رحيل المخرج جورج نصر «أبو السينما اللبنانية» عن عمر 92 سنة

كان يحلم بالعودة للوقوف وراء الكاميرا ولو لمرة واحدة

المخرج اللبناني جورج نصر
المخرج اللبناني جورج نصر
TT

رحيل المخرج جورج نصر «أبو السينما اللبنانية» عن عمر 92 سنة

المخرج اللبناني جورج نصر
المخرج اللبناني جورج نصر

وكأنه مكتوب على لبنان في هذه الفترة أن يعيش الأحزان الواحدة تلو الأخرى، فيبكي حبات عناقيد الفن والإعلام التي ساهمت في صناعة تاريخه الثقافي. فمنذ يومين غادرتنا الأديبة والصحافية مي منسى، وبعد يوم واحد، لحقت بها المخرجة سهام ناصر، فيما خسر لبنان البارحة «أبو السينما اللبنانية» المخرج جورج نصر عن عمر ناهز الـ92 سنة، إثر ذبحة قلبية أصيب بها. غادرونا جميعاً وكأنهم اتفقوا مسبقاً على موعد الرحيل بصمت رغم طبيعة عملهم تحت الأضواء.
فجورج الذي كان لا يزال يتمتع بصحة جيدة تسمح له بالقيام بنزهته الصباحية ليقصد أحد مقاهي شارع الحمراء ويرتشف فنجان قهوته اليومي، أصيب بوعكة صحية قبل ثلاثة أيام من رحيله، التزم خلالها الصمت المطبق، هو الذي يعيش مع زوجته الألمانية في منطقة قريطم وبالتحديد في مبنى بركات. وفي اليوم الرابع شعر بالتحسن فقرر الانطلاق في إيقاع يومه الروتيني إلا أنه فجأة سقط على قارعة الشارع حيث يسكن. وعندما وصل فريق الإسعاف من الدفاع المدني لنقله إلى المستشفى بعد اتصال جيرانه، كان نصر قد ودع الحياة.
ولد جورج نصر عام 1927، في طرابلس وأتم دراسته الابتدائية والتكميلية والثانوية في مدرسة الفرير. وبقي حبه لهذه المدينة كبيراً إلى حد جعله يتردد دائماً لزيارتها والمساهمة في نشاطاتها الثقافية ولا سيما في «مهرجان طرابلس للأفلام» إذ كان متمسكاً بحضوره شخصياً وبالتعاون مع رئيسه إلياس خلاط على كيفية برمجته. وجورج يختلف عن أشقائه الذين توجهوا نحو العمل في مجال المحاسبة. لقد شذ عن قاعدتهم وقرر التوجه إلى عالم آخر شغف به منذ نعومة أظافره ألا وهو السينما. فلقد كان يثابر على مشاهدة ثمانية أفلام في الأسبوع، وهو الأمر الذي خزن في ذاكرته تراكمات لأساليب مخرجين عشقهم وفي مقدمهم جون فورد الذي كان قدوته في مهنته هذه.
درس أربع سنوات في جامعة University of California in Los Angelos - ACLA، وحاز الإجازة عام 1954 بتفوق. أما فترة التدريب فكانت بين استوديوهات هوليوود، والاستوديوهات الفرنسية. وفي تلك الأثناء أُتيحت أمامه فرصة العمل مع فريق إنتاج للسينما والتلفزيون في الخارج، لكنه فضل العودة إلى الوطن الجميل (1955)، وفي باله حلم كبير: تأسيس سينما في لبنان. أنتج أول أفلامه السينمائية في عام 1957 وهو «إلى أين؟». ويحكي هذا الفيلم عن معاناة المهاجرين اللبنانيين إلى أميركا والبرازيل، والظروف المأسوية التي يعيشونها ناقلاً مشاهداته الحية عنها عندما كان في أميركا.
شكل هذا الفيلم علامة فارقة في مشوار نصر، إذ وضعه على خارطة السينما العالمية بعدما عُرض ضمن مهرجان كان السينمائي من العام نفسه. وفي السادس والعشرين من شهر أبريل (نيسان) في عام 2017، احتفى مهرجان طرابلس السينمائي بمرور 60 سنة على عرض فيلم «إلى أين؟» في مهرجان «كان» السينمائي. وبعد ذلك بشهر احتفى مهرجان «كان» بالمخرج اللبناني في استعادة خاصـة لذلك الفيلم تكريماً له. ووصف جورج نصر يومها هذا التكريم بالجائزة التي يفخر بها.
قدم نصر أفلاماً سينمائية عدة من بينها «الغريب الصغير» في عام 1961. و«مطلوب رجل واحد» في عام 1973.
واكب المخرج اللبناني أجيالاً كثيرة عملت في السينما اللبنانية منذ انطلاقتها فألف مع جورج قاعي وميشال هارون في أواخر الخمسينات عملاً من أجل السينما اللبنانية ونشرها في العالم. «كنا لا نقبل تقديم إلا أفلام سينمائية تحكي اللبنانية، ومن ثم كانت مرحلة محمد سلمان الذي مصر السينما في لبنان، فأنتج سلسلة أفلام لبنانية ذات روح مصرية. وفي عام 1962 وإثر تأميم الرئيس الراحل عبد الناصر السينما المصرية، شهد لبنان موجة من الإنتاجات السينمائية تشكلت نجومها من مصر بالدرجة الأولى، فتحول حينها الموزع السينمائي اللبناني إلى منتج لها، بحيث كان يجري إطلاق أكثر من 20 فيلماً سينمائياً في العام الواحد لا هوية أو جنسية محددة لها». قال نصر في مقابلة سابقة له مع «الشرق الأوسط» واصفاً خلالها كيف جرت محاربته في تلك الفترة.
شغل منصب نقيب الفنيين السينمائيين لأكثر من مرة، وحاول مراراً حث الدولة اللبنانية على دعم هذه الصناعة وتشجيعها. وفي موازاة عرض فيلم «إلى أين» في مهرجان خصصته له صالات سينما متروبوليس في عام 2017. بعد أن رُممت نسخته القديمة من قِبل شركة «أبوط برودكشن»، عرض له وثائقي يحكي عن أهم محطات حياته بعنوان un certain Naser)) الذي أطل فيه شخصياً، وهو من إخراج أنطوان واكد ونبيل مسعد فأهدته إثرها لجنة تحكيم «آفاق السينما العربية» التابع لمهرجان القاهرة السينمائي جائزتها تقديراً له. كما وقع في العام نفسه كتاباً بالفرنسية تناوله من تأليف غسان قطيط.
آخر فيلم صوره كان في عام 1997 بعنوان: «لبنان يروي الزمن»، وهو وثائقي عن لبنان نفذه يومها بطلب من وزارة السياحة. وكان يتوق للعودة إلى هذه الصناعة قائلاً: «محروق قلبي» لوضع عيني على عدسة كاميرا السينما ولأقوم بفيلم سينمائي من جديد. فعندما أضبط كادر الصورة أشعر بانعكاسها علي وكأنها قفزت إلى قلبي، فأرتجف فرحاً». أحتفظ بخمسة سيناريوهات سينمائية كاملة في أدراجه بينها «نحن تائهون» و«الثأر»، وهذا الأخير يتناول قصة حالات الثأر التي سمعها من أهل بلدة شمالية، فنقلها بقلمه في عام 1959. ليعود وينقحها لاحقاً، بعدما أدخل على النص بناء دراميا أكثر أهمية، زوده بها مشواره في التعليم الجامعي (15 سنة في جامعة الألبا). وآخر ما ردده في هذا الصدد: «لقد عُرض علي شراء سيناريو هذا الأخير مرتين عندما كنت في هوليوود وفي باريس، إلا أنني رفضت لأنني أرغب في تنفيذه بنفسي».
وتُودع مدينة طرابلس اليوم المخرج اللبناني العالمي جورج نصر ويقام له مأتم في كنيسة مار مارون في المدينة، يحضره حشد من أهل الفن والإعلام والسياسة، إضافة إلى أقاربه وزوجته التي تنوي مغادرة لبنان من بعده إلى بلدها الأم ألمانيا.


مقالات ذات صلة

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق محمد سعد في العرض الخاص لفيلم «الدشاش» (الشركة المنتجة للفيلم)

هل استعاد محمد سعد «توازنه» بفضل «الدشاش»؟

حقق فيلم «الدشاش» للفنان المصري محمد سعد الإيرادات اليومية لشباك التذاكر المصري منذ طرحه بدور العرض.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق تماثيل وقوالب من الفخار مصنوعة قبل الميلاد (مكتبة الإسكندرية)

«صناعة الفخار»... وثائقي مصري يستدعي حرفة من زمن الفراعنة

يستدعي الفيلم الوثائقي «حرفة الفخار» تاريخ هذه الصناعة التي تحمل طابعاً فنياً في بعض جوانبها، على مدى التاريخ المصري القديم، منذ أيام الفراعنة.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق لقطة من الفيلم تجمع «شاهيناز» وأولادها (الشركة المنتجة)

«المستريحة»... فيلم مصري يتناول النصّابين يمزج الكوميديا بالإثارة

تصدَّرت مجسّمات دعائية للأبطال دار العرض عبر لقطات من الفيلم تُعبّر عنهم، فظهرت ليلى علوي في مجسّم خشبيّ جالسةً على حافة حوض استحمام مليء بالدولارات.

انتصار دردير (القاهرة )

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».