«حركة الشباب» وهجوم نيروبي

سلاح رخيص وعمليات وحشية

ترفوسو نيبوكو إحدى ضحايا الهجوم الإرهابي على مجمع الفنادق الفخم في نيروبي منتصف الشهر (أ.ف.ب)
ترفوسو نيبوكو إحدى ضحايا الهجوم الإرهابي على مجمع الفنادق الفخم في نيروبي منتصف الشهر (أ.ف.ب)
TT

«حركة الشباب» وهجوم نيروبي

ترفوسو نيبوكو إحدى ضحايا الهجوم الإرهابي على مجمع الفنادق الفخم في نيروبي منتصف الشهر (أ.ف.ب)
ترفوسو نيبوكو إحدى ضحايا الهجوم الإرهابي على مجمع الفنادق الفخم في نيروبي منتصف الشهر (أ.ف.ب)

تواصل حركة الشباب الصومالية نشاطاتها الإرهابية في دول شرق القارة الأفريقية؛ حيث تمكنت من تنفيذ هجوم نوعي بالعاصمة الكينية، نيروبي يوم 15 و16 يناير (كانون الثاني) الجاري. وقد استهدف الهجوم مجمعا ضخما يضم مكاتب وفندق «دوسيت»؛ وأسفرت العملية التي نفذها أربعة من مقاتلي حركة الشباب، عن قتل 21 شخصا، من بينهم مواطنون، أجانب وغربيين. كما أصيب العديد في هذا الهجوم بجروح مختلفة.
تأتي العمليات الإرهابية في سياق يشهد فيه التنظيم الصومالي المتطرف الموالي للقاعدة، تناميا وتوسعا في نشاطاته الإجرامية، داخليا، وخارجيا.
كما أن استهداف هذه المنطقة بنيروبي، يشير إلى إصرار «حركة الشباب» على الاستمرار في حربها التي أعلنتها ضد كينيا منذ 2011؛ والتي بدأتها بالهجوم الوحشي في 2013. على مركز «ويستغيت» للتسوق بالعاصمة، وأدى إلى مقتل 67. وأتبعه التنظيم الإرهابي بهجوم في أبريل (نيسان) سنة 2015، على جامعة غارسيا شرقي كينيا قتل فيه 148 شخصا، أغلبهم طلبة.

أسلحة الإرهابيين
وبحسب تقرير نشر يوم 21 يناير 2019. بموقع «كاليبر اوبسكورا» المختص بالأسلحة. فإن الهجوم الذي تعرض له مجمع فنادق «دوسيت دي 2» في ويستلاندس بنيروبي؛ أثبت أن هناك تحسنا في التخطيط الأمني من القوات الحارسة للمجمع، مما قلل من عدد الضحايا، مقارنة مع هجومي سنة 2013 و2015. كما أن هذا التطور الأمني، للسلطات الكينية، تم بلوغه بمساهمة من المملكة المتحدة.
ويشير التقرير المشار إليه أعلاه؛ إلى أن المهاجمين، استعملوا بنادق هجومية من طراز «إيه. ك»، كما توضح ذلك بعض لقطات كاميرات المراقبة. وفي الواقع، فإن هذا النوع من البندقية الصينية يحمل رمز 56 - 2؛ وهو من عائلة نوع (نوع 56 - 1 مع مخزون جانبي قابل للطي، ونوع أصلي 56 مع مخزون خشبي ثابت)؛ هذه الأنواع مجتمعة، شائعة الاستعمال في جميع أنحاء الصومال، لأن هذا السلاح رخيص ومتوفر.
يشار إلى أن نوع 56 - 2 هي بنادق أرخص من «إيه ك إم»؛ وربما تم بيعها على نطاق أوسع في أفريقيا أكثر من النموذج الأصلي لها. ويتم تصنيعها في مصانع مختلفة من قبل شركة الأسلحة «نورينكو». ويستمر الإنتاج اليوم لكونه سلاحاً نارياً منخفض التكلفة وموثوقاً به. وليس من المستغرب أن تختار حركة الشباب استخدام هذا السلاح في هجومها. كما استعمل في الهجوم بندقية من نوع «إيه ك 63 دي» المجرية.
ومع ذلك، هذه البندقية وغيرها من الأسلحة لا يعرف كيف تصل للجماعات الإرهابية؛ ولا كيف يتم إجراء بعض التعديلات الطفيفة عليها، لتكون أكثر سهولة للاستعمال. ويمكن ملاحظة كون بنادق المهاجمين، أجريت لها تعديلات لتقصيرها، ربما لتسهيل التعامل مع البندقية في قتال عنيف، وسريع. ومن المثير للفضول أن هناك أمثلة على الإنترنت «إيه ك 63 دي» معدلة بنفس الطريقة التي تمت على بندقية الإرهابيين، في هجوم فندق «دوسيت»، يوم 15 يناير 2019.
في هذه العملية الإرهابية، استعملت كذلك 6 مخازن معيارية من طراز «إيه. ك». بجوار البنادق؛ ويمكن لكل منها حمل 30 طلقة من الذخيرة، ويتم تلصيقها معاً في أزواج. وتستخدم هذه التقنية في جميع أنحاء العالم، العديد من الجماعات المسلحة، وكذلك بعض الجيوش وقوات الشرطة. كما أن هذا الأسلوب شائع، ويستخدم لتغييرات مخزن البندقية السريعة، في القتال السريع، وبالمناطق الحضرية. إن استخدام هذا الأسلوب يوحي ببعض الخبرة في القتال. ولكن قد يكون أيضاً مجرد حالة من اتباع التقاليد العسكرية التي مارسها، المجاهدون في أفغانستان، واستمرت إلى يومنا هذا.
أما من ناحية اللباس العسكري الذي يستخدمه مقاتلو حركة الشباب الصومالية الإرهابية. فهو سلعة رخيصة الثمن، تشبه إلى حد كبير ما يمكن العثور عليه في مواقع التسوق؛ وهذا ما يجعلها قابلة لتصنيعها في الصومال، أو كينيا. ورغم ذلك وبصرف النظر عن نوعيته المنخفضة والتصميم البسيط عسكريا؛ يبدو أن هذا الزي العسكري، قادر على حمل ما لا يقل عن ستة مخازن للبندقية من طراز «إيه. ك»، وخمس قنابل يدوية.
وبحسب تقرير موقع «كاليبر اوبسكورا»، فإن هذا من شأنه أن يعطي كل مهاجم، على افتراض أن لديهم أيضا مخزنا، في بنادقهم؛ القدرة على حمل ما لا يقل عن 240 طلقة، فضلا عن القنابل اليدوية - دون عد أي ذخيرة أخرى حملت. ويبدو أن استعمال هذه الأدوات القتالية، والذخيرة؛ يدل على أن المهاجمين كانوا مستعدين لخوض معركة طويلة ومميتة، على غرار هجوم 2013.
وفيما يخص القنابل اليدوية، أشار التقرير أن مقاتلي حركة الشباب استعملوا قنابل من نوع «إف 1» التي أنتجها الاتحاد السوفياتي منذ 1941؛ لكنها أجرت عليها تعديلا، بإضافة صمامات تعود لقنابل يدوية. وهي قنابل يدوية بلجيكية حديثة وفعالة، تستخدم حاليا من قبل الجيش البلجيكي، وجيوش أخرى.

القتال ضد الإرهاب
ومن الواضح أن العملية الأخيرة في نيروبي، اختارت المكان بعناية، وقصد التنظيم الإرهابي، من ذلك توجيه رسائل محددة، لدول الجوار الصومالي، ولكينيا خاصة. كما أن هذا الاختيار المكاني، تريد من خلاله «حركة الشباب»، التأكيد على قدرتها على الوصول إلى واحدة من أهم المناطق بالعاصمة نيروبي. ويعتبر ديفيد غولدمان، وهو مدير مركز الاستخبارات الاستراتيجي، أن هذا «الاختراق»، الذي حققه التنظيم الإرهابي، نقطة سلبية، تستلزم بذل مزيد من الجهود الأمنية الكينية.
ذلك أن «دوسيت دي 2» الذي تسلل إليه أربعة من مقاتلي حركة الشباب؛ وهو مجمع فندقي فريد من نوعه في منطقة ريفرسايد في ويستلاندز في نيروبي، ويضم مكاتب عدة لشركات متعددة الجنسيات ومنظمات غير حكومية ومنظمات مرموقة أخرى... كما أنه قريب من فندق «كيمبنسكي» حيث يقيم العديد من رؤساء الدول الذين يزورون جمهورية كينيا. والأبرز من ذلك، هو أن «دوسِيت» يبعد نحو 4 كيلومترات عن القصر الرئاسي الكيني. من جانب آخر، يقع المجمع على بعد مسافة قصيرة سيراً على الأقدام من السفارة الأسترالية في نيروبي. مما يجعل فندق دوسيت 2 ومجمع المكاتب الراقي مكان عمل، وإقامة مناسب لعدد كبير من المغتربين والموظفين في هذه المؤسسات، المشار إليها.
ويبدو أن هذه العملية الوحشية لتنظيم «الشباب»، قد تساعد على تغيير جزء من السياسة الأميركية لمحاربة الإرهاب بأفريقيا؛ فقد أعلنت إدارة ترمب عن عزمها سحب 10 في المائة من قواتها العاملة في هذا المجال بالقارة. ففي الوقت الذي اعتبرت إدارة ترمب، أنه حان الوقت لخفض الوجود العسكري الأميركي بالصومال؛ بذريعة أن تنظيم «حركة الشباب» لم يعد يشكل خطرا حقيقيا، على الأمن القومي الأميركي، ولا على الدول المجاورة للصومال، وأن الهجمات الجوية الأميركية أضعفت التنظيم، بقتل العديد من قيادات التنظيم. جاءت عملية نيروبي، لتكشف خطورة تنظيم الشباب في المنطقة.
كما أن هذا الحادث الإرهابي، يعطي مصداقية، ودعما أكبر، لوجهة نظر لجنرالات بالجيش الأميركي، الذين رفضوا فكرة تخفيض القوات، الخاصة بالإرهاب. حيث اعتبروا أن سحب 700 جندي من أصل 7200 المنتشرين بالقارة السمراء، يضعف من قدرات الولايات المتحدة في مواجهة التنظيمات الإرهابية. في الوقت الذي تزداد قوة هذه التنظيمات الإرهابية الأفريقية، مع هزيمة «داعش» بالعراق، وسوريا، وفرار العديد من القيادات الإرهابية إلى مناطق التوتر بالقارة السمراء. وفي سياق مراجعة «واشنطن لسياستها المتعلقة بحركة الشباب وبتخفيض الوجود العسكري بالصومال والقارة الأفريقية؛ أعلنت الإدارة الأميركية بعد الهجوم على فندق دوسيت بنيروبي والذي خلف 21 قتيلا، أن أميركا سترسل قوات جديدة إلى الصومال للمشاركة في الحرب على حركة الشباب، في الأسبوع الأخير من يناير الجاري». ومن المرتقب أن يصل 130 جنديا أميركيا جديدا يتمركزون بولاية نيوجيرسي، إلى القاعدة العسكرية الأميركية بالصومال، لينضموا لنحو 500 من زملائهم، العاملين في مجال مكافحة التنظيمات الإرهابية بالصومال، وتدريب القوات المحلية والأفريقية هناك. يشار أن القوات الأميركية تتخذ من قاعدة «بلي دوغلي»، في إقليم شبيلي السفلى بجوار مقديشو العاصمة، قاعدة رئيسية، تنطلق منها. وهذا ما ساعدها على تنفيذ غارات جوية نوعية، وصلت لنحو 15 غارة عام 2016 وارتفعت إلى 35 غارة في 2017. لتصل إلى47 في 2018. أما الشهر الأول من 2019 فقد سجل أكثر من 6 هجمات جوية على تنظيم الشباب بالصومال.

مذبحة حقيقية
وفي الخلاصة يمكن القول بأن إرهابيي «حركة الشباب» الذين هاجموا مجمع «فندق دوسيت دي 2» قد تم تنظيمهم وإعدادهم لحدث مهم بالنسبة للتنظيم الإرهابي؛ وهو ما ترجمته طريقة التسلل للمكان، حيث لم تتمكن القوى الأمنية من رصد الخلية المهاجمة. والتي اجتازت الحواجز الأمنية دون رصد للمسدسات والبنادق والقنابل اليدوية المخزنة في سيارة أعدت للتفجير في حالة وجود مانع يحول دون اقتحام المجمع.
ومن الواضح أن رسائل الهجوم كانت متعددة، لذلك كانت الشباب تستهدف ارتكاب مذبحة حقيقية، انتقاما من كينيا ودورها في الصومال.
ومن الغريب أن المهاجمين من «حركة الشباب» اختاروا عدم ارتداء الدروع الواقية من الرصاص... ويمكن تفسير ذلك بطبيعة القناعات القتالية لأفراد الجماعات الإرهابية، والتي تمجد التضحية بالنفس؛ كما يمكن ربط ذلك بالاستعدادات والتدريبات القتالية للمهاجمين، والذين تدفعهم الثقة بالنفس، والرغبة في الانتحار، إلى الانغماس الكلي في أي معركة قتالية يخوضونها.
- أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس - الرباط



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟