منبج... نقطة تماس بين أميركا وروسيا وتركيا في شمال سوريا

«الشرق الأوسط» تستطلع موقع التفجير الانتحاري وخطوط الانتشار بين قوات دول كبرى

سوق الخضار الرئيسي في مدينة منبج (الشرق الأوسط)
سوق الخضار الرئيسي في مدينة منبج (الشرق الأوسط)
TT

منبج... نقطة تماس بين أميركا وروسيا وتركيا في شمال سوريا

سوق الخضار الرئيسي في مدينة منبج (الشرق الأوسط)
سوق الخضار الرئيسي في مدينة منبج (الشرق الأوسط)

على رصيف مستشفى الأمل وسط مدينة منبج التابعة لريف حلب الشرقي، أجهش رجل أربعيني بالبكاء بحرقة وحزن شديدين، بعدما آلت ابنته الصغيرة سحر ووالدتها إلى أشلاء. وضعوها في صندوق مخصّص للموتى، حيث إنهما لقيا مصرعيهما بالتفجير الانتحاري الذي وقع الأربعاء الماضي أمام مطعم قصر الأمراء وسط مدينة منبج راح ضحيته 15 قتيلاً، كان من بينهم أربعة أميركيين.
سحر كانت تبلغ من العمر 13 ربيعاً طالبة بالمعهد المتوسط. وبعد انتهاء دوامها الصباحي، ذهبت والدتها لتصحبها إلى المنزل خشية من الأوضاع الأمنية المتردية في مسقط رأسها منذ أشهر، لكن الموت كان أسرع من طريق العودة، فيما لم يتبقَ للأب المفجوع سوى الذكريات.
وبصوت مصحوب بالحزن وعيون تذرف الدموع، قال حسين والد سحر الذي خط الشيب شعره وذقنه: «يا ريت لو كنت معهم لحظة الانفجار وارتحت من هذا العذاب. ماذا بقي لي من أعزّ الناس على قلبي، ذكريات مثقلة والقليل من الصور التي سأبقى طوال حياتي أعيش بعذاب فراقها».
فالهجوم الذي وقع في مركز مدينة منبج بوضح النهار، كان الأكبر من حيث عدد القتلى الذين تعرضت له القوات الأميركية العاملة في سوريا منذ انتشارها هناك عام 2015، في مدينة تسيطر عليها «قوات مجلس منبج العسكري»، المتحالفة مع «وحدات حماية الشعب» الكردية والمنضوية في صفوف «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من التحالف الدولي بقيادة واشنطن.
ويقول عبد الجيل (47 سنة) وهو سائق سيارة أجرة عمومي، الذي كان موجودا قرب مطعم قصر الأمراء لحظة وقوع الانفجار: «عادة تقوم دوريات أميركية بتفقّد أوضاع المدينة بعد تصاعد التهديدات التركية قبل أشهر، كانوا يتودّدون للسكان المحليين عبر شراء أطعمة ومشروبات محلّية، ولحظة دخولهم للمطعم قام الانتحاري بتفجير نفسه».
والهجوم تبنّاه تنظيم داعش بعد نحو شهر من إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قراره في 19 ديسمبر (كانون الأول) بسحب قوات بلاده البالغ قوامها ألفي جندي من سوريا معلنا هزيمة التنظيم هناك.
وذكر الطبيب أحمد (40 سنة) الذي يعمل في مشفى الأمل الخاص وسط منبج، أنّ الحصيلة النهاية كانت مقتل 15 شخصاً، «كان من بينهم مقتل 4 أميركيين، جنديان ومترجم مدني ومتعاقد، إلى جانب مقتل عنصرين من مجلس منبج العسكري المرافقين لهم، فيما راح ضحيتها 9 مدنيين».
ويروي أنّه لحظة الانفجار كان متواجداً بالمشفى، وأضاف: «شعرت بأنّ نوافذ المشفى والأبواب ستتعرض للخلع من شدة الصوت، بعد لحظات بدأت تصل الجثث والمصابون، واستنفر الطاقم الطبي واستدعي كلّ الأطباء»، وبحسب الطبيب المناوب وصل يومذاك إلى المستشفى أكثر من 15 جريحاً، مشيرا إلى أنّ: «من بينها كانت هناك 5 حالات حرجة، إحداها فارقت الحياة عند منتصف الليل، لترتفع الحصيلة إلى 15 ضحية».
وتضم مدينة منبج ومحيطها قواعد ومقرات عسكرية لقوات التحالف لا سيما الأميركية، ونادراً ما تُستهدف بتفجيرات من هذا النوع، منذ طرد تنظيم داعش سنة 2016. والعملية الانتحارية فتحت باب التساؤل لدى المراقبين والمتابعين، ما إذا كانت واشنطن ستنفّذ قرارها بسحب قواتها من سوريا بحجة أنّ تنظيم داعش قد تمت هزيمته.
بينما نقل عبد الجبار (30 سنة) والذي يمتلك متجراً لبيع الألبان والاجبان، إنه ومنذ وقوع التفجير الانتحاري أغلق محله، لكنه عاد وفتحت من جديد وأعرب عن قلقه قائلاً: «حركة السوق ضعيفة وتكاد تنعدم البيع والشراء، وعلامات الخوف والقلق ارتسمت على وجوه الجميع».
وفي الآونة الأخيرة صعّدت تركيا من تهديداتها للقيام بهجمات على منبج لطرد القوات المتحالفة مع «وحدات حماية الشعب» الكردية منها، وكانت قد حشدت نحو 8 آلاف مسلح من الفصائل السورية الموالية لها على طول خط نهر الساجور، مهددة بالدخول إلى منبج خلال أيّام معدودة.
وأكد إبراهيم (57 سنة) والذي يمتلك متجراً للذهب وتحويل الأموال، أن غالبية سكان المدينة ليسوا مع دخول فصائل درع الفرات والجيش التركي، وقال: «ينقل أصدقاء من هناك لي صورة الفوضى التي تعيشها المناطق الخاضعة لسيطرة درع الفرات، حروب وسرقة وخطف وسطوا بقوة السلاح، أما منبج تديرها قوة عسكرية منضبطة وجهاز أمني وإدارة مدنية تحظى بقبول من أبناء المدينة».

خوف ورعب
حركة غير اعتيادية في ساحة منبج المركزية وتحديداً أمام شارع مطعم قصر الأمراء. السادس عشر من يناير (كانون الثاني) الجاري يوم غيّر معادلة الحياة في المدينة التي قد تشعل شرارة حرب عالمية ثالثة مصغرة. وارتسمت علامات الاستفهام والقلق على وجوه سكان المدينة، بعد وقوع عملية انتحارية راح ضحيتها مدنيون أبرياء وجنود أميركيون، مخلفة حالة من الفزع في قلوب الأهالي، وزادت حالة الحيرة والترقب بعد التقلبات الميدانية التي تعيشها المدينة ومنطقة شرقي الفرات.
وفي المطعم الذي تعرض للانفجار قبل أيّام، يقف عامل على سلم يقوم بتلبين الجدران التي تهاوت من شدة التفجير، فيما انشغل معلم الديكور بتنظيف سقفه الذي احترق معظمه، بينما كان عمال المطعم منشغلون بإزالة الركام والدمار، وكان يقف على مقربة منهم صالح اليوسف (32 سنة) صاحب مطعم قصر الأمراء يتابع أعمال الصيانة والإصلاح يشرف على العمال.
يروي صالح كيف أنه نجا بأعجوبة من العملية الانتحارية وموت محقق، وأنّ الدورية الأميركية كانت تأتي في الأسبوع مرتين لسوق المدينة، وكانوا يتبضعون يومي الأحد والأربعاء من السوق لشراء حاجاتها بعد الانتهاء من مهمتها، وقال: «أثناء عودتهم قصدوا مطعمي لتناول وجبة الغداء، وعندما وصل الأميركان ذهبت إلى المطبخ لتفقد طلبتهم، ووقع الانفجار وسقطت على الأرض من شدة الانفجار، وأغمي عليه وأسعفوني إلى المستشفى».
ونشر نشطاء وصفحات التواصل الاجتماعي الجمعة الماضي، مقطع فيديو أظهر لحظة وقوع التفجير الانتحاري والذي أودى بحياة جنود أميركيين و9 مدنيين ومقاتلين من قوات «مجلس منبج العسكري»، ولم يتم التأكد من هوية منفذ العملية وجنسه ما إذا كانت سيدة أو رجل، وتشرف قوات التحالف الدولي والولايات المتحدة الأميركية على سير التحقيقات.
ولم يخف صالح أنّ الحادثة تسببت بنشر حالة من الخوف والرعب بين الناس: «منذ 8 سنوات ونحن نعيش بين الموت، شاهدنا الموت بقصف الطيران الحربي والعبوات الناسفة والصواريخ وقذائف الهاون، لكنها المرة الأولى التي أتعرض فيها لحادثة انفجار حزام ناسف»، مؤكداً أنّ الحياة ستستمر.
وأضاف: «كما تشاهد، نعيد ترميم المطعم ما جنينياه خلال عشرات السنوات دمر في لحظة، لكن نشكر الله ونحمده».
وكانت تعد منبج نقطة جغرافية مهمة في شمال سوريا، إذ استخدمها تنظيم داعش سابقاً لاستقبال وإرسال عناصره من وإلى سوريا، وخاصة أولئك القادمين من أوروبا وباقي أنحاء العالم، إلا أن «قوات سوريا الديمقراطية التي دعمها طيران التحالف الدولي تمكنت من طردها منذ عام 2016».
أما حسن (47 سنة) والذي كان منشغلاً بإصلاح واجهة ستوديو التصوير الذي يمتلكه، ويقع بجوار المطعم الذي تعرض للانفجار، يروي التفاصيل الأولى للحادثة، ليقول: «لحظة وقوع الانفجار كنت داخل المحل، تطايرت الشظايا بسرعة مثل الرصاص، وتعرضت النوافذ والأبواب للكسر من شدة الضغط، ركضت إلى المكان ولكني وجدت الجثث ملقاة في كل مكان»، ووصف اللحظات التي عاشها كأنه يوم الحشر، يضيف: «كأنها القيامة، فالجثث كانت متقطعة ولم يتبق منها سوى الأشلاء، كنت أركض فوق الموتى لأسعف الجرحى والمصابين على قيد الحياة، حملت أطفالاً بعمر الربيع كانوا يتنفسون أنفاسهم الأخيرة».
وسادت حالة من الخوف والترقب عند أصحاب المحال والأهالي الذين كانوا يتبضعون بالسوق المركزي لمنبج، ونقل الأهالي أنّ حركة المتسوقين وتنقلهم اقتصرت على شراء حاجات أساسية بعد تدهور الأوضاع الأمنية فيها.
يقول الصيدلي محمود (49 سنة) المتحدر من مدينة منبج، إنّ «الخيط الأبيض من الأسود بات ظاهراً للجميع، فالذين قاموا بالعملية ليسوا بشرا. من يستهدف المدنيين العزل ليس إنسانا، لأنه تسبب بمقتل 9 أبرياء لا ذنب لهم»، في إشارة إلى العملية الانتحارية التي تنباها تنظيم داعش المتطرف.
وأشار إلى أنّ سكان منبج والسوريين عموماً لم ينعموا بالاستقرار والأمان، وتابع حديثه ليقول: «بعد طرد (داعش) شهدت منبج ازدهاراً تجارياً وانتعاشا اقتصاديا، لكن منذ أشهر تحولت من جديد لساحة صراع تتنافس عليها جميع الجهات العسكرية المتصارعة»، ونقل أنّ سكان المدينة يخشون من عودة النظام ويعزو السبب إلى: «الكثير لم يخدم الجيش الإلزامي، وهناك نشطاء مطلوبون وهناك من عمل مع الجيش الحر و(داعش)، وحالياً مع الإدارة الذاتية. ففي حال عادت الأجهزة الأمنية هؤلاء بالدرجة الأولى يخافون من عودته».
وتعد مدينة منبج خطا اقتصاديا ساخناً تربط مدينة حلب البوابة التجارية لسوريا بطرفي نهر الفرات الشرقي والغربي منه، وممراً تجارياً يربط شمال سوريا بشرقه. وفي سوق المدينة، ينتشر عناصر من قوات الأمن الداخلي وشرطة المرور ينظمون السير رغم ضعف الحركة المرورية بعد الانفجار.
ويرى شوقي محمد الخبير في اقتصاديات الطاقة والنفط، أنّ الحالة السورية عموما ومنبج خصوصا، باتت معقّدة ولم يعد بالإمكان التكهّن بمجريات الأحداث، ويعزو السبب إلى «تقاطع مصالح اللاعبين الدوليين والإقليميين وتعارضها بالوقت نفسه على الساحة السورية».
ويرى أنّ التفوّق النوعي للعنصر الأميركي اليوم يجعل من الإدارة الأميركية الأكثر قدرة بالتحكم في سير الأحداث والضغط على باقي الأطراف، ويضيف: «لا أعتقد أن واشنطن ستنفذ قرار الانسحاب كما تشتهيه بعض الأطراف، ومردّ ذلك أنّ تهديد تنظيم داعش لا يزال قائما من جهة، والتهديد الإيراني وتوغله في الجغرافيا السورية من جهة ثانية».
وتقع منبج عند ملتقى ثلاث مناطق نفوذ منفصلة للروس والأتراك والأميركيين. وانسحاب القوات الأميركية قد يؤدي إلى مواجهة محتملة بين «وحدات حماية الشعب» الكردية مع تركيا، ويفتح الطريق أمام اتساع نطاق النفوذ الروسي والإيراني في المناطق التي ستغادرها القوات الأميركية.
فإعلان ترمب بسحب قوات بلاده من سوريا، جاء لتبيان حقيقة واقعية من وجهة النظر الأميركية، مفادها أن تواجد قواتها صمّام الأمان لهذه المنطقة بحسب الخبير شوقي محمد، الذي أضاف: «هي رسالة قوية للحكومة السورية وحلفائها إيران وروسيا، بأن انسحابها يعني دخول القوات التركية والجيش الحر إلى منبج، ورسالة بالوقت نفسه للجانب التركي بأنّ وجودها يعني عدم قدرة الجيش السوري السيطرة على المنطقة، وبالتالي عدم تمدّد النفوذ الإيراني لحدودها الجنوبية».

مجلس حكم
تتبع منبج مدينة حلب شمال سوريا، وتبعد عنها نحو 80 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي، كما تبعد 30 كيلومتراً فقط عن الحدود التركيّة. خرجت عن سيطرة النظام الحاكم في شهر يوليو (تموز) 2012، بعد أن حررتها فصائل من الجيش السوري الحر آنذاك، لتخضع صيف 2014 لسيطرة عناصر تنظيم داعش؛ لكن «قوات سوريا الديمقراطية» و«مجلس منبج العسكري» وبدعم من التحالف الدولي، تمكنوا من انتزاع منبج في 15 أغسطس (آب) 2016، وطرد عناصر التنظيم، بعد معارك عنيفة استمرت لأكثر من شهرين.
ومنذ بداية 2017 يتولى المجلس التنفيذي لمنبج وريفها إدارة المدينة، ويتشكل من 13 هيئة ولجنة خدمية، منها الصحة والتعليم وقوات الأمن الداخلي وهيئة العدالة وغيرها، وشكلت الإدارة جهازاً للشرطة وللمرور، يتلقى التدريب والدعم العسكري من التحالف الدولي.
ولدى حديثه إلى «الشرق الأوسط» قال محمد خير الشيخو، الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي إنّ منبج جزء من سوريا تنتظر حلا شاملا، وقال: «الحلّ الوحيد هو جلوس السوريون على طاولة الحوار، لوضع حدّ للنزاع الدائر في بلدهم منذ 8 سنوات عجاف، لأنّنا نؤمن بالحوار السوري - السوري».
وقال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في تصريحات صحافية نشرت قبل يومين، إنّه أبلغ الرئيس الأميركي دونالد ترمب في اتصال هاتفي «استعداد تركيا لتولي الأمن في منبج السورية»، والتي شهدت مقتل أربعة أميركيين في تفجير وقع الأسبوع الماضي.
وفي رده على إعلان إنشاء منطقة آمنة، يقول محمد خير: «تركيا طالبت مراراً بمنطقة آمنة، والسؤال آمنة من أي طرف، تركيا تعتدي على الأراضي السورية وتحتل مناطق بريف حلب الشمالي وتصعّد من تهديداتها»، ونقل أنّ ميثاق مجلس سوريا الديمقراطية والمجلس التنفيذي يعمل تحت جناحيه، يتعهد بالحفاظ على علاقات حسن الجوار، منوها: «منذ سيطرة (قوات سوريا الديمقراطية) على الشريط الحدودي لم يهدّد أي طرف الأمن القومي التركي، ولم تطلق رصاصة واحدة على الجانب التركي».
وأكد رئيس المجلس التنفيذي أنّ التحالف الدولي والولايات المتحدة تدعمان المجلس خدميا عبر مشاريع إعادة استقرار المناطق المحرّرة من قبضة تنظيم داعش، وقال: «حتى اليوم لم تتوقف البرامج المخططة، ولا يزال الأميركان متواجدين على مستوى الموظفين والعاملين في هذه البرامج»، لكن الخطط المستقبلية والتي كانت عادة ما تتم مناقشتها مع بداية كلّ عام جديد، لافتا إلى أنّه: «لم يتم طرح أي مشروع أو تخصيص موازنة لتنفيذ برامج، ولم يبلغونا رسميا بجدول زمني لانسحابهم من منبج».
وكشف رئيس المجلس التنفيذي عن وجود حوارات مع محافظة حلب التابعة للحكومة السورية لعودة دائرة السجل المدني إلى مدينة منبج، وقال: «الكثير فقدوا هوياتهم جراء الحرب، أو عمرهم صار بسنّ الحصول على بطاقة شخصية ورقم وطني، حتى تاريخية لم نصدر أي بطاقة شخصية، على عكس مناطق ثانية والتي أصدرت هويات ووثائق رسمية»، مرحّباً بعودة مؤسسات الدولة الخدمية والتي باتت ضرورية لتقديم التسهيلات لسكان مدينة منبج، على حدّ تعبير محمد خير الشيخو.
وتشدّد قوات الأمن الداخلي من إجراءاتها الأمنية خشية وقوع المزيد من العمليات الانتحارية. وفي مدخل منبج الشرقي يطلب عناصر من الأسايش (شرطة كردية) يلبسون زيا موحدا الهويات الشخصية وتتأكد من أصحابها، كما تسيّر قوات النجدة دوريات داخل المدينة وفي مخارجها الرئيسية، إلا أنّ ذلك كله لا يهدئ من نفوس السكان القلقين بعد الانفجار حيث تسبب بنشر حالة من الخوف والرعب.
ونقلت ساجدة البالغة من العمر أربعين عاماً وكانت تلبس ثوباً أسود وغطاء رأس ملونا، أنّ الأوضاع الأمنية في مدينتها تدهورت منذ تصعيد تركيا تهديداتها بشن عملية عسكرية.
وقالت: «بعد سواد (داعش) شهدت منبج حالة من الهدوء والاستقرار، كّنا بألف خير. فمنذ أشهر وفي كل مساء لا نعلم من هي الجهة العسكرية التي ستدخل المدينة باليوم التالي، والله أعلم». تقع مدينة منبج على الطريق الدولي السريع، حيث يربط مدينة حلب بالمحافظات الشرقية الرقة ودير الزور والحسكة، وتتقاسم السيطرة عليها ثلاث جهات عسكرية متصارعة:
القوات النظامية المدعومة من روسيا تسيطر على ريفها الجنوبي أبرزها بلدات الخفسة ومسكنة، فيما تسيطر فصائل «درع الفرات» بدعم من الجيش التركي على غرب نهر الساجور، بينما تسيطر قوات «مجلس منبج العسكري» على مركز المدينة وريفها الشرقي والشمالي المدعومة من التحالف الدولي بقيادة واشنطن.
ودعت قوات مجلس منبج العسكري الشهر الماضي القوات الموالية لدمشق لحماية منبج من هجوم تركي بعد تصعيد تهديداتها، وردت القوات الحكومية المدعومة من روسيا بنشر قواتها خارج المدينة، وتسيّر روسيا والقوات النظامية دوريات مشتركة على الحدود الفاصلة بين مناطق التماس الخاضعة لطرفي الصراع هناك، ويتقاسم «مجلس منبج العسكري» شرق نهر الساجور، فيما تسيطر «قوات درع الفرات» والجيش التركي على غرب النهر.
وعن عدد عناصر القوات الحكومية، قال علي أبو نجم نائب القائد العام لـ«مجلس منبج العسكري»، إن «عددهم لا يتجاوز 300 عنصر، ومعظمهم على خط التماس مع فصائل (درع الفرات) على الحدود الإدارية الفاصلة بين منبج وجرابلس - الباب، ومنطقة العريمة فقط». وأكد أنه خلال الاجتماعات الرسمية مع التحالف الدولي وأميركا: «لم تذكر جدولا زمنيا لانسحابها من منبج وشرق نهر الفرات، ولا تزال قوات التحالف تسير دوريات على طول خط التماس شرق نهر الساجور، في حين تسير روسيا والقوات النظامية دورياتها في مدينة العريمة حتى نقطة التقاء الساجور مع العريمة».
وذكر أن مجلسي الباب ومنبج المتحالفين مع قوات سوريا الديمقراطية، وبالتنسيق مع قوات النظام، «نشروا 5 نقاط مراقبة داخل العريمة، حتى المثلث الفاصل بين الجيش التركي وروسيا وأميركا»، منوهاً بأن القوات النظامية وروسيا كانت متواجدة سابقاً في العريمة، لكنها انسحبت قبل 6 أشهر: «اتصلنا مع الروس عبر قاعدة حميميم وطلبنا منهم بشكل رسمي عودة نقاط المراقبة ودخول الجيش السوري لحماية الحدود الفاصلة من التهديدات التركية».
وفي بدايات عام 2017، تشكل مجلس منبج العسكري من أبناء المدينة من العرب والأكراد وتلقى استشارات وتدريبات عسكرية من التحالف الدولي، وأعلن المجلس في بيان رسمي نشر على حسابه أمس أنه سيواصل العمل لـ«إحباط كل المؤامرات التي تستهدف إعادة الفوضى وضرب الأمن والاستقرار». ويبلغ عدد سكان منبج حسب الأرقام الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء عام 2004، ما يقارب 100 ألف نسمة، إلا أن هذا العدد تضاعف مرات عدة بعد نزوح السكان من المناطق المجاورة إليها مثل حلب وكوباني (عين العرب) وعفرين وغيرها من المدن السورية التي شهدت دماراً واسعاً.
ونقل صالح اليوسف صاحب مطعم «قصر الأمراء»، أنّ الانتحاري أو الانتحارية الذي استهدف الدورية الأميركية: «إذا كانت أميركا خصمه لماذا لم يذهب إلى مكان أو نقطة عسكرية واستهدفهم، لماذا نفذ العملية وسط شارع مزدحم راح ضحيته المدنيون وسقط 9 أغلبهم نساء وأطفال»، وفتح المطعم: «رسالة للجهة التي نفذت العملية والتي وقفت خلفها، لن تثنينا هذه العمليات، سنواصل الحياة بهمة وسواعد هؤلاء الذين يساعدونا في إعادة افتتاح المطعم».



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري