخرى من العالم المعذب. وجاءت لحظة الولوج إلى الكاتدرائية، بوصفها إحدى المحطات الفارقة، إذ تمت وفق بروتوكول يعود إلى مئات السنين. بدءاً من إعادة فتح أولريش لأبواب «نوتردام» الخشبية الكبيرة بشكل رمزي.

كاتدرائية «نوتردام» السبت وسط حراسة أمنية استعداداً لإعادة افتتاحها (إ.ب.ى)

وسيقوم بالنقر عليها 3 مرات بعصا مصنوعة من الخشب المتفحم الذي جرى إنقاذه من سقف الكاتدرائية الذي دمرته النيران، وسيعلن فتح الكاتدرائية للعبادة مرة أخرى. ونقل عن المسؤول عن الكاتدرائية القس أوليفييه ريبادو دوما أن «نوتردام»، التي هي ملك الدولة الفرنسية، ولكن تديرها الكنيسة الكاثوليكية «أكثر من مجرد نصب تذكاري فرنسي وكنز محبوب من التراث الثقافي العالم، لا بل هي أيضاً علامة على الأمل، لأن ما كان يبدو مستحيلاً أصبح ممكناً»، مضيفاً أنها أيضاً «رمز رائع».

الأرغن الضخم يحتوي على 8 آلاف مزمار تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام (أ.ف.ب)

كذلك، فإن تشغيل الأرغن الضخم الذي تم تنظيفه وتحضيره للمناسبة الاستثنائية، تم كذلك وفق آلية دقيقة. ففي حين ترتفع المزامير والصلوات والترانيم، فإنه جرى إحياء الأرغن المدوي، الذي صمت وتدهورت أوضاعه بسبب الحريق. ويحتوي الأرغن على 8 آلاف مزمار، تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام. وقام 4 من العازفين بتقديم مجموعة من الألحان بعضها جاء مرتجلاً.

إلى جانب الشقين الرسمي والديني، حرص المنظمون على وجود شق يعكس الفرح؛ إذ أدت مجموعة من الفنانين الفرنسيين والأجانب لوحات جميلة جديرة بالمكان الذي برز بحلة جديدة بأحجاره المتأرجحة بين الأبيض والأشقر وزجاجه الملون، وإرثه الذي تم إنقاذه من النيران وأعيد إحياؤه.

وبعد عدة أيام، سيُعاد فتح الكاتدرائية أمام الزوار الذي سيتدفقوة بالآلاف على هذا المعلم الاستثنائي.

حقائق

846 مليون يورو

تدفقت التبرعات من 340 ألف شخص من 150 دولة قدموا 846 مليون يورو لإعادة ترميم نوتردام