الإعلام العربي المطبوع انتقل في نصف قرن من الرصاص إلى الرقمية

تطورت صناعة الورق في سبعينات القرن الماضي مع ازدهار الصحافة المهاجرة

قسم التصميم والإخراج في ثمانينات القرن الماضي بمقر «الشرق الأوسط» اللندني
قسم التصميم والإخراج في ثمانينات القرن الماضي بمقر «الشرق الأوسط» اللندني
TT

الإعلام العربي المطبوع انتقل في نصف قرن من الرصاص إلى الرقمية

قسم التصميم والإخراج في ثمانينات القرن الماضي بمقر «الشرق الأوسط» اللندني
قسم التصميم والإخراج في ثمانينات القرن الماضي بمقر «الشرق الأوسط» اللندني

يمكن القول، إن الإعلام العربي المطبوع تطور في الخمسين عاماً الأخيرة أكثر مما تطور طوال تاريخه الممتد لأكثر من قرن ونصف القرن. وكانت التجربة اللندنية رائدة في هذا التحول الجذري الذي انتقل بالإعلام من عصر الرصاص والحبر إلى عصر التقنيات الرقمية.
من خاض مجال الصحافة المطبوعة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، يعرف تماماً أنها كانت صناعة ثقيلة يمتزج فيها الحبر بالرصاص المصهور. وهي مرحلة كان الصحافيون فيها يتعالون على الآلة الكاتبة على اعتبار أنها من تخصص السكرتيرات وعمال الطباعة. كانت المقالات تسلم بخط اليد لتنقل معاناة فك شفرتها إلى من ينقلها إلى كلمات مطبوعة.
لم يكن تعلّم الكتابة على الآلة الكاتبة من ضرورات العمل الصحافي، على عكس من تعلم الصحافة في الجامعات الأجنبية، حيث كان تعلم الكتابة بسرعة الآلة الكاتبة من ضرورات التحضير قبل دخول السنة الأولى لدراسة الإعلام. وكانت المقالات المكتوبة بخط اليد تنتقل إلى عمال الصف الذين يعملون على أجهزة صب أعمدة الرصاص، الذي يعاد صهره واستخدامه مرات ومرات.
ألواح الرصاص كانت تخرج بحروف المقالات والصور بارزة عليها، ولقراءة النصوص وتصحيحها كان يتعين تغطية الحروف الرصاصية بطبقة من الحبر الأسود، ثم تغطية الحروف بأوراق كبيرة بحجم صفحات الجرائد العريضة. ومع الضغط على الورق بعجلة مطاطية تشبه أدوات دهان الحوائط ينطبع الحبر على الورق، ويمكن قراءة النص كما سيظهر على صفحات الجريدة في اليوم التالي.
هذه الصفحات المطبوعة تذهب إلى المصحح للتأكد من عدم وجود أخطاء مطبعية أو إملائية. وفي حالة اصطياد خطأ كان يتعين إعادة صف سطر العمود الذي يتكون في الغالب من خمس كلمات.
الأخطاء الشائعة في ذلك الزمان لم يكن أغلبها من الكاتب وحده، وإنما ترتكب ما بين المصحح ومركب الصفحة أيضاً. ففي مرات كثيرة كان عامل الصف يصحح الكلمة الخطأ ويرتكب خطأ آخر في كلمة أو أكثر من الكلمات الخمس في السطر الجديد الذي يتم تركيبه. وأحياناً يتم تصحيح السطر على ما يرام، لكن الخطأ يأتي من عامل الصف الذي كان يجب عليه أن يلتقط السطر الخطأ بملقط ويسقط مكانه السطر الصحيح، لكنه يخطئ في رفع السطر الأعلى أو الأسفل ويسقط مكانه السطر المصحح لتخرج الصحيفة وفيها سطران متشابهان، أحدهما صحيح والآخر به خطأ.
وقبل أن تفرض بعض الصحف الرقابة الذاتية ضمن إدارة تحريرها، كانت الصحف الحكومية في الماضي يعمل بها موظف حكومي رسمي اسمه «الرقيب». ولا يتم السماح بطباعة أي صفحة من دون توقيع الرقيب.
وتكررت تصريحات إلغاء الرقابة على الصحف من وزارات الإعلام التي كانت تكتسب أسماء تناسب العصر مثل «وزارة الإرشاد» أو «وزارة المعارف». لكن المرة الوحيدة التي صدق فيها الجمهور إلغاء الرقابة في مصر كانت في عصر الرئيس الراحل أنور السادات عندما تظاهر جمهور من «الرقباء» في وسط القاهرة بعدما فقدوا وظائفهم.
لكن إذا كان الجمهور قد صدق هذه الرواية بشواهد الرقباء الذين فقدوا وظائفهم، فإن الأمر اختلف مع طلبة الإعلام في الجامعة الأميركية بالقاهرة في ذلك الحين. فقد كانوا يطبعون صحيفة جامعتهم، وهي صحيفة تابلويد باللغتين العربية والإنجليزية تسمى «القافلة»، وتطبع في مطابع جريدة «الجمهورية» في شارع الشيخ ريحان في القاهرة. تضمنت الصحيفة مقالاً في الصفحة الأولى فيه انتقاد شديد للسادات وحكومته، كان الغرض منه اختبار صحة إلغاء الرقابة. لكن «الرقيب الجديد» أوقف طباعة «القافلة» حتى يتم تغيير المقال. ولما أزال رئيس تحرير «القافلة» المقال وترك مكانه مساحة بيضاء، رفض الرقيب أيضاً هذا الحل حتى لا ينكشف أمر استمرار الرقابة الحكومية على الصحف.
لم تتغير أحوال أو تقنيات الصحافة العربية كثيراً حتى نهاية سبعينات القرن المنصرم، أو بالأحرى حتى ظهور الصحافة المهاجرة إلى باريس ولندن بفعل الحرب الأهلية اللبنانية من ناحية، وبداية مشروعات الصحافة العربية في لندن.
فمنذ البدايات لصحف ومجلات لندن، وأهمها «الشرق الأوسط» و«المجلة» و«العرب» و«التضامن» و«الدستور»، اختفى الرصاص والأحبار وحلّ مكانها آلات حديثة، منها ما يحوّل الكلمات إلى شرائط ممغنطة يتم تحميضها لتخرج على شكل أعمدة مطبوعة على ورق مصقول، ومنها ما كان يختزل مرحلة التحميض في غرفة مظلمة لتخرج مباشرة إلى طاولات الصف.
في هذه المرحلة أيضاً لم يتم الاستغناء عن موظفي الصف؛ لأن معظم الصحافيين، وخصوصاً الجيل القديم منهم، لم يكن قد تعلم بعد تسليم المقالات مصفوفة، سواء على آلة كاتبة أو على جهاز كومبيوتر.
ومن ناحية الإخراج، بدأ الأمر بطاولات عريضة عليها أوانٍ تحتوي على شمع مسال لاستخدامه في لصق أعمدة المقالات والصور على الصفحات قبل إرسالها إلى الطباعة. لكن الأمر تطور تدريجياً إلى تصميم الصفحات على الكومبيوتر سواء في الصحف أو المجلات.
شمل التطور أيضاً مجال الطباعة والتوزيع في أكثر من موقع جغرافي. وخلال المرحلة اللندنية كانت الصحف والمجلات تشحن في الطائرات، بأوزان ثقيلة وتكلفة عالية، لكي تصل إلى أسواق التوزيع في بلدان الخليج ومنطقة الشرق الأوسط.
تطور الأمر بعد ذلك، وبقيادة ملموسة من صحيفة «الشرق الأوسط»، إلى الطباعة الإلكترونية الرقمية، حيث يتم إخراج الصحيفة في لندن وإرسال أفلام الصفحات إلكترونياً حول العالم ليتم طباعتها في المواقع التي تريدها الصحيفة من دون أوزان ثقيلة، ولا تكاليف شحن باهظة.
الريادة في تطويع التكنولوجيا من صحيفة «الشرق الأوسط» لم تكن غائبة عن أعين إدارات الصحف والمجلات العربية في بلدانها. ومن أجل الاستفادة من هذه التجربة الرائدة أرسلت الكثير من المطبوعات العربية المحلية وفودها إلى «الشرق الأوسط» في لندن لكي تطلع على التجربة، وتستفيد منها في تطوير الصحف المحلية.
كانت هذه مرحلة التسعينات وبداية الألفية. كما كانت أيضاً مرحلة نشأة جيل جديد من الصحافيين المؤهلين تقنياً، بحيث يتم تسليم المقالات منهم مصفوفة بعد مراجعتها، بحيث تكون جاهزة للتركيب على الصفحات. وبهذا أمكن للصحف الاستغناء عن فرق كاملة من عمال الصف. وهناك من الصحافيين والصحافيات من يستطيع أيضاً استعمال عناصر التصميم لإكمال مهمة تصميم الصفحات. لكن هذا الجانب ما زال يعتمد على خبرة التصميم الغرافيكي المحترف من فنانين لهم خبرة طويلة.
الجيل المتوسط بين القدامى والجدد تحمّل أعباء التحول التقني السريع واضطر إلى التأقلم عليه أكثر من مرة. في البداية، عمّمت الشركة السعودية على كل المطبوعات استخدام أجهزة «آبل» لكي يصف المحررون مقالاتهم على برنامج عربي اسمه «الناشر المكتبي». وكان تصميم الصفحات أيضاً يتم على أجهزة وبرامج «آبل».
استمر هذا الحال سنوات عدة في منتصف التسعينات حتى تفوقت أجهزة «بي سي» وبرامجها على «آبل» بفضل شركات مثل «مايكروسوفت» وغيرها. ولم يكن في الإمكان إرسال مقالات «الناشر المكتبي» بالبريد الإلكتروني، وإنما تعين استخدام الفاكس، فكانت مقالات المكاتب يتم صفها مرة أخرى في لندن. فاتخذت الشركة السعودية قرارها الجريء مرة أخرى بالتحول إلى أجهزة «بي سي» والاستغناء تماماً عن أجهزة «آبل» في الصف وفي الإخراج.
وكان على جيل الوسط من الصحافيين إعادة تعلم الصف على أجهزة «بي سي»، حيث مواقع الحروف العربية مختلف عنها في أجهزة «آبل». ومع مرور الوقت اتضح أن القرار بالتحول إلى أجهزة «بي سي» كان هو القرار الصحيح. واتبعت النموذج نفسه بقية الصحف العربية في بلدانها.
ثم دخل الإعلام المطبوع المرحلة الرقمية بإنشاء مواقع إخبارية توفر الجديد على مدار الساعة.
ويمكن القول على مدخل عشرينات القرن: إن الصحافة العربية لا تقل من الناحية التقنية عن الصحافة العالمية، بل تتقدم تقنياً على بعضها.
ومن ناحية الانتشار لم يعد الاطلاع على صحيفة يومية، مثل «الشرق الأوسط»، يقتصر على شراء المطبوعة وقراءتها ورقياً، وإنما أيضاً يتم عبر تصفح الجريدة على الإنترنت. وهكذا، فإن قراء «الشرق الأوسط» الفعليين هم بالملايين وينتشرون في جميع أنحاء العالم. وتوفر لهم الصحيفة مصدراً متجدداً للأخبار الإقليمية التي لا تنحصر داخل بلد واحد، مثل معظم الصحف الأخرى، بلا شروط اشتراك أو تكلفة مالية أو موانع للدخول الحر لتصفح كافة محتويات الصحيفة يومياً.
وعبر سنوات التطور في نصف القرن الأخير لم يقتصر الأمر على الجوانب التقنية، وإنما ارتقى جانب التحرير أيضاً. وتشير التجارب العملية أن «الشرق الأوسط» تتمتع بمصداقية عالية بفضل رصانة الأسلوب وسمعة الكتاب فيها والالتزام بمعايير الإعلام العالمي لأنها تصدر وفق معايير عالمية.


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
TT

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)

سواء في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط راهناً، لعب الإعلام دوراً مثيراً للجدل، وسط اتهامات بتأطير مخاتل للصراعات، وصناعة سرديات وهمية.

هذا الدور ليس بجديد على الإعلام، حيث وثَّقته ورصدته دراسات دولية عدة، «فلطالما كانت لوسائل الإعلام علاقة خاصة بالحروب والصراعات، ويرجع ذلك إلى ما تكتسبه تلك الحروب من قيمة إخبارية بسبب آثارها الأمنية على الجمهور»، حسب دراسة نشرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2000.

الدراسة أوضحت أن «الصراع بمثابة الأدرينالين في وسائل الإعلام. ويتم تدريب الصحافيين على البحث عن الخلافات والعثور على الحرب التي لا تقاوم. وإذا صادفت وكانت الحرب مرتبطة بهم، يزداد الحماس لتغطيتها».

لكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بدور وسائل الإعلام في نقل ما يدور من أحداث على الأرض، بل بترويج وسائل الإعلام لروايات بعضها مضلِّل، مما «قد يؤثر في مجريات الحروب والصراعات ويربك صانع القرار والمقاتلين والجمهور والمراقبين»، حسب خبراء وإعلاميين تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، وأشاروا إلى أن «الإعلام في زمن الحروب يتخندق لصالح جهات معينة، ويحاول صناعة رموز والترويج لانتصارات وهمية».

يوشنا إكو

حقاً «تلعب وسائل الإعلام دوراً في الصراعات والحروب»، وفق الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، الذي قال إن «القلم أقوى من السيف، مما يعني أن السرد حول الحروب يمكن أن يحدد النتيجة».

وأشار إلى أن قوة الإعلام هي الدافع وراء الاستثمار في حرب المعلومات والدعاية»، ضارباً المثل بـ«الغزو الأميركي للعراق الذي استطاعت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش تسويقه للرأي العام الأميركي باستخدام وسائل الإعلام».

وأضاف إكو أن «وسائل الإعلام عادةً ما تُستخدم للتلاعب بسرديات الحروب والصراعات للتأثير في الرأي العام ودفعه لتبني آراء وتوجهات معينة»، مشيراً في هذا الصدد إلى «استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائل الإعلام لتأطير الحرب ضد أوكرانيا، وتصويرها على أنها عملية عسكرية وليست حرباً».

لكنَّ «الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي أحيان أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مناقضاً»، حسب إكو، الذي يشير هنا إلى دور الإعلام «في تشويه سمعة الحرب الأميركية في فيتنام مما أجبر إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالخسارة ووقف الحرب».

وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عُقدت الحلقة الدراسية الإعلامية الدولية الثلاثية للأمم المتحدة حول السلام في الشرق الأوسط بجنيف، لبحث التحديات في متابعة «حرب غزة». وأشارت المناقشات إلى «تأطير الإعلام إسرائيل على أنها بطل للرواية، حيث تكون إسرائيل هي الأخيار وفلسطين وحماس الأشرار»، ولفتت المناقشات إلى أزمة مماثلة خلال تغطية الحرب الروسية - الأوكرانية. وقالت: «من شأن العناوين الرئيسية في التغطية الإعلامية أن تترك المرء مرتبكاً بشأن الوضع الحقيقي على الأرض، فلا سياق للأحداث».

ستيفن يونغبلود

وهنا، يشير مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمية» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، ستيفن يونغبلود، إلى أن «الصحافيين يُدفعون في أوقات الحروب إلى أقصى حدودهم المهنية والأخلاقية». وقال: «في هذه الأوقات، من المفيد أن يتراجع الصحافي قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويتمعن في كيفية تغطية الأحداث، والعواقب المترتبة على ذلك»، لافتاً في هذا الصدد إلى «صحافة السلام بوصفها وسيلة قيمة للتأمل الذاتي». وأضاف أن «الإعلام يلعب دوراً في تأطير الحروب عبر اعتماد مصطلحات معينة لوصف الأحداث وإغفال أخرى، واستخدام صور وعناوين معينة تخدم في العادة أحد طرفي الصراع».

وتحدث يونغبلود عن «التباين الصارخ في التغطية بين وسائل الإعلام الغربية والروسية بشأن الحرب في أوكرانيا»، وقال إن «هذا التباين وحرص موسكو على نشر سرديتها على الأقل في الداخل هو ما يبرر تأييد نحو 58 في المائة من الروس للحرب».

أما على صعيد «حرب غزة»، فيشير يونغبلود إلى أن «أحد الأسئلة التي كانت مطروحة للنقاش الإعلامي في وقت من الأوقات كانت تتعلق بتسمية الصراع هل هو (حرب إسرائيل وغزة) أم (حرب إسرائيل وحماس)؟». وقال: «أعتقد أن الخيار الأخير أفضل وأكثر دقة».

ويعود جزء من السرديات التي تروجها وسائل الإعلام في زمن الحروب إلى ما تفرضه السلطات عليها من قيود. وهو ما رصدته مؤسسة «مراسلون بلا حدود»، في تقرير نشرته أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أشارت فيه إلى «ممارسة إسرائيل تعتيماً إعلامياً على قطاع غزة، عبر استهداف الصحافيين وتدمير غرف الأخبار، وقطع الإنترنت والكهرباء، وحظر الصحافة الأجنبية».

خالد القضاة

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، يرى أن «الدول والمنظمات التي تسعى لفرض الإرادة بقوة السلاح، عادةً ما تبدأ حروبها بالإعلام». وأوضح أن «الإعلام يُستخدم لتبرير الخطوات المقبلة عبر تقديم سرديات إما مشوَّهة وإما مجتزَأة لمنح الشرعية للحرب».

وقال: «في كثير من الأحيان تُستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بالحقائق والشخوص وشيطنة الطرف الآخر وإبعاده عن حاضنته الشعبية»، وأشار إلى أن ذلك «يكون من خلال تبني سرديات معينة والعبث بالمصطلحات باستخدام كلمة عنف بدلاً من مقاومة، وأرض متنازع عليها بدلاً من محتلة».

وأضاف القضاة أن «تأطير الأحداث يجري أيضاً من خلال إسباغ سمات من قبيل: إرهابي، وعدو الإنسانية، على أحد طرفَي الصراع، ووسم الآخر بـ: الإصلاحي، والمدافع عن الحرية، كل ذلك يترافق مع استخدام صور وعناوين معينة تُسهم في مزيد من التأطير»، موضحاً أن «هذا التلاعب والعبث بسرديات الحروب والصراعات من شأنه إرباك الجمهور والرأي العام وربما التأثير في قرارات المعارك ونتائجها».

ولفت إلى أنه «قياساً على الحرب في غزة، يبدو واضحاً أن هذا التأطير لتغليب السردية الإسرائيلية على نظيرتها في الإعلام الغربي». في الوقت نفسه أشار القضاة إلى «إقدام الإعلام على صناعة رموز والحديث عن انتصارات وهمية وزائفة في بعض الأحيان لخدمة سردية طرف معين، وبث روح الهزيمة في الطرف الآخر».

منازل ومبانٍ مدمَّرة في مخيم المغازي للاجئين خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة (إ.ب.أ)

كان «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» قد أشار في تقرير نشره في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إلى أن «اللغة التحريضية لتغطية وسائل الإعلام الأميركية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤثر في تصور المجتمعات المختلفة بعضها لبعض ويمكن أن تكون سبباً لأعمال الكراهية». وأضاف: «هناك تحيز في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة رد فعل عاطفي، بدلاً من تقديم رؤية حقيقية للأحداث».

حسن عماد مكاوي

عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور حسن عماد مكاوي، يرى أن «توظيف الدول وأجهزة الاستخبارات لوسائل الإعلام أمر طبيعي ومتعارف عليه، لا سيما في زمن الحروب والصراعات». وقال إن «أحد أدوار الإعلام هو نقل المعلومات التي تؤثر في اتجاهات الجماهير لخدمة أهداف الأمن القومي والسياسة العليا». وأضاف أن «وسائل الإعلام تلعب هذا الدور بأشكال مختلفة في كل دول العالم، بغضّ النظر عن ملكيتها، وانضمت إليها حديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري توظيف شخصيات تبدو مستقلة للعب نفس الدور ونقل رسائل الدولة أو الحكومة».

وأشار مكاوي إلى أن «هذه العملية لا تخلو من ترويج الشائعات ونشر أخبار مضللة، والتركيز على أمور وصرف النظر عن أخرى وفق أهداف محددة مخططة بالأساس». وضرب مثلاً بـ«حرب غزة» التي «تشهد تعتيماً إعلامياً من جانب إسرائيل لنقل رسائل رسمية فقط تستهدف تأطير الأحداث في سياق معين».