سلّطت التطورات المتلاحقة في الأزمة الفنزويلية الأضواء على ويلمير غوايادو، والد «الرئيس بالوكالة» خوان غوايادو. وويلمير يعيش في جزيرة تينيريفي، إحدى جزر الكناري الإسبانية، حيث يعمل سائق سيارة أجرة (تاكسي) منذ 16 سنة. ووفق غوايادو «الأب»، فإنه منذ يوم الأربعاء الماضي يتلقّى تهاني الأقارب والأصدقاء والمواطنين الفنزويليين على الشجاعة التي يبديها ابنه، الذي كان على مقاعد الجامعة عندما هاجر ويلمير إلى إسبانيا. وتابع أنه لم يتمكّن من التحدّث إلى ابنه حتى الآن بسبب سوء الاتصالات الهاتفية، لكنه تبادل معه الرسائل النصّية عبر «واتساب». ثم أضاف أنه يبارك ما يقوم به ابنه الذي كان آخر لقاء بينهما منذ أربع سنوات في فنزويلا.
يجزم الكثير من المراقبين المتابعين للأزمة الفنزويلية بأن صمود نظام الرئيس نيكولاس مادورو إلى اليوم، رغم الوضع المعيشي الكارثي الذي يعاني منه هذا البلد منذ أكثر من أربع سنوات، يعود بنسبة عالية إلى انكفاء الولايات المتحدة حتى أواخر العام الماضي عن ممارسة الضغوط الاقتصادية والسياسية الكافية لتطويقه ودفعه إلى التغيير أو السقوط.
الإدارة الأميركية السابقة على عهد الرئيس باراك أوباما، كانت منهمكة بإنجاز الصفقة التاريخية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية مع كوبا، الحليف الأوثق للنظام الفنزويلي اليساري الحالي. والإدارة الحالية كانت خلال السنتين الأوليين منشغلة على جبهات داخلية وخارجية عدة حالت دون تفرّغها للاهتمام بجارتها الجنوبية التي كانت توثّق علاقاتها بالصين وإيران، قبل أن تبدأ بفتح بوّابة عودة الوجود العسكري الروسي إلى شبه القارة الأميركية... للمرة الأولى منذ أزمة الصواريخ في كوبا على عهد جون كنيدي.
غير أن المشهد السياسي انقلب رأساً على عقب مع التطورات المتسارعة التي شهدتها هذه الأزمة في الأيام الأخيرة بعد رفض واشنطن - ومعها غالبية قيادات الدول الأعضاء في «منظمة البلدان الأميركية» - الاعتراف بشرعيّة الولاية الثانية لنيكولاس مادورو، والإعلان المفاجئ لرئيس الجمعية الوطنية (البرلمان) الشاب خوان غوايدو تولّيه رئاسة الجمهورية بالوكالة. إذ حظي هذا الإعلان بالدعم الفوري من واشنطن وحلفائها اليمينيين في المنطقة. وهكذا طرأ تغيّر كبير في المشهد السياسي في فنزويلا، وانفتح على مجموعة من الاحتمالات التي لم تكن واردة في حساب أحد منذ أيام قليلة.
أبرز هذه الاحتمالات:
1 - تدخلّ عسكري أميركي مباشر، بعدما قرّرت واشنطن الإبقاء على بعثتها الدبلوماسية في العاصمة الفنزويلية كاراكاس إثر إعلان مادورو قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة.
2 - صدامات بين قوى الأمن الفنزويلية والمتظاهرين المعارضين للنظام، تهدد بإطلاق شرارة حرب أهلية مفتوحة.
3 - انقلاب داخل المؤسسة العسكرية على مادورو، قد لا يؤدي بالضرورة إلى عودة الديمقراطية وتسليم الحكم للمعارضة.
لكن من هو خوان غوايدو الذي، في غفلة من الجميع، خطف زعامة المعارضة المشتّتة منذ سنوات، وأعلن تولّيه رئاسة الجمهورية؟ وكيف تحوّل من «مجهول»، بالنسبة للذين لا يتابعون يوميّاً تطورات الأزمة الفنزويلية المعقّدة وتقلباتها، إلى محطّ آمال ملايين الفنزويليين التوّاقين إلى قلب النظام الذي زرعه هوغو تشافيز في فنزويلا عند نهايات القرن الماضي؟
عندما وقف خوان غوايدو، يوم الثلاثاء الماضي، أمام عشرات الآلاف من المُحتشدين في كاراكاس يطالبون بإسقاط النظام، ليعلن نفسه «رئيساً مكلّفاً» للجمهورية، تساءل كثيرون عن هذا السياسي الشاب الذي لم يبلغ بعد الـ35 سنة، والذي في أقل من 3 أسابيع صعد إلى رئاسة البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة بعد انتخابات عام 2017؟ تساءلوا عمّن يكون هذا الرجل الذي بات رمزاً يجسّد طموحات الساعين إلى التغيير والنهوض من كابوس الأزمة المعيشيّة الخانقة في واحدة من أغنى دول أميركا اللاتينية؟
الحقيقة، أنه لم يكن معظم الذين شاركوا في المظاهرات الأخيرة الحاشدة ضد ولاية مادورو الثانية على علم بأن المحرّك الرئيسي لتلك الاحتجاجات، التي حشدت مئات الآلاف في كل أنحاء البلاد، هو الشاب الذي يتولّى منذ مطلع هذا العام رئاسة البرلمان الذي فرّ معظم قادته إلى الخارج، أو أدخلوا السجن بتهمة التآمر على النظام.
- بطاقة شخصية
المسيرة السياسية لخوان غوايدو مرتبطة بشكل وثيق بـ«راعيه» السياسي ومؤسس حزب «الإرادة الشعبية» ليوبولدو لوبيز، الذي يخضع للإقامة الجبرية منذ عام 2017، بعدما أمضى 3 سنوات في السجن بتهمة التحريض على قلب النظام.
ولقد حرص غوايدو على أن تحمل كلماته الأولى التي وجّهها إلى مواطنيه قبيل انطلاق المظاهرات الأخيرة رسالة عرفان بالجميل إلى الرجل الذي نما سياسياً في ظلّه، عندما قال: «أتذكّر اليوم ما جاء على لسان أخي ليوبولدو لوبيز، المحتجز ظلماً لرفعه الصوت ضد النظام الذي يسطو الآن على السلطة، بأن نضالنا مستمرّ». وكان النظام قد اعتقل لوبيز وأودعه السجن في 23 فبراير (شباط) 2014 بعد إلقائه خطاباً جاء فيه قوله: «أوجّه ندائي لكل الفنزويليين للوقوف بوجه هذه الحكومة التي تريد قمع شعبنا».
أبصر غوايدو النور يوم 28 يوليو (تموز) 1983 في كنف عائلة متوسطة لوالد طيّار وأمّ مُدرّسة، وله 8 أشقّاء. وعانت عائلته الكثير من الكوارث التي ضربت منطقة فارغاس، حيث كانت تعيش عام 1999، عندما أدّت فيضانات وانهيارات إلى مقتل عشرات الآلاف وتدمير آلاف المنازل. ويومذاك، تفجّرت احتجاجات شعبية واسعة ضد حكومة هوغو تشافيز (يومذاك) لقلة اهتمامها بمساعدة الضحايا والمتضررين، وقمعها المظاهرات بقسوة.
تخرّج خزان غوايدو من كليّة الهندسة الصناعية في جامعة كاراكاس، ثم التحق بمعهد الدراسات العليا للإدارة التابع لجامعة «جورج واشنطن» في العاصمة الأميركية واشنطن، قبل أن يعود إلى فنزويلا ويبدأ نشاطه السياسي في حزب «الإرادة الشعبية» (يسار الوسط) الذي أسّسه لوبيز لمواجهة نظام تشافيز اليساري. ويتذكّر غوايدو باعتزاز كيف أن هذا الحزب هو الذي ألحق بنظام تشافيز الهزيمة السياسية الوحيدة التي مُني بها طوال سنوات حكمه التسع، عندما صوّت البرلمان ضد اقتراحه تعديل الدستور بحيث لا يصار إلى تحديد عدد الولايات الرئاسية ومنح رئيس الجمهورية صلاحية إعلان حالة الطوارئ.
- نائباً في البرلمان
انتخب غوايدو نائباً في البرلمان للمرة الأولى عام 2015 عن ولاية فارغاس الشمالية، وأعيد انتخابه في عام 2017 عندما حصلت الأحزاب المعارضة على غالبية المقاعد. وهو ما دفع بالنظام إلى إجراء انتخابات أخرى - رفضت المعارضة المشاركة فيها - لتشكيل جمعية تأسيسية، قضت المحكمة الدستورية الموالية للنظام بأسبقية صلاحياتها على صلاحيات البرلمان.
بعد ذلك، ساعدت المبادرات والخطوات الأخيرة لرئيس البرلمان الجديد على استعادة المعارضة معنوياتها ونشاطها، وبعض وحدتها، بعد التشتّت الذي أصابها بفعل ملاحقات النظام وقمعه. وعاد الحديث مجدداً عن إعادة إطلاق «طاولة الوحدة الديمقراطية» التي كانت تضمّ كل أطياف المعارضة للنظام.
ميغيل ريّوس، المحلّل السياسي والأستاذ في جامعة كاراكاس، يقول عن غوايدو - الذي يعرفه منذ كان على مقاعد الدراسة - إنه «مثابر ومتواضع ومتفائل. كما أنه صريح وقريب من الناس، ولا يشبه السياسيين التقليديين». ويضيف ريّوس: «إنه لمفاجأة حقاً، لكنها مفاجأة لها جذورها في النضال الطلابي الذي شارك فيه غوايدو عن قرب ضد فكرة تعديل الدستور وفتح الباب أمام تجديد الولايات الرئاسية من غير نهاية». ويشير الأكاديمي الفنزويلي إلى أن غوايدو «يتمتع بمهارة طبيعية في التوفيق بين وجهات النظر المتباعدة، كما تبيّن من نجاحه السريع في لمّ شمل المعارضة، وعلى غرار ما كان يفعل داخل الحزب عندما كان يوفّق بين مجموعات لها استراتيجيات متباينة».
وبالفعل، يعود لغوايدو فضل كبير في تحريك عشرات الآلاف من المواطنين في العاصمة كاراكاس، خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، عندما كان يعقد اجتماعات في الأحياء الشعبية لجسّ نبض الجماهير وتلمّس مدى النقمة التي أخمدتها احتجاجات عام 2017، في أعقاب القمع العنيف الذي مارسه النظام وأوقع ما يزيد عن 150 قتيلاً في حينه. ولكن، رغم الأسلوب المباشر الذي يتميّز به خطاب غوايدو الموجّه ضد النظام، فإنه تعمّد إظهار بعض الغموض المحسوب عندما تحدّث أخيراً عن الإجراءات التي ينوي اتخاذها لتحديد مسار العملية الانتقالية. قال مثلاً إنه يتولّى مهام رئيس الجمهورية لأن مادورو مغتصب للسلطة، لكنه يعرف أن القَسَم لتولّي هذه المهام في غياب القوة أو القدرة على تفعيل هذا الحدث الرمزي من شأنه أن يودي به إلى السجن كغيره من قادة المعارضة، أو أن يشكّل إحباطاً كبيراً له تبدأ معه نهايته السياسية.
أيضاً، تجدر الإشارة إلى أن غوايدو وصل إلى رئاسة البرلمان يوم 5 يناير (كانون الثاني) الحالي لانعدام البدائل الأخرى. وبعد تنصيب مادورو، قال إنه على استعداد لقيادة التغيير استناداً إلى موقف المعارضة التي تعتبر ولاية مادورو المقرّرة حتى عام 2025 غير دستورية. ولم تنقضِ أيام ثلاثة حتى كان جهاز الاستخبارات يلقي القبض عليه وهو في طريقه للمشاركة في مهرجان انتخابي. إلا أنه أخلي سبيله بعد ساعة، وهو ما أثار تساؤلات حول ما إذا كان يعتمد على دعم قوي جداً من الخارج، أو أن النظام لا يرى فيه خطراً داهماً أو تهديداً محدقاً.
تلك الحادثة، في رأي مراقبين، هي التي ضاعفت شعبيته وسلّطت الضوء على حضوره في المشهد السياسي، مع أنها لا تحمل كل الأجوبة حول هذا الصعود السريع والمفاجئ. ففي الشهر الماضي كانت استطلاعات الرأي تفيد بأن قادة المعارضة الفنزويلية لا يتمتعون بما يزيد عن 25 في المائة من التأييد في بلد يقول 80 في المائة من مواطنيه إنهم يريدون التغيير.
ما الذي حصل إذن؟ وكيف نهض هذا المجتمع المُنهَك والساكن رغم ضعف المعارضة وهشاشة تواصلها مع القاعدة الشعبية؟ سؤالان من الأسئلة التي يجيب عنها مراقبون دبلوماسيون في كاراكاس بالقول إن ثمّة ما يتجاوز مجرّد الانهيار الاقتصادي والمقاساة المعيشية والتضخّم الهائل. إنها الحاجة الجارفة التي تجتاح الجميع للبحث عن مخرج لهذه الأزمة، والتي وجدت مبتغاها في شخصية سياسية صريحة ومختلفة عن الآخرين.
وهناك عامل آخر، غير الدعم الدولي السريع الذي حصل عليه غوايدو بتأييد واشنطن وغالبية قيادات الدول المجاورة. إذ لا شك في أنه لم يغب عن النجم الفنزويلي الصاعد، الذي أبدى براعة ملحوظة في حساباته السياسية حتى الآن؛ لم ينسَ دور القوات المسلّحة التي كانت لها دائماً الكلمة الفصل في تحديد توازنات السلطة في فنزويلا. إذ أعلن «الرئيس بالوكالة» أنه على استعداد لمنح العفو عن العسكريين الذين يقرّرون الانشقاق عن مادورو، من غير أن تظهر حتى الآن بوادر على أن هذا العرض قد بدأ يعطي ثماره. الجدير بالإشارة، أن الوصول إلى السلطة في فنزويلا مستحيل من دون «الضوء الأخضر» الذي تعطيه المؤسسة العسكرية، وهي اكتفت - حتى الآن - بإعلان ولائها لمادورو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي مواقف القيادات العسكرية، جاء على لسان وزير الدفاع قوله: «لن نقبل برئيس يُفرَض علينا في ظلّ مصالح مشبوهة، ويعلن تنصيبه خارج القانون. القوات المسلحة ستدافع عن الدستور، وهي الضامن للسيادة الوطنية». أما قائد العمليات الاستراتيجية فتوعّد «الخونة بالقتال والنصر»، بينما كانت المواجهات الأخيرة بين المتظاهرين وقوات الشرطة توقع 16 قتيلاً في شوارع كاراكاس.
وكان لافتاً أن تأييد القوات المسلحة لمادورو جاء حتى الآن منفرداً، ولم يصدر أي بيان مشترك عن القيادات العسكرية.
في المقابل، لا بد من الإشارة إلى أن غالبية هذه القيادات تخضع لعقوبات وملاحقات قضائية دولية بتهم الفساد وغسل الأموال وانتهاك حقوق الإنسان، وهذا ما يجعل احتمالات انشقاقها عن النظام شبه معدومة. أيضاً كان لافتاً أن النيابة العامة لم تُصدِر حتى الآن مذكرات توقيف بحق القيادات المعارضة، كما جرت العادة بعد كل موجة من الاحتجاجات، وهذا ما يثير تساؤلات إضافية حول مدى الدعم الذي يعتمد عليه غوايدو داخل أروقة النظام.