قضية الصدر: 4 عقود من التعثّر القضائي والاتهامات السياسية

توتر في العلاقات اللبنانية ـ الليبية إنعكس خلافات في بيروت

قضية الصدر: 4 عقود من التعثّر القضائي والاتهامات السياسية
TT

قضية الصدر: 4 عقود من التعثّر القضائي والاتهامات السياسية

قضية الصدر: 4 عقود من التعثّر القضائي والاتهامات السياسية

صحيح أن العلاقات اللبنانية ـ الليبية مرّت بمراحل صعبة جداً في عهد الزعيم الليبي الراحل معمّر القذافي، نتيجة اختفاء المرجع الديني الشيعي الإمام موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عبّاس بدر الدين خلال زيارة رسمية للعاصمة الليبية طرابلس أواخر شهر أغسطس (آب) من عام 1978، واتهام نظام القذافي بخطفهم وحجز حريتهم، لكنّها لم تبلغ هذا الدرك الذي بلغته الآن؛ إذ إنه يلامس قطع العلاقات نهائياً بين البلدين وفق ما لوّحت به السلطات الليبية، رداً على إنزال علم الثورة في بيروت وإحراقه، ورفع علم حركة «أمل» مكانه، وتحميل المكوّنات الليبية المتناحرة أصلاً وزر ما ارتكبه النظام البائد.
اندفاعة مناصري «أمل» إلى الشارع وتلويحهم بالتصعيد الشعبي فور وصول الوفد الليبي إلى بيروت للمشاركة في القمة العربية الاقتصادية، قد تكون بالنسبة للبعض أمراً مفهوماً أو مبرّراً، ويمكن ضبطه أو الحدّ من فاعلية تحرّكه من قبل الأجهزة الأمنية المولجة حماية أمن القمّة وسلامة الوفود المشاركة. غير أن ما أثار القلق والريبة، المواقف التصعيدية التي صدرت عن رئيس السلطة التشريعية نبيه برّي (رئيس حركة أمل)، والرسائل التي وجهها ليس ضدّ ليبيا ووفدها فحسب، بل وصلت إلى التهديد بـ«6 شباط (فبراير) سياسية»، شبيهة بانتفاضة «6 شباط» العسكرية، التي قادها في عام 1984 لإسقاط اتفاق «17 أيار (مايو)» الذي أبرم مع الجانب الإسرائيلي غداة اجتياح لبنان في عام 1982.

رغم تحوّل جريمة اختفاء رجل الدين الشيعي السيد موسى الصدر إلى قضية وطنية، تعني جميع اللبنانيين وليس الطائفة الشيعية وحدها، فإنه ربما يتفهّم اللبنانيون مغالاة حركة «أمل» في حمل قضية الصدر، لكونه مؤسسها. إلا إنّ الاستعراضات في الشارع وإطلاق شعارات لطالما استخدمت في زمن الحرب، أيقظت في عقول الناس مشاهد استفزازية توحي برغبة البعض في هزّ الاستقرار الأمني، بتغطية دينية وسياسية، عبر البيان الصادر عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، الذي لوّح بالنزول إلى الشارع وقطع الطرق، في حال أصرت الدولة على حضور ليبيا القمّة.
بالنسبة لأصحاب هذه الطروحات توجد مبررات كافية لمنع تمثيل ليبيا في القمّة، في مقدمها «إمعان سلطتها الحالية في طمس معالم هذه القضية»، وفق ما أوضح القاضي حسن الشامي مقرر لجنة المتابعة اللبنانية لقضية الإمام الصدر ورفيقيه. ويشير الشامي إلى أنه «بدل أن تتعاون الأجهزة الليبية مع اللجنة اللبنانية، فإنها وجّهت أخيراً رسائل تهديد للسفارة اللبنانية في طرابلس، رداً على استفسارات لبنان عن مآل التحقيق المفترض إجراؤه مع قيادات أمنية تابعة للقذافي وموقوفين لديها، وهم على دراية كاملة بوقائع إخفاء الإمام الصدر».

- وقائع التواصل مع ليبيا
في حديث لـ«الشرق الأوسط»، قدّم القاضي الشامي ما وصفها بالرواية الكاملة عن مراحل التفاوض مع الجانب الليبي. وقال إنه «بعد أسبوع من مقتل معمّر القذافي وسقوط نظامه، وتحديداً في مطلع شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2011، توجّهت إلى العاصمة الليبية عن طريق القاهرة، وكانت قيادة السلطة انتقلت إلى مصطفى عبد الجليل الذي تولى رئاسة المجلس الوطني الليبي». وأردف أن عبد الجليل أبلغه بأن «قضية الإمام الصدر ستكون أولوية وطنية ليبية، وهذه مسؤوليتنا، ونحن شركاء في الظلم معكم». ثم أوضح أن عبد الجليل «شكّل لجنة ليبية لمتابعة القضية معنا، مؤلفة من وزير العدل والمدعي العام وممثل عن مكتب الرئيس (المجلس الوطني)، وقدّموا لنا وعوداً باستجواب موقوفين أساسيين، أبرزهم: عبد الله السنوسي، وعبد الله حجازي، وفرج أبو غالية، وعبد الله منصور، وهؤلاء هم رؤساء الأجهزة الأمنية وقادة عسكريون من الصف الأول وضمن الحلقة اللصيقة بمعمر القذافي، وكان بعضهم في سدّة المسؤولية عند خطف وإخفاء الإمام الصدر». ورغم إعلان السلطات الليبية عن تعاونها الكامل في هذه القضية، فإن الوقائع على الأرض كانت مختلفة، وفيها كثير من اللامبالاة؛ إذ لم تفِ بوعدها باستجواب القادة الأمنيين الموقوفين لديها، ولم تسلّم اللجنة اللبنانية نتائج تحقيقاتها الموعودة. ولفت الشامي إلى أن «وفداً قضائياً ليبياً حضر إلى بيروت مطلع عام 2012، مؤلفاً من ثلاثة قضاة من مكتب المدعي العام، وقابل وزير العدل اللبناني (يومذاك) شكيب قرطباوي، الذي حثهم على تسريع خطوات التحقيق. ثم اجتمعوا بعائلات المخطوفين وتعهدوا بالتعاون المطلق، وطلبوا موعداً لمقابلة النائب العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا. إلا إن الأخير رفض استقبالهم لأنه يعتبر أن الأزمة موجودة في ليبيا وليست في لبنان، وبالتالي، يجب أن يكون دورهم وعملهم في طرابلس».
اللجنة اللبنانية اليوم تتهم نظيرتها الليبية بـ«المراوغة ومحاولة تضييع القضية، ونقلها إلى مسار الصفقات والتسويات المالية». ويشرح القاضي الشامي، مقرّر اللجنة اللبنانية، أنه «في 16 تموز (يوليو) 2012، أبلغتنا اللجنة الليبية بأنها عثرت على جثّة الإمام موسى الصدر، فانتقلنا مع عائلته إلى ليبيا، وكان معنا الدكتور فؤاد أيوب (رئيس الجامعة اللبنانية حالياً) لإجراء فحوص الحمض النووي (DNA) وجرى إخراج الجثة ووضعها في البراد. وبعد أخذ وردّ لأيام طويلة، قرّروا إجراء هذا الفحص في جمهورية البوسنة والهرسك فوافقنا، وأتت النتيجة غير مطابقة». واستطرد قائلاً إن «هذه المماطلة والاعتراض الذي بدأ من قبلهم، أوصلانا إلى توقيع مذكرة تفاهم في 1 آذار (مارس) 2014». ولفت الشامي إلى أن الجانب الليبي «أقرّ بموجب هذا الاتفاق بأن عملية الخطف حصلت في ليبيا من قبل معمّر القذافي وأركان نظامه، وأن الإمام الصدر لم يغادر طرابلس إلى روما، كما جاء في مزاعم نظام القذافي. ونصّت المذكرة على ثلاثة بنود أساسية، الأول: إجراء تحقيق مشترك والسماح لنا بطرح الأسئلة على الموقوفين الأمنيين. الثاني: البحث في كلّ السجون الليبية. والثالث: التواصل الدائم معنا وتبادل المعلومات».

- مسار التهديدات
القاضي الشامي يشدد على أن الليبيين «لم ينفّذوا واحداً في المائة من هذه المذكرة، وبسبب هذا التلكؤ، ذهبت في شهر آذار 2016 إلى ليبيا، وقابلت بعض الموقوفين من المقرّبين من القذافي، وطرحت بعض الأسئلة، لكني لم أتلق أجوبة كافية. ومنذ ذلك الوقت وفور عودتي من طرابلس قطعوا كلّ الاتصالات بنا»، متابعاً أنه «عندما أتى فايز السراج (رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية) إلى السلطة لم يقم بأي خطوة إيجابية تجاهنا». قبل أن يكشف عن أن وزير الخارجية الليبي محمد الطاهر سيّالا «أرسل كتاباً إلى السفارة اللبنانية في طرابلس، يتضمّن ما يكفي من التهديد رداً على مراجعاتنا المتكررة، وهذا الموقف يمكن ربطه بموقع سيّالا السابق، حيث كان يشغل موقع وكيل وزارة الخارجية الليبية وهو مقرّب من عائلة القذافي... وانطلاقاً من كلّ هذه الوقائع، تتحمل السلطات الليبية مسؤولية تمييع قضية الإمام الصدر، وعدم التزامهم، وأخلّوا بوعودهم».

- أزمة سياسية داخلية
على صعيد آخر، المفارقة أن الخلاف بشأن قضية الصدر لم يقتصر على الجانب الليبي؛ إذ إنها فجرت أزمة سياسية داخل لبنان، بدأت بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه برّي... ومن ثم، انسحبت على علاقة الأخير برئيس الحكومة سعد الحريري، الذي انتقد بشدّة تصرفات مناصري حركة «أمل»، وبالذات، تمزيق العلم الليبي وإحراقه والتهديد باحتلال مطار بيروت الدولي ومرافق عامة، في حال سمح للوفد الليبي بدخول لبنان للمشاركة في القمة العربية الاقتصادية. وهو ما أدى إلى اعتذار ليبيا عن عدم الحضور والتلويح بقطع العلاقات مع لبنان... وبالتالي، تخفيض مستوى حضور القيادات العربية في القمّة. وقد أعاد الحريري التذكير بأنّ «العلاقة بين الأشقاء يجب أن تعلو فوق الإساءات».
ردّ برّي على الحريري لم يتأخّر، بيد أنه تعدّى التخاطب السياسي، إلى حدّ التلويح بخيار الشارع مجدداً؛ إذ قال رئيس مجلس النواب: «الأسف كل الأسف ليس لغياب الوفد الليبي، بل لغياب الوفد اللبناني عن الإساءة الأم منذ أكثر من 4 عقود»، في إشارة إلى ما عدّه «إهمال» لبنان لقضية الإمام الصدر. وأضاف برّي: «في السياسة نحن نقوم بواجبنا حيال هذه القضية، وإذا كان هناك إصرار على تخطي رأينا، فإن شبابنا يقومون بالواجب»؛ في إشارة إلى نزول مناصري «أمل» إلى الشارع لمنع دخول الوفد الليبي.

- توضيح القضاء اللبناني
ولكن اتهام برّي بغياب دور الدولة عن قضية الصدر أو الإساءة إليها لم يمرّ من دون تعليق معاكس؛ إذ شدّد وزير العدل السابق شكيب قرطباوي، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، على أن الدولة اللبنانية «أنجزت كلّ ما يمكن القيام به، وعيّنت لجنة قضائية وأمنية لمتابعة الملف، وانتقلت إلى ليبيا مرات عدة وقابلت مسؤولين ليبيين، لكن النتيجة لم تكن كما توخيناها جميعاً». وأضاف: «مَن أخفى الإمام الصدر ورفيقيه هو نظام معمّر القذافي، فلماذا نحوّل القضية إلى صراع لبناني داخلي؟ ولماذا نحمّل السلطات الليبية الحالية مسؤولية المأساة وهي غارقة في فوضى داخلية لا تستطيع الخروج منها؟ وهل يعقل الإساءة إلى الدول العربية الشقيقة بهذه الطريقة؟»، مؤكداً أن «وزارة العدل لم تقصّر بدورها، في أي مرحلة من المراحل، حتى قبل رحيل القذافي».
وفي غمرة الصراع على هذا الملفّ، جاء توقيف هنيبعل القذافي، نجل معمّر القذافي، لدى القضاء اللبناني، ليستخدم ورقة ضغط قويّة لإرغام الجانب الليبي على التعاون. وكان القضاء الليبي قد بعث بأكثر من مراسلة يطلب فيها تسليمه هنيبعل لمحاكمته، إلا إن القاضي زاهر حمادة، المحقق العدلي في قضية اختفاء الصدر، الذي أصدر مذكرة توقيف وجاهية بحقه بجرم «إخفاء معلومات تتعلّق بمصير الصدر»، رفض إطلاق سراحه، مستنداً إلى أسباب قانونية تبرّر استمرار توقيفه.

- هنيبعل القذافي أداة ضغط
هنيبعل القذافي، الذي كان يقيم في سوريا لاجئا سياسيا وبحماية نظام بشّار الأسد، كان جرى استدراجه من مدينة اللاذقية إلى العاصمة السورية دمشق، بواسطة سيدة تدعى فاطمة، بالاتفاق مع النائب اللبناني الأسبق حسن يعقوب (نجل الشيخ محمد يعقوب المخطوف مع الصدر). ولدى وصول هنيبعل إلى دمشق، جرى تخديره من قبل مجموعة مسلحة، عملت على نقله إلى داخل لبنان بواسطة معبر غير شرعي، وسلّمته إلى يعقوب حيث جرى احتجازه وضربة وتعذيبه داخل شقة سكنية في منطقة البقاع اللبناني، ما تسبب بكسر في أنفه، وذلك في منتصف شهر ديسمبر (كانون الأول) 2015. بعدها اكتشف فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي اللبنانية أمر خطفه واحتجازه، وهو يعمل على تحريره، وتسليمه إلى القضاء، بينما جرى توقيف النائب السابق يعقوب و4 آخرين بجرم خطف القذافي الابن وحجز حريته وتعذيبه جسدياً ومعنوياً.
المحقق العدلي القاضي زاهر حمادة ما زال يرفض الإفراج عن هنيبعل، رغم المطالبات المتكرّرة من النظام السوري، بتسلّمه كونه يتمتع بحق اللجوء السياسي في سوريا. ولقد دخلت موسكو في الأسابيع الأخيرة على خطّ الضغط على لبنان للإفراج عنه، في حين رفض القضاء اللبناني طلبات متكرّرة من القضاء الليبي لاستعادة القذافي بصفته مواطنا ليبيا مطلوبا لبلاده.
كذلك، يوجّه رجال قانون وسياسيون انتقادات للقضاء بسبب استمرار توقيف القذافي الابن، ويسخرون من اتهام هذا الموقوف بالتدخل في جريمة خطف الصدر ورفيقيه، علما بأن هنيبعل «لم يكن يتجاوز السنوات الثلاث من عمره يوم اختفاء الصدر»، لكنّ مصدراً قضائياً مطلعاً على تفاصيل الملف القضائي، أكد لـ«الشرق الأوسط»، أن «قرار استمرار التوقيف مبرر قانوناً، بسبب تعمّد القذافي الابن كتم معلومات تتعلّق بالجريمة المتمادية منذ أكثر من 40 سنة». وكشف أن «هنيبعل تدخّل لاحقاً بالجريمة، وهو اعترف صراحة أمام المحقق العدلي بأنه أصبح عضواً باللجنة الأمنية، وأعلن أنه لم تتم تصفية الإمام الصدر، بل جرى نقله إلى سجون عدّة وذكر أسماء هذه السجون».
ويرى مصدر سياسي في قوى «14 آذار» أن مقاربة الثنائي الشيعي «أمل» و«حزب الله» لقضية الإمام الصدر، تندرج في نطاق الاستثمار السياسي، الذي يتعدّى البحث الحقيقي عن مصير الإمام المغيّب. وطرح المصدر عبر «الشرق الأوسط» التساؤل: «كيف نفسّر ليونة هذا الفريق مع حضور ليبيا في القمّة العربية في بيروت عام 2002، عبر علي عبد السلام التريكي رئيس حكومة القذافي، في حين نجد اليوم هذه الانفعالات والتصرفات الميليشياوية ضدّ الذين أطاحوا بالقذافي؟».
ورأى أن هذا الفريق «يتعامل مع القضية بازدواجية تامّة؛ إذ إنه يقاتل من أجل دعوة النظام السوري للقمة، وهو يعلم يقيناً أن نظام الأسد شريك فعلي في مؤامرة خطف الصدر وإخفائه»، مذكراً بأن حافظ الأسد «استقبل القذافي بحفاوة بالغة، بعد أشهر قليلة من اختطاف الإمام الصدر، وعلاقات النظامين ظلّت وثيقة إلى حين سقوط نظام القذافي».


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.