إلياس مرقص... نموذج المفكر النقدي

ما إن يمر عام على رحيل علم من أعلامنا حتى تبدأ ذكراه بالبهوت

إلياس مرقص... نموذج المفكر النقدي
TT

إلياس مرقص... نموذج المفكر النقدي

إلياس مرقص... نموذج المفكر النقدي

قد يكون النسيان أسهل طريقة للحياة، كما قال عبد الرحمن منيف. وقد يكون شكلاً ما للحرية، كما قال جبران خليل جبران، لكنه قد يكون جهلاً، كما سبق أفلاطون إلى القول. وفي مثل ما أنا بصدده من الحديث عن إلياس مرقص، قد يكون النكران هو النسيان، أو هو الوجه الآخر له، إذْ ما إن يحول الحَوْل على رحيل علم من أعلامنا، حتى تبدأ ذكراه بالبهوت، ثم سرعان ما نُصاب بالبَهْت إن أتى أحدهم على ذكر الراحل الذي قد نكون بلوناه أيضاً في حياته بالنكران، كما هو الحال مع إلياس مرقص.
فلأبدأ من برزخ الرحيل، مقلداً بعض أفانين الرواية، فبذلك أرى إلياس مرقص لآخر مرة في بيته مع أصدقاء، منهم الكاتبان الراحلان بوعلي ياسين ويوسف الجهماني.
كانت حرب الخليج الثانية تجلجل وتزلزل منذ أسبوع. وكان إلياس يغالب المرض، ويسأل عن وقائع الحرب. وما إنْ شرعنا نتسابق في استظهار آيات الحرب التلفزيونية حتى لخص إلياس لنا مقالاً للفيلسوف الفرنسي جان بودريار كان قد نشره عشية الحرب في الليبراسيون، وجزم فيه أن الحرب لن تقع. وفيما تابع إلياس من الحديث عن الحرب، بدا كمن قرأ ما سوف يكتبه بودريار بعد شهور، فإذا بالحرب التي وقعت كأنها لم تقع!
في اليوم التالي (26-1-1991) رحل إلياس مرقص عن أربعة وستين عاماً، وعن كنز من التأليف والترجمة، عنوانه الوحيد هو الفكر النقدي. وكان إلياس قد أُوفد في البعثة السورية الأولى عقب الاستقلال إلى جامعة «بروكسل الحرة»، حيث تعرف فيها على الشيوعية. وعاد عام 1952 يضيق بطموحاته التي سرعان ما ضاق بها الحزب الشيوعي السوري، فطرد هذا الذي يطالب بالديمقراطية وينتقد الماركسية السوفياتية.
ولم يكتف الحزب بالتشهير بإلياس مرقص عميلاً لـ«CIA»، بل اعتدى عليه بلطجية الحزب.
ومن المفاصل المهمة في حياة إلياس مرقص، لقاؤه بياسين الحافظ (1930 - 1978)، أثناء أدائهما الخدمة العسكرية الإلزامية، وهذا ما مضى بالحافظ إلى الماركسية، كما سيمضي بالرجلين إلى كثير؛ كثير منه المشروع الثقافي الكبير: «دار الحقيقة للنشر»، الذي سيتولاه إلياس بعد الرحيل المبكر للحافظ.
لقد عنون «النقد» عدداً من المؤلفات السجالية الكبرى لإلياس مرقص، كما شكّل النقد مضمون سائر مؤلفاته، سواء تعلق الأمر بالفكر أم بالسياسة، وبالشيوعية أم بالقومية أم بالفلسفة. وقد كان كتابه الضخم «الماركسية والشرق - 1968» أول ما قرأت له، فأسهم في تربيتي النقدية، بينما كنت أخرج من الوجودية وأطرق باب الماركسية على إيقاع هزيمة 1967. قبل ذلك التمع بخاصة كتاب إلياس «نقد الفكر القومي عند ساطع الحصري - 1966»، ومثله كتاب «نقد الفكر المقاوم: عفوية النظرية في العمل الفدائي - 1970». وفي هذا السياق جاءت المعارك الفكرية التي خاضها إلياس مرقص مع صادق جلال العظم وناجي علوش وبسام طيبي وآخرين. كما تأتي في هذا السياق المخطوطات التي تركها. وأذكر أنه حدثني غير مرة عن خمسة دفاتر مخطوطة له في الموسيقى. وقد كانت الترجمة له صنواً لحقل التأليف، خصوصاً أن ما كان يكتب من مقدمات للكتاب المترجم ومن هوامش، كان يضاهي الكتاب نفسه بالحجم والأهمية.. ومن كثير أشير إلى «فلسفة عصر النهضة» لإرنست بلوخ، و«المؤلفات السياسية الكبرى» لجان جاك شيفاليه، و«تحطيم العقل» لجورج لوكاش في أربعة أجزاء، ومختارات من هيغل في جزأين، و«جاذبية الإسلام» لمكسيم رودنسون. ومما يضيئ تراث إلياس مرقص ما نُشِر بعد رحيله من دراسات عنه أو حوارات معه، ومن أشملها وأهمها ما كتبه عبد الله تركماني وعبد الله هوشه ونضال درويش، كذلك «حوار العمر: أحاديث مع إلياس مرقص» لجاد الكريم جباعي و«إلياس مرقص: حوارات غير منشورة» لطلال نعمة.
من الأفكار والأطروحات التي شغلت إلياس مرقص، وتتضاعف إليها الحاجة في زمن الزلزلة العربية الضاربة منذ عام 2011، ما قال في حاجة المثقف العربي إلى «كلمات - مخدات» يرتاح رأسه عليها، فينشئ قاموساً وثنياً شيئياً مانوياً، هو الأسوأ بين القواميس. فالمثقف يوثّن كلمات كبيرة ومتواترة في التداول، مثل: مادة، روح، قانون، شرع، ثورة، أصالة، حداثة، حزب، أمة، واقع، دين، تراث. ويمضي إلياس مرقص إلى أن «الأزمة» تكمن في المثقف العربي، وليس في الحزب الحاكم أو في النظام. وقد كان المجتمع المدني من شواغل إلياس مرقص الفكرية والسياسية، تأسيساً على أن تاريخ الإنسان، اليوم «يتخطى كثيراً مهمة تكوين وإتمام المجتمع المدني، أو بالأصح يتجاوزها بالمعنى الهيغيلي للكلمة: يبقيها ويحذفها ويتخطاها بآن». كما كتب في «المذهب الجدلي والمذهب الوضعي». وهو يذهب إلى أن المجتمع الغربي اليوم منتكس عن المجتمع المدني - اليورجوازي السابق. فالجانب التذرري والانخلاعي يغلب ويحمل توتاليتاريات جديدة وقديمة.
لهذا الحاضر الموّار ننادي من تراث إلياس مرقص ما قال في الثورة والحرية والليبرالية والديمقراطية والتقدم والتغيير والدين والجدل والمنطق واللغة: من قبله اشتقّ «ذوّت» من الذات، و«جوّن» من الجوّانية؟
من أسف أن علّتي النسيان والنكران تغيّبان صوته الذي طالما دوّى بسؤال الزلزلة الجوهري: «لماذا تخلّفتم بينما تقدم غيركم؟». ومن أسف أن هاتين العلتين تتعززان بافتقاد كتبه، فلا يبقى إلا مثل هذه اللحظة الشخصية، لكأني أمضي إلى حيث سُجّي في مقبرة الفاروس، في اللاذقية التي بلغ النكران بأوليائها أن بخلوا على إلياس مرقص بلوحة في رأس شارع أو واجهة مدرسة أو حديقة. ولكن ما همَّ، ما دامت اللحظة الشخصية تنبض في ذكرى الرحيل أو من دونها، بما يتجدد من حضور إلياس مرقص، وهو - مثلاً - يفتتح ليلة لا تنسى، كانت بصحبة الصديق حبيب عيسى في منزلي، فلا تفتر حماسة ولا ذاكرة، ولا دفقات إلياس مرقص حتى يصل السابعة مساءً بالسابعة صباحاً: اثنتا عشرة ساعة من نهر يتدفق في الفن والتربية - هو وأنا كنا نعمل مدرّسين - وما يعصف بسوريا آنئذٍ من الصراع المسلح بين «الإخوان المسلمين» والسلطة، وفي إفلاس التيارات - الأحزاب الشيوعية والماركسية والقومية والناصرية والبعثية والإخوانية وو.. وبعد تلك الليلة بقليل، أهلّ العام الدراسي الجديد (1-10-1979) بقانون «تبعيث» التربية، أي تنقية جحافل المعلمين والمدرسين من غير المنتسبين إلى حزب «البعث» الحاكم. وقد بدأ التطبيق بدور المعلمين والمعلمات، فَنُقِل إلياس مرقص من دار المعلمين في اللاذقية إلى التعليم الإعدادي في ثانوية جول جمال، ونُقِلْتُ من دار المعلمات إلى ثانوية للبنين، فقلت بعد أسبوع للمهنة التي أحببت وداعاً. وكابد إلياس مرقص إلى أن أشارت عليه زوجتي بالتقاعد الصحي، وهذا ما كان.
هذا ما كان من حياة ومن موت، أي مما لا يبلوه نسيان ولا نكران، ما دام المعني بالأمر هو المفكر النقدي إلياس مرقص.



«المشتري»... كوكب بلا سطح ويتسع لأكثر من 1000 أرض بداخله

صورة تخيلية لمركبة «أوروبا كليبر» وهي تحلق بالقرب من قمر «المشتري - أوروبا» (ناسا - رويترز)
صورة تخيلية لمركبة «أوروبا كليبر» وهي تحلق بالقرب من قمر «المشتري - أوروبا» (ناسا - رويترز)
TT

«المشتري»... كوكب بلا سطح ويتسع لأكثر من 1000 أرض بداخله

صورة تخيلية لمركبة «أوروبا كليبر» وهي تحلق بالقرب من قمر «المشتري - أوروبا» (ناسا - رويترز)
صورة تخيلية لمركبة «أوروبا كليبر» وهي تحلق بالقرب من قمر «المشتري - أوروبا» (ناسا - رويترز)

قال بنيامين رولستون الأستاذ المساعد في الفيزياء بجامعة كلاركسون الأميركية، إنه لا توجد لكوكب «المشتري» أرض صلبة ولا سطح مثل العشب أو التراب الذي نطأه هنا على الأرض، ولا يوجد شيء للمشي عليه، ولا مكان لهبوط مركبة فضائية.

وأضاف رولستون، في مقال نشرته وكالة «أسوشييتد برس» للأنباء: «حتى بصفتي أستاذاً للفيزياء يدرس جميع أنواع الظواهر غير العادية، أدرك أن مفهوم العالم من دون سطح يصعب فهمه، ومع ذلك لا يزال (المشتري) لغزاً، حتى مع بدء مسبار (ناسا) الآلي (جونو) عامه التاسع في الدوران حول هذا الكوكب الغريب».

واستعرض بعض الحقائق حول «المشتري»، مثل أنه الكوكب الخامس من الشمس، بين المريخ وزحل، وإنه أكبر كوكب في النظام الشمسي، ويتسع لأكثر من 1000 أرض بداخله.

وقال: «بينما تتكون الكواكب الداخلية الأربعة للنظام الشمسي - عطارد والزهرة والأرض والمريخ - من مادة صلبة وصخرية، فإن كوكب (المشتري) هو عملاق غازي له تكوين مشابه للشمس؛ إنه كرة غازية هائجة وعاصفة ومضطربة بشدة، وبعض الأماكن على (المشتري) بها رياح تزيد سرعتها عن 400 ميل في الساعة (نحو 640 كيلومتراً في الساعة)؛ أي أسرع بثلاث مرات من إعصار من الفئة 5 على الأرض».

وذكر أن «(المشتري) غلافه الجوي مكون في الغالب من الهيدروجين والهيليوم، وكما هو الحال على الأرض، يزداد الضغط كلما تعمقت، ولكن على كوكب (المشتري) يكون الضغط هائلاً ومع ضغط طبقات الغاز فوقك أكثر فأكثر، يبدو الأمر كأنك في قاع المحيط، ولكن بدلاً من الماء فإنك محاط بالغاز، ويصبح الضغط شديداً لدرجة أن جسم الإنسان سينفجر، وسوف يتم سحقك، وبالنزول 1000 ميل (1600 كيلومتر)، يبدأ الغاز الساخن الكثيف في التصرف بشكل غريب. في النهاية، يتحول الغاز إلى شكل من أشكال الهيدروجين السائل، مما يخلق ما يمكن اعتباره أكبر محيط في النظام الشمسي، وإن كان محيطاً من دون ماء».

صورة قدمتها وكالة «ناسا» لقمر «المشتري - أوروبا» الذي التقطته مركبة الفضاء «جونو» (أ.ب)

وأردف: «مع النزول 20000 ميل أخرى (نحو 32000 كيلومتر)، يصبح الهيدروجين أشبه بالمعدن السائل المتدفق، وهي مادة غريبة جداً لدرجة أن العلماء لم يتمكنوا إلا مؤخراً، وبصعوبة كبيرة، من إعادة إنتاجها في المختبر، ويتم ضغط الذرات في هذا الهيدروجين المعدني السائل بإحكام شديد بحيث تكون إلكتروناته حرة في التجول».

وعن قلب «المشتري» قال: «لا يزال العلماء يتجادلون حول الطبيعة الدقيقة لمادة اللب؛ فهي ليست صلبة مثل الصخور، ولكنها أشبه بمزيج ساخن وكثيف وربما معدني من السائل والصلب، والضغط في قلب (المشتري) هائل لدرجة أنه سيكون مثل 100 مليون غلاف جوي للأرض تضغط عليك، أو مبنيين مثل (إمباير ستيت) فوق كل بوصة مربعة من جسمك، لكن الضغط لن يكون مشكلتك الوحيدة، فالمركبة الفضائية التي تحاول الوصول إلى قلب (المشتري) ستذوب بسبب الحرارة الشديدة - 35000 درجة فهرنهايت (20000 درجة مئوية)، هذا أعلى بثلاث مرات من سطح الشمس».

وقال إن «(المشتري) صحيح مكان غريب ومخيف، ولكن إذا لم يكن (المشتري) موجوداً، فمن المحتمل أن البشر ما كانوا ليوجدوا؛ هذا لأن (المشتري) يعمل كدرع للكواكب الداخلية للنظام الشمسي، بما في ذلك الأرض، وبفضل جاذبيته الهائلة، غيّر (المشتري) مدار الكويكبات والمذنبات لمليارات السنين. ومن دون تدخل (المشتري)، كان من الممكن أن يصطدم بعض حطام الفضاء بالأرض، وإذا كان أحدها تصادماً كارثياً؛ فقد يتسبب في حدوث انقراض، فقط انظر إلى ما حدث للديناصورات، وربما قدم (المشتري) مساعدة لوجودنا، لكن الكوكب نفسه غير مضياف بشكل غير عادي للحياة - على الأقل، الحياة كما نعرفها».

وأشار إلى أنه «لا ينطبق نفس الشيء على قمر (المشتري - أوروبا) الذي ربما يكون أفضل فرصة لنا للعثور على حياة في مكان آخر في النظام الشمسي».