رايت: هاتفني أحد أقارب الظواهري فتجسست عليَّ الـ {اف.بي.آي}

الصحافي الأميركي أحد أبرز خبراء مكافحة الإرهاب أكد لـ {الشرق الأوسط} وجود يأس كبير بين المسلمين في الغرب يدفع أبناءهم إلى التطرف

لورانس رايت أمام مقر دار الصحافة العربية في العاصمة لندن (تصوير: جيمس حنا)  -  لورانس رايت
لورانس رايت أمام مقر دار الصحافة العربية في العاصمة لندن (تصوير: جيمس حنا) - لورانس رايت
TT

رايت: هاتفني أحد أقارب الظواهري فتجسست عليَّ الـ {اف.بي.آي}

لورانس رايت أمام مقر دار الصحافة العربية في العاصمة لندن (تصوير: جيمس حنا)  -  لورانس رايت
لورانس رايت أمام مقر دار الصحافة العربية في العاصمة لندن (تصوير: جيمس حنا) - لورانس رايت

يعتقد لورانس رايت الصحافي الأميركي الكاتب في مجلة «نيويوركر» المتخصص في الكتابة عن «القاعدة» ومؤلف كتاب «البروج المشيدة.. (القاعدة) والطريق إلى 11 سبتمبر» أن «داعش» لن تختفي من المشهد السياسي بسهولة، ويتميز رايت باللقطة الصحافية، فقد استمد عنوان كتابه الأشهر من الآية القرآنية «أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة» التي جاءت في رسالة بن لادن لمحمد عطا زعيم الانتحاريين في هجمات سبتمبر، وكان يقصد بها استهداف برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك.. كانت تلك إجابة الكاتب الأميركي رايت في حواره لصحيفة «الشرق الأوسط» حول سبب اختياره لعنوان كتابه الشهير «البروج المشيدة»، وقال رايت، إن بن لادن استخدم تلك الرسالة شفرة ملغزة تطلب من عطا أن يمضي في خطته المرسومة، مشيرا إلى استهداف برجي التجارة بنيويورك في سبتمبر 2011.
أمضى رايت 35 عاما من حياته المهنية في البحث وراء شخصية أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، وأجرى مقابلات مع أكثر من 500 شخص من أصدقاء وأقارب بن لادن ومسؤولين في 20 دولة، وخرج إلى العالم قبل ست سنوات بكتابه الذي حصل على جائزة «بوليتزر» (أرقى الجوائز الأميركية في الصحافة)، وعندما جاء إلى دار الصحافة العربية في العاصمة لندن قبل أيام، تحدث عن مسرحيته الأخيرة «كامب ديفيد»، التي عُرضت في الولايات المتحدة وحققت نجاحا على مدار ستة أسابيع متواصلة، وحضر عرضها الافتتاحي الرئيس الأسبق كارتر وزوجته وجيهان السادات قرينة الرئيس المصري الراحل.
وقال رايت: «كان الجميع يعتقد أنه كان رجلا ضعيفا ولن يستمر طويلا. سيبقى لوقت قصير حتى يأتي رئيس آخر قوي مكانه. ولكن السادات قلب الموازين. أثبت أنه الرئيس القوي»، وجاء معه الحوار على النحو التالي:

* لماذا يصبح من السهل على بعض المسلمين، أمثال أبو هريرة الأميركي والمتطرفين في بريطانيا وآسيا، التحول إلى مقاتلين؟
- أعتقد أن بعضا منهم، وخاصة في أوروبا، يجدون مجتمعات تضم جماعات ذات انتماء عرقي أو ديني مميز. في أميركا المجتمع أكثر اختلاطا. في أوروبا تجد جميع الأتراك يعيشون في ألمانيا وهكذا، بذلك يصبح لديك جاليات مختلفة من المسلمين الذين لا يتحدثون بلغة الدولة التي يعيشون بها جيدا أو لا يتحدثون بها على الإطلاق. على سبيل المثال، إذا كان شاب مسلم يعيش في بلجيكا أو فرنسا حيث توجد جالية مسلمة كبيرة، قد لا يتحدث الفرنسية أو الألمانية أو الهولندية، وربما أيضا لا يتحدث العربية جيدا. كذلك من الممكن أنه لم يزر مطلقا المغرب أو الجزائر موطنه الأم، لذا يكون تائها ويصبح دينه هو هويته، وكلما ازداد تطرفا نما لديه شعور بامتلاك الهوية. ولكني أعتقد أن هناك يأسا كبيرا داخل كثير من الدول المسلمة وفي الشتات الذي نراه بين المسلمين في الغرب، حيث يسري شعور بأنهم لم ينجحوا أو لم يتأقلموا، وأعتقد أن هذا يولّد نوعا من اليأس الانتحاري الذي نراه بين الشباب الذين يقتلون أنفسهم الآن.
* ما الجماعة الأخطر؛ «داعش» أم «النصرة» أم «القاعدة»؟
- في تقديري، الأمر الخطير بالفعل هو عدم وجود بديل، لأن كل من تلك الجماعات خطيرة، ولكنها لا تواجه مقاومة بالطريقة التي تحتاج إليها تلك الثقافات من أجل حماية ذاتها من داء التطرف. لا توجد حصانة كافية في العالم العربي والإسلامي في الوقت الراهن. يتنافس كل من تنظيمي «داعش» و«القاعدة» على الاستحواذ على أراضٍ تمتد من روسيا إلى المغرب. وأحيانا ما تجد التنظيمين موجودين على أرض دولة واحدة، وأحيانا أخرى في دول مختلفة، ولكن يجذب تنظيم «داعش» كثيرا من الشباب الذي يرغبون في الإيمان بفكره.
* متى تتوقع أن تختفي هذه الجماعات؟ بعد عشر سنوات أو 20 سنة؟
- لا أدري. لكي أكون صريحا ظننت أن هذا سوف يحدث بحلول الوقت الحالي، ولكن ثبت أنه أكثر قدرة على الاستمرار مما ظننت، وأعتقد أن ذلك يرجع إلى أن السبب الذي أدى إلى ظهور هذه الجماعات لم يتغير، وحتى تتخذ المجتمعات التي ظهرت بها تلك الجماعات بعض الإصلاحات وتحقق بعض التقدم، فسوف نستمر في مشاهدة التطرف وهو يخرج عبر الحدود.
إضافة إلى ذلك، كانت معلومات متناقضة ترد من أميركا بشأن «القاعدة» ومسلحيها، وأخبار عن أشخاص تقتلهم طائرات من دون طيار، ثم يتضح أنهم أحياء.
أعتقد أننا نبالغ باستمرار في تقدير حجم إمكانياتنا الاستخباراتية، وقد ثبت مرارا وتكرارا أننا لا نعلم الكثير عن الصراعات التي نخوضها.
* بعد كتابة العديد من المقالات والكتب، هل أصبحتَ تعرف كل شيء عن «القاعدة»؟
- لا، بالتأكيد لا أعرف، وكل شيء يتغير باستمرار كما ترى ما يحدث أمامنا.
* كم عدد الأشخاص الذين يتحدثون العربية في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أو مكتب التحقيقات الفيدرالية؟ وما قدراتهم اللغوية؟
- تمثل اللغة مشكلة حقيقة. لا أعرف ما إذا كان ذلك تغيرا، ولكن بعد أحداث 11 سبتمبر كان هناك عدد قليل ممن يجيدون التحدث بالعربية أو الأوردية أو الفارسية أو غيرها من أصحاب اللغة الأصليين. يوجد عدد كبير منهم في الولايات المتحدة، وكل من هؤلاء الناطقين بلغاتهم الأصلية لديه جالية كبيرة، ولكن لا يثق بهم مجتمع الاستخبارات الأميركي. أحد الأبطال الذين تحدثت عنهم في كتابي اسمه علي سفيان، وهو مولود في بيروت ويتحدث العربية وهي لغته الأم، ولكني في الوقت الحالي لا أدري إن كان يستطيع الحصول على الوظيفة في مكتب التحقيقات الفيدرالية في ظل التحيز ضد الأميركيين المولودين في الخارج، ولكن ذلك يلحق بنا ضررا. بالتأكيد لا أعرف، وكل شيء يتغير باستمرار كما ترى ما يحدث أمامنا.
* هل أصبح الغرب أكثر معرفة بالمسلمين والإسلام في الوقت الحالي؟
- نعم، بالطبع، انظر إلى لندن، عندما بدأت في المجيء إلى هنا مراسلا شابا، لم أكن أرى سيدة واحدة محجبة، والآن نراهم في كل مكان، لذلك يعرفهم الناس جيدا، ويرجع الأمر في الغالب إلى اضطرار عدد كبير من المسلمين إلى الفرار من بلدانهم والسعي إلى الإقامة في الغرب. تسبب ذلك في إثارة توترات كثيرة، ولكنهم في المقابل جاءوا إلى مناطق يمكنهم الحصول على عمل بها، في حين أنهم لا يستطيعون العمل في أوطانهم، وهم هنا أكثر حرية في أن يكونوا كما يريدون. وربما يؤثر ذلك في النهاية على سكان الدول التي غادروها.
* من وجهة نظركم.. هل يمكن أن تختفي جماعة الإخوان المسلمين نهائيا من مصر؟
- أولا وقبل أي شيء، ازدهرت جماعة الإخوان لأنها كانت السبيل الوحيدة أمام كثير من المصريين للاحتجاج ضد الحكومة، ثم نشأ مزيد من الحركات الراديكالية بعد ذلك، انظر مثلا إلى الظواهري الذي كان يكره «الإخوان». كانت هناك حكومة، ثم تظاهر الإسلاميون ضدها، وكانوا الوحيدين الذين يملكون الجرأة للوقوف ضدها. كانت «الإخوان» جماعة سرية وصلت إلى الحكم ولكنها الآن عادت إلى العمل تنظيما سريا مرة أخرى، بعد عزل الرئيس محمد مرسي. إذا تخلصت من الإخوان المسلمين، وإذا كانت لديك حكومة استبدادية ومتطرفون فقط، من دون وجود الإخوان المسلمين في المنتصف، أعتقد أنك سوف تشهد ارتفاعا في أعداد المتطرفين.
* هل سيُغلق معتقل غوانتانامو يوما ما؟
- يجب أن يُغلق يوما ما. لقد مر على وجوده وقت طويل للغاية، وأصبح يمثل عقبة سياسية، ولم يعد هناك سبب حقيقي جيد لعدم الانتهاء من توزيع هؤلاء المحتجزين الذين لا سبب لوجودهم هناك، ثم محاكمة الآخرين.
* ما أصعب موقف واجهته في حياتك المهنية؟ هل استشعرت يوما بسبب طبيعة عملك أنك تحت رقابة الأجهزة الأمنية؟
- أول مرة ألحظ أن اتصالاتي الهاتفية كانت مراقبة من خلال مصدر لي في محطة «أليكس»، وهي محطة افتراضية لمتابعة ورصد تحركات بن لادن، وكانت مشتركة ما بين الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي. وقتها تلقيت اتصالا من أحد أقارب الظواهري يطلب مني معرفة ما إذا كانت بناته أحياء أم لا، لأنهم لم يكونوا يعلمون عنهن شيئا. وسألني القريب إذا كنت أستطيع البحث عن الأمر، فأخبرته أنني أستطيع أن أسأل، فاتصلت بعميل مسؤول عن ملف الظواهري في مكتب التحقيقات الفيدرالية، الذي أخبرني بوفاتهن، وهي معلومة خاطئة. فاتصلت بالقريب وأخبرته آسفا بأن بنات الظواهري توفين بعد ضربة «درون» في الشريط القبلي، وتسببت في حزن هؤلاء الأقارب من دون داعٍ. بعد فترة، كنت أتحدث مع مصدري في محطة بن لادن، وأخبرته أنني قمت بتلك المكالمة المؤسفة، فقال لي: «نعم، لقد رأيت نصها على جهازي منذ فترة». ظننت على الفور أن المصريين يراقبون عائلة الظواهري، ثم يمررون المكالمات الهاتفية إلى الاستخبارات الأميركية أو ما إلى ذلك من تفسيرات. هذا ما حدثتني نفسي به، ولكني بعد عدة شهور تلقيت اتصالا من مكتب التحقيقات الفيدرالي في أوستن حيث أقطن، يطلب فيه فريق عمل في مكافحة الإرهاب مقابلتي. كنت قد تحدثت مع مكتب التحقيقات الفيدرالي من قبل لأقدم لهم خلفية عن تاريخ «القاعدة» وما إلى ذلك، لهذا ظننت أن الأمر يتعلق بشيء من هذا القبيل. وعندما جاءوا إلى منزلي، كان شخص منهم يحمل حقيبة صغيرة فتحها، وأخرج منها بعض المواد، وبدأ يسألني: «هل تعرف.. ثم ذكر رقما». قلت إن ذلك الرقم يبدو في لندن. فنظرت إلى جهاز الكومبيوتر لدي ووجدت أنه رقم غاريت بيرس، المحامية التي تدافع عن كثير من الجهاديين الذين كنت أتحدث إليهم. كان الأمر متعلقا بطبيعة المحادثات التي أجريها مع عملائها، وكانت تطلب مني ألا أتحدث مع عملائها. لم تكن تريدني أن أتحدث مع أي منهم، ثم سألوني من هي كارولين رايت، فقلت إنها ابنتي. كانوا يعتقدون أنها الشخص الذي يجري هذه الاتصالات الهاتفية، وبدأت أفكر بشأن كيفية عمل مكتب التحقيقات الفيدرالية. إنهم يرسمون روابط متصلة، يرسمون في النهاية خطوات كثيرة ويقولون: «إنك تبعد عن تنظيم القاعدة بثلاث خطوات»، إذن فأنت داخل الدائرة، وسوف نضعك على قائمة الممنوعين من السفر، وإلا فسوف نتعقبك. قلت لهم: كيف وصلتم إلى اسم ابنتي، واسمها ليس مسجلا على هواتفي، وأدركت أنه لا بد أنهم يتنصتون على مكالماتي. وبمجرد أن بدأت في التساؤل عن ذلك وجدتهم قد أغلقوا الحقيبة الصغيرة وغادروا المنزل. ثم بدأت التفكير من جديد في الاتصال الهاتفي الذي جرى مع عائلة الظواهري، واتصلت بمصدري مرة أخرى، وسألته: هل كان ما قرأه «نصا لمحادثتي أم موجزا». وفي ذلك اختلاف مهم، نظرا لأنه في الولايات المتحدة، إذا كان مواطن أميركي متورطا في محادثة، فليس من المفترض أن تكشف عن هويته. لذلك تشير حقيقة أنهم حددوا هويتي إلى أمر ما. بالإضافة إلى ذلك، تقدم «ناسا» ملخصات بالمحادثات التي تجري فقط وليس نصا لها، وقد قال لي المصدر إنه قرأ الملخص، لذلك كان من الواضح أن «ناسا» تتنصت على مكالماتي. كانت هذه هي التجربة التي مررت بها، وانتابتني مشاعر مختلطة بشأنها، لأنهم خلطوا بين كل الأمور. يمكنني أن أتفهم تصورهم لأني على اتصال بأشخاص من «القاعدة»، وأني أود أن أتحدث مع أشخاص في «القاعدة»، فهذا هو عملي، وذلك هو عملهم.
* ما عدد المسرحيات التي كتبتها حتى اليوم.. وهل حققت «كامب ديفيد» النجاح المرجو؟
- كامب ديفيد، تدور المسرحية عن قمة 1978 التي جمعت بين جيمي كارتر وبيغن وأنور السادات وهؤلاء هم شخصيات المسرحية، بالإضافة إلى روزفلت وكارتر وزوجة جيمي كارتر. تتعلق المسرحية بثلاثة رجال يتميزون بأنهم شديدو التدين، اجتمعوا معا وأبرموا معاهدة السلام الوحيدة الدائمة في الشرق الأوسط، وتدور المسرحية عن كيفية حدوث ذلك.
استمر عرض المسرحية لمدة ستة أسابيع، وفي ليلة الافتتاح جاء الرئيس كارتر وزوجته وزوجة السادات. كنت أشعر بالقلق، لأن كارتر لم يكن قد قرأ المسرحية، ولم أعرف ما إذا كانت ستعجبه أم لا. كان ممثلو المسرحية يجدون الرئيس والشخصيات التي يؤدون أدوارها تجلس في الخارج وسط الجمهور، وبعد أن أسدل الستار، صعد الرئيس كارتر وزوجته وزوجة السادات على خشبة المسرح، واحتضنوا جميع الممثلين. وذهبت زوجة السادات إلى رون ريفكين، الذي أدى دور بيغن لتحيته وهي تناديه باسم «بيغن»!



كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
TT

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)

سواء في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط راهناً، لعب الإعلام دوراً مثيراً للجدل، وسط اتهامات بتأطير مخاتل للصراعات، وصناعة سرديات وهمية.

هذا الدور ليس بجديد على الإعلام، حيث وثَّقته ورصدته دراسات دولية عدة، «فلطالما كانت لوسائل الإعلام علاقة خاصة بالحروب والصراعات، ويرجع ذلك إلى ما تكتسبه تلك الحروب من قيمة إخبارية بسبب آثارها الأمنية على الجمهور»، حسب دراسة نشرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2000.

الدراسة أوضحت أن «الصراع بمثابة الأدرينالين في وسائل الإعلام. ويتم تدريب الصحافيين على البحث عن الخلافات والعثور على الحرب التي لا تقاوم. وإذا صادفت وكانت الحرب مرتبطة بهم، يزداد الحماس لتغطيتها».

لكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بدور وسائل الإعلام في نقل ما يدور من أحداث على الأرض، بل بترويج وسائل الإعلام لروايات بعضها مضلِّل، مما «قد يؤثر في مجريات الحروب والصراعات ويربك صانع القرار والمقاتلين والجمهور والمراقبين»، حسب خبراء وإعلاميين تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، وأشاروا إلى أن «الإعلام في زمن الحروب يتخندق لصالح جهات معينة، ويحاول صناعة رموز والترويج لانتصارات وهمية».

يوشنا إكو

حقاً «تلعب وسائل الإعلام دوراً في الصراعات والحروب»، وفق الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، الذي قال إن «القلم أقوى من السيف، مما يعني أن السرد حول الحروب يمكن أن يحدد النتيجة».

وأشار إلى أن قوة الإعلام هي الدافع وراء الاستثمار في حرب المعلومات والدعاية»، ضارباً المثل بـ«الغزو الأميركي للعراق الذي استطاعت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش تسويقه للرأي العام الأميركي باستخدام وسائل الإعلام».

وأضاف إكو أن «وسائل الإعلام عادةً ما تُستخدم للتلاعب بسرديات الحروب والصراعات للتأثير في الرأي العام ودفعه لتبني آراء وتوجهات معينة»، مشيراً في هذا الصدد إلى «استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائل الإعلام لتأطير الحرب ضد أوكرانيا، وتصويرها على أنها عملية عسكرية وليست حرباً».

لكنَّ «الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي أحيان أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مناقضاً»، حسب إكو، الذي يشير هنا إلى دور الإعلام «في تشويه سمعة الحرب الأميركية في فيتنام مما أجبر إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالخسارة ووقف الحرب».

وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عُقدت الحلقة الدراسية الإعلامية الدولية الثلاثية للأمم المتحدة حول السلام في الشرق الأوسط بجنيف، لبحث التحديات في متابعة «حرب غزة». وأشارت المناقشات إلى «تأطير الإعلام إسرائيل على أنها بطل للرواية، حيث تكون إسرائيل هي الأخيار وفلسطين وحماس الأشرار»، ولفتت المناقشات إلى أزمة مماثلة خلال تغطية الحرب الروسية - الأوكرانية. وقالت: «من شأن العناوين الرئيسية في التغطية الإعلامية أن تترك المرء مرتبكاً بشأن الوضع الحقيقي على الأرض، فلا سياق للأحداث».

ستيفن يونغبلود

وهنا، يشير مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمية» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، ستيفن يونغبلود، إلى أن «الصحافيين يُدفعون في أوقات الحروب إلى أقصى حدودهم المهنية والأخلاقية». وقال: «في هذه الأوقات، من المفيد أن يتراجع الصحافي قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويتمعن في كيفية تغطية الأحداث، والعواقب المترتبة على ذلك»، لافتاً في هذا الصدد إلى «صحافة السلام بوصفها وسيلة قيمة للتأمل الذاتي». وأضاف أن «الإعلام يلعب دوراً في تأطير الحروب عبر اعتماد مصطلحات معينة لوصف الأحداث وإغفال أخرى، واستخدام صور وعناوين معينة تخدم في العادة أحد طرفي الصراع».

وتحدث يونغبلود عن «التباين الصارخ في التغطية بين وسائل الإعلام الغربية والروسية بشأن الحرب في أوكرانيا»، وقال إن «هذا التباين وحرص موسكو على نشر سرديتها على الأقل في الداخل هو ما يبرر تأييد نحو 58 في المائة من الروس للحرب».

أما على صعيد «حرب غزة»، فيشير يونغبلود إلى أن «أحد الأسئلة التي كانت مطروحة للنقاش الإعلامي في وقت من الأوقات كانت تتعلق بتسمية الصراع هل هو (حرب إسرائيل وغزة) أم (حرب إسرائيل وحماس)؟». وقال: «أعتقد أن الخيار الأخير أفضل وأكثر دقة».

ويعود جزء من السرديات التي تروجها وسائل الإعلام في زمن الحروب إلى ما تفرضه السلطات عليها من قيود. وهو ما رصدته مؤسسة «مراسلون بلا حدود»، في تقرير نشرته أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أشارت فيه إلى «ممارسة إسرائيل تعتيماً إعلامياً على قطاع غزة، عبر استهداف الصحافيين وتدمير غرف الأخبار، وقطع الإنترنت والكهرباء، وحظر الصحافة الأجنبية».

خالد القضاة

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، يرى أن «الدول والمنظمات التي تسعى لفرض الإرادة بقوة السلاح، عادةً ما تبدأ حروبها بالإعلام». وأوضح أن «الإعلام يُستخدم لتبرير الخطوات المقبلة عبر تقديم سرديات إما مشوَّهة وإما مجتزَأة لمنح الشرعية للحرب».

وقال: «في كثير من الأحيان تُستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بالحقائق والشخوص وشيطنة الطرف الآخر وإبعاده عن حاضنته الشعبية»، وأشار إلى أن ذلك «يكون من خلال تبني سرديات معينة والعبث بالمصطلحات باستخدام كلمة عنف بدلاً من مقاومة، وأرض متنازع عليها بدلاً من محتلة».

وأضاف القضاة أن «تأطير الأحداث يجري أيضاً من خلال إسباغ سمات من قبيل: إرهابي، وعدو الإنسانية، على أحد طرفَي الصراع، ووسم الآخر بـ: الإصلاحي، والمدافع عن الحرية، كل ذلك يترافق مع استخدام صور وعناوين معينة تُسهم في مزيد من التأطير»، موضحاً أن «هذا التلاعب والعبث بسرديات الحروب والصراعات من شأنه إرباك الجمهور والرأي العام وربما التأثير في قرارات المعارك ونتائجها».

ولفت إلى أنه «قياساً على الحرب في غزة، يبدو واضحاً أن هذا التأطير لتغليب السردية الإسرائيلية على نظيرتها في الإعلام الغربي». في الوقت نفسه أشار القضاة إلى «إقدام الإعلام على صناعة رموز والحديث عن انتصارات وهمية وزائفة في بعض الأحيان لخدمة سردية طرف معين، وبث روح الهزيمة في الطرف الآخر».

منازل ومبانٍ مدمَّرة في مخيم المغازي للاجئين خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة (إ.ب.أ)

كان «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» قد أشار في تقرير نشره في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إلى أن «اللغة التحريضية لتغطية وسائل الإعلام الأميركية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤثر في تصور المجتمعات المختلفة بعضها لبعض ويمكن أن تكون سبباً لأعمال الكراهية». وأضاف: «هناك تحيز في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة رد فعل عاطفي، بدلاً من تقديم رؤية حقيقية للأحداث».

حسن عماد مكاوي

عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور حسن عماد مكاوي، يرى أن «توظيف الدول وأجهزة الاستخبارات لوسائل الإعلام أمر طبيعي ومتعارف عليه، لا سيما في زمن الحروب والصراعات». وقال إن «أحد أدوار الإعلام هو نقل المعلومات التي تؤثر في اتجاهات الجماهير لخدمة أهداف الأمن القومي والسياسة العليا». وأضاف أن «وسائل الإعلام تلعب هذا الدور بأشكال مختلفة في كل دول العالم، بغضّ النظر عن ملكيتها، وانضمت إليها حديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري توظيف شخصيات تبدو مستقلة للعب نفس الدور ونقل رسائل الدولة أو الحكومة».

وأشار مكاوي إلى أن «هذه العملية لا تخلو من ترويج الشائعات ونشر أخبار مضللة، والتركيز على أمور وصرف النظر عن أخرى وفق أهداف محددة مخططة بالأساس». وضرب مثلاً بـ«حرب غزة» التي «تشهد تعتيماً إعلامياً من جانب إسرائيل لنقل رسائل رسمية فقط تستهدف تأطير الأحداث في سياق معين».