خوان غوايدو... «رجل الساعة» في فنزويلا

مهندس شاب يجيد التواصل مع الناس وإيجاد نقاط التلاقي والتفاهمات

خوان غوايدو... «رجل الساعة» في فنزويلا
TT

خوان غوايدو... «رجل الساعة» في فنزويلا

خوان غوايدو... «رجل الساعة» في فنزويلا

سلّطت التطورات المتلاحقة في الأزمة الفنزويلية الأضواء على ويلمير غوايادو، والد «الرئيس بالوكالة» خوان غوايادو. وويلمير يعيش في جزيرة تينيريفي، إحدى جزر الكناري الإسبانية، حيث يعمل سائق سيارة أجرة (تاكسي) منذ 16 سنة. ووفق غوايادو «الأب»، فإنه منذ يوم الأربعاء الماضي يتلقّى تهاني الأقارب والأصدقاء والمواطنين الفنزويليين على الشجاعة التي يبديها ابنه، الذي كان على مقاعد الجامعة عندما هاجر ويلمير إلى إسبانيا. وتابع أنه لم يتمكّن من التحدّث إلى ابنه حتى الآن بسبب سوء الاتصالات الهاتفية، لكنه تبادل معه الرسائل النصّية عبر «واتساب». ثم أضاف أنه يبارك ما يقوم به ابنه الذي كان آخر لقاء بينهما منذ أربع سنوات في فنزويلا.

يجزم الكثير من المراقبين المتابعين للأزمة الفنزويلية بأن صمود نظام الرئيس نيكولاس مادورو إلى اليوم، رغم الوضع المعيشي الكارثي الذي يعاني منه هذا البلد منذ أكثر من أربع سنوات، يعود بنسبة عالية إلى انكفاء الولايات المتحدة حتى أواخر العام الماضي عن ممارسة الضغوط الاقتصادية والسياسية الكافية لتطويقه ودفعه إلى التغيير أو السقوط.
الإدارة الأميركية السابقة على عهد الرئيس باراك أوباما، كانت منهمكة بإنجاز الصفقة التاريخية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية مع كوبا، الحليف الأوثق للنظام الفنزويلي اليساري الحالي. والإدارة الحالية كانت خلال السنتين الأوليين منشغلة على جبهات داخلية وخارجية عدة حالت دون تفرّغها للاهتمام بجارتها الجنوبية التي كانت توثّق علاقاتها بالصين وإيران، قبل أن تبدأ بفتح بوّابة عودة الوجود العسكري الروسي إلى شبه القارة الأميركية... للمرة الأولى منذ أزمة الصواريخ في كوبا على عهد جون كنيدي.
غير أن المشهد السياسي انقلب رأساً على عقب مع التطورات المتسارعة التي شهدتها هذه الأزمة في الأيام الأخيرة بعد رفض واشنطن - ومعها غالبية قيادات الدول الأعضاء في «منظمة البلدان الأميركية» - الاعتراف بشرعيّة الولاية الثانية لنيكولاس مادورو، والإعلان المفاجئ لرئيس الجمعية الوطنية (البرلمان) الشاب خوان غوايدو تولّيه رئاسة الجمهورية بالوكالة. إذ حظي هذا الإعلان بالدعم الفوري من واشنطن وحلفائها اليمينيين في المنطقة. وهكذا طرأ تغيّر كبير في المشهد السياسي في فنزويلا، وانفتح على مجموعة من الاحتمالات التي لم تكن واردة في حساب أحد منذ أيام قليلة.
أبرز هذه الاحتمالات:
1 - تدخلّ عسكري أميركي مباشر، بعدما قرّرت واشنطن الإبقاء على بعثتها الدبلوماسية في العاصمة الفنزويلية كاراكاس إثر إعلان مادورو قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة.
2 - صدامات بين قوى الأمن الفنزويلية والمتظاهرين المعارضين للنظام، تهدد بإطلاق شرارة حرب أهلية مفتوحة.
3 - انقلاب داخل المؤسسة العسكرية على مادورو، قد لا يؤدي بالضرورة إلى عودة الديمقراطية وتسليم الحكم للمعارضة.
لكن من هو خوان غوايدو الذي، في غفلة من الجميع، خطف زعامة المعارضة المشتّتة منذ سنوات، وأعلن تولّيه رئاسة الجمهورية؟ وكيف تحوّل من «مجهول»، بالنسبة للذين لا يتابعون يوميّاً تطورات الأزمة الفنزويلية المعقّدة وتقلباتها، إلى محطّ آمال ملايين الفنزويليين التوّاقين إلى قلب النظام الذي زرعه هوغو تشافيز في فنزويلا عند نهايات القرن الماضي؟
عندما وقف خوان غوايدو، يوم الثلاثاء الماضي، أمام عشرات الآلاف من المُحتشدين في كاراكاس يطالبون بإسقاط النظام، ليعلن نفسه «رئيساً مكلّفاً» للجمهورية، تساءل كثيرون عن هذا السياسي الشاب الذي لم يبلغ بعد الـ35 سنة، والذي في أقل من 3 أسابيع صعد إلى رئاسة البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة بعد انتخابات عام 2017؟ تساءلوا عمّن يكون هذا الرجل الذي بات رمزاً يجسّد طموحات الساعين إلى التغيير والنهوض من كابوس الأزمة المعيشيّة الخانقة في واحدة من أغنى دول أميركا اللاتينية؟
الحقيقة، أنه لم يكن معظم الذين شاركوا في المظاهرات الأخيرة الحاشدة ضد ولاية مادورو الثانية على علم بأن المحرّك الرئيسي لتلك الاحتجاجات، التي حشدت مئات الآلاف في كل أنحاء البلاد، هو الشاب الذي يتولّى منذ مطلع هذا العام رئاسة البرلمان الذي فرّ معظم قادته إلى الخارج، أو أدخلوا السجن بتهمة التآمر على النظام.

- بطاقة شخصية
المسيرة السياسية لخوان غوايدو مرتبطة بشكل وثيق بـ«راعيه» السياسي ومؤسس حزب «الإرادة الشعبية» ليوبولدو لوبيز، الذي يخضع للإقامة الجبرية منذ عام 2017، بعدما أمضى 3 سنوات في السجن بتهمة التحريض على قلب النظام.
ولقد حرص غوايدو على أن تحمل كلماته الأولى التي وجّهها إلى مواطنيه قبيل انطلاق المظاهرات الأخيرة رسالة عرفان بالجميل إلى الرجل الذي نما سياسياً في ظلّه، عندما قال: «أتذكّر اليوم ما جاء على لسان أخي ليوبولدو لوبيز، المحتجز ظلماً لرفعه الصوت ضد النظام الذي يسطو الآن على السلطة، بأن نضالنا مستمرّ». وكان النظام قد اعتقل لوبيز وأودعه السجن في 23 فبراير (شباط) 2014 بعد إلقائه خطاباً جاء فيه قوله: «أوجّه ندائي لكل الفنزويليين للوقوف بوجه هذه الحكومة التي تريد قمع شعبنا».
أبصر غوايدو النور يوم 28 يوليو (تموز) 1983 في كنف عائلة متوسطة لوالد طيّار وأمّ مُدرّسة، وله 8 أشقّاء. وعانت عائلته الكثير من الكوارث التي ضربت منطقة فارغاس، حيث كانت تعيش عام 1999، عندما أدّت فيضانات وانهيارات إلى مقتل عشرات الآلاف وتدمير آلاف المنازل. ويومذاك، تفجّرت احتجاجات شعبية واسعة ضد حكومة هوغو تشافيز (يومذاك) لقلة اهتمامها بمساعدة الضحايا والمتضررين، وقمعها المظاهرات بقسوة.
تخرّج خزان غوايدو من كليّة الهندسة الصناعية في جامعة كاراكاس، ثم التحق بمعهد الدراسات العليا للإدارة التابع لجامعة «جورج واشنطن» في العاصمة الأميركية واشنطن، قبل أن يعود إلى فنزويلا ويبدأ نشاطه السياسي في حزب «الإرادة الشعبية» (يسار الوسط) الذي أسّسه لوبيز لمواجهة نظام تشافيز اليساري. ويتذكّر غوايدو باعتزاز كيف أن هذا الحزب هو الذي ألحق بنظام تشافيز الهزيمة السياسية الوحيدة التي مُني بها طوال سنوات حكمه التسع، عندما صوّت البرلمان ضد اقتراحه تعديل الدستور بحيث لا يصار إلى تحديد عدد الولايات الرئاسية ومنح رئيس الجمهورية صلاحية إعلان حالة الطوارئ.

- نائباً في البرلمان
انتخب غوايدو نائباً في البرلمان للمرة الأولى عام 2015 عن ولاية فارغاس الشمالية، وأعيد انتخابه في عام 2017 عندما حصلت الأحزاب المعارضة على غالبية المقاعد. وهو ما دفع بالنظام إلى إجراء انتخابات أخرى - رفضت المعارضة المشاركة فيها - لتشكيل جمعية تأسيسية، قضت المحكمة الدستورية الموالية للنظام بأسبقية صلاحياتها على صلاحيات البرلمان.
بعد ذلك، ساعدت المبادرات والخطوات الأخيرة لرئيس البرلمان الجديد على استعادة المعارضة معنوياتها ونشاطها، وبعض وحدتها، بعد التشتّت الذي أصابها بفعل ملاحقات النظام وقمعه. وعاد الحديث مجدداً عن إعادة إطلاق «طاولة الوحدة الديمقراطية» التي كانت تضمّ كل أطياف المعارضة للنظام.
ميغيل ريّوس، المحلّل السياسي والأستاذ في جامعة كاراكاس، يقول عن غوايدو - الذي يعرفه منذ كان على مقاعد الدراسة - إنه «مثابر ومتواضع ومتفائل. كما أنه صريح وقريب من الناس، ولا يشبه السياسيين التقليديين». ويضيف ريّوس: «إنه لمفاجأة حقاً، لكنها مفاجأة لها جذورها في النضال الطلابي الذي شارك فيه غوايدو عن قرب ضد فكرة تعديل الدستور وفتح الباب أمام تجديد الولايات الرئاسية من غير نهاية». ويشير الأكاديمي الفنزويلي إلى أن غوايدو «يتمتع بمهارة طبيعية في التوفيق بين وجهات النظر المتباعدة، كما تبيّن من نجاحه السريع في لمّ شمل المعارضة، وعلى غرار ما كان يفعل داخل الحزب عندما كان يوفّق بين مجموعات لها استراتيجيات متباينة».
وبالفعل، يعود لغوايدو فضل كبير في تحريك عشرات الآلاف من المواطنين في العاصمة كاراكاس، خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، عندما كان يعقد اجتماعات في الأحياء الشعبية لجسّ نبض الجماهير وتلمّس مدى النقمة التي أخمدتها احتجاجات عام 2017، في أعقاب القمع العنيف الذي مارسه النظام وأوقع ما يزيد عن 150 قتيلاً في حينه. ولكن، رغم الأسلوب المباشر الذي يتميّز به خطاب غوايدو الموجّه ضد النظام، فإنه تعمّد إظهار بعض الغموض المحسوب عندما تحدّث أخيراً عن الإجراءات التي ينوي اتخاذها لتحديد مسار العملية الانتقالية. قال مثلاً إنه يتولّى مهام رئيس الجمهورية لأن مادورو مغتصب للسلطة، لكنه يعرف أن القَسَم لتولّي هذه المهام في غياب القوة أو القدرة على تفعيل هذا الحدث الرمزي من شأنه أن يودي به إلى السجن كغيره من قادة المعارضة، أو أن يشكّل إحباطاً كبيراً له تبدأ معه نهايته السياسية.
أيضاً، تجدر الإشارة إلى أن غوايدو وصل إلى رئاسة البرلمان يوم 5 يناير (كانون الثاني) الحالي لانعدام البدائل الأخرى. وبعد تنصيب مادورو، قال إنه على استعداد لقيادة التغيير استناداً إلى موقف المعارضة التي تعتبر ولاية مادورو المقرّرة حتى عام 2025 غير دستورية. ولم تنقضِ أيام ثلاثة حتى كان جهاز الاستخبارات يلقي القبض عليه وهو في طريقه للمشاركة في مهرجان انتخابي. إلا أنه أخلي سبيله بعد ساعة، وهو ما أثار تساؤلات حول ما إذا كان يعتمد على دعم قوي جداً من الخارج، أو أن النظام لا يرى فيه خطراً داهماً أو تهديداً محدقاً.
تلك الحادثة، في رأي مراقبين، هي التي ضاعفت شعبيته وسلّطت الضوء على حضوره في المشهد السياسي، مع أنها لا تحمل كل الأجوبة حول هذا الصعود السريع والمفاجئ. ففي الشهر الماضي كانت استطلاعات الرأي تفيد بأن قادة المعارضة الفنزويلية لا يتمتعون بما يزيد عن 25 في المائة من التأييد في بلد يقول 80 في المائة من مواطنيه إنهم يريدون التغيير.
ما الذي حصل إذن؟ وكيف نهض هذا المجتمع المُنهَك والساكن رغم ضعف المعارضة وهشاشة تواصلها مع القاعدة الشعبية؟ سؤالان من الأسئلة التي يجيب عنها مراقبون دبلوماسيون في كاراكاس بالقول إن ثمّة ما يتجاوز مجرّد الانهيار الاقتصادي والمقاساة المعيشية والتضخّم الهائل. إنها الحاجة الجارفة التي تجتاح الجميع للبحث عن مخرج لهذه الأزمة، والتي وجدت مبتغاها في شخصية سياسية صريحة ومختلفة عن الآخرين.
وهناك عامل آخر، غير الدعم الدولي السريع الذي حصل عليه غوايدو بتأييد واشنطن وغالبية قيادات الدول المجاورة. إذ لا شك في أنه لم يغب عن النجم الفنزويلي الصاعد، الذي أبدى براعة ملحوظة في حساباته السياسية حتى الآن؛ لم ينسَ دور القوات المسلّحة التي كانت لها دائماً الكلمة الفصل في تحديد توازنات السلطة في فنزويلا. إذ أعلن «الرئيس بالوكالة» أنه على استعداد لمنح العفو عن العسكريين الذين يقرّرون الانشقاق عن مادورو، من غير أن تظهر حتى الآن بوادر على أن هذا العرض قد بدأ يعطي ثماره. الجدير بالإشارة، أن الوصول إلى السلطة في فنزويلا مستحيل من دون «الضوء الأخضر» الذي تعطيه المؤسسة العسكرية، وهي اكتفت - حتى الآن - بإعلان ولائها لمادورو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي مواقف القيادات العسكرية، جاء على لسان وزير الدفاع قوله: «لن نقبل برئيس يُفرَض علينا في ظلّ مصالح مشبوهة، ويعلن تنصيبه خارج القانون. القوات المسلحة ستدافع عن الدستور، وهي الضامن للسيادة الوطنية». أما قائد العمليات الاستراتيجية فتوعّد «الخونة بالقتال والنصر»، بينما كانت المواجهات الأخيرة بين المتظاهرين وقوات الشرطة توقع 16 قتيلاً في شوارع كاراكاس.
وكان لافتاً أن تأييد القوات المسلحة لمادورو جاء حتى الآن منفرداً، ولم يصدر أي بيان مشترك عن القيادات العسكرية.
في المقابل، لا بد من الإشارة إلى أن غالبية هذه القيادات تخضع لعقوبات وملاحقات قضائية دولية بتهم الفساد وغسل الأموال وانتهاك حقوق الإنسان، وهذا ما يجعل احتمالات انشقاقها عن النظام شبه معدومة. أيضاً كان لافتاً أن النيابة العامة لم تُصدِر حتى الآن مذكرات توقيف بحق القيادات المعارضة، كما جرت العادة بعد كل موجة من الاحتجاجات، وهذا ما يثير تساؤلات إضافية حول مدى الدعم الذي يعتمد عليه غوايدو داخل أروقة النظام.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.