مي منسى رحلت في خضم السباق إلى «جائزة البوكر للرواية العربية»

مي منسى
مي منسى
TT

مي منسى رحلت في خضم السباق إلى «جائزة البوكر للرواية العربية»

مي منسى
مي منسى

لم يتسع الوقت للصحافية والأديبة والناقدة اللبنانية مي منسى لتعرف ما إذا كانت ستدخل «اللائحة القصيرة» لـ«جائزة الرواية العربية (البوكر)» عن روايتها «قتلت أمي لأحيا»، بعد أن أعلن اسمها على «اللائحة الطويلة» منذ أسبوعين. جاء الموت مباغتاً وسريعاً، وصادماً حتى لمن عرفوا بتوعكها بعد أن وقعت وكسرت أضلع في صدرها منذ نحو الشهر. ذاك لم يكن ليبدو خطيراً إلى حد مميت، لكن عوارض أخرى أكثر فتكاً في الرأس كانت مخبأة خلف إرادة العمل والكدّ.
ومن المفارقات الغريبة أن تكون رواية مي الأخيرة؛ هذه التي دخلت بها منافسة «جائزة الرواية العربية»، في جزء منها، تلمّساً للعلاقة الجدلية الأزلية بين الحياة والموت، والصلة التي لا تنقطع بين المقيمين والراحلين، وقراءة لما يقارب قرناً من عمر لبنان المتأرجح بين حروب لا تنتهي، ومحاولات خلاص لا تكلّ. كتبت مي منسى في هذه الرواية قصصاً داخل قصة، وحكايات في حكاية، وهي التي نزعت في السنوات العشرين الأخيرة لتخصيص وقت كثيف للكتابة الروائية بعد أن منحت كل ذاتها للصحافة والنقد الفني بحيث تحولت إلى نجمة هادئة البريق، لكنها لا تخفت ولا تتعب. واحدة من أسماء الصفحة الثقافية لجريدة «النهار» طوال نحو نصف قرن، بحيث اقترن اسمها بالفن والموسيقى والأدب، والكتابة الدمثة الرقيقة التي تنساب بشاعرية هفهافة، لمن يريد أن يستريح من جلافة الصفحات السياسية وصلافتها.
أطلت مي بوجهها الصغير وملامحها الرقيقة من شاشة «تلفزيون لبنان» عام 1959، وكانت في التاسعة عشرة من عمرها، لتكون أول مذيعة امرأة تخاطب اللبنانيين. هناك وطوال 10 سنوات قدمت نشرات الأخبار، وبرنامجا عن الحرف التي خشيت عليها من الاندثار، وآخر للنساء، وحلقات طاردت فيها الفنانين اللبنانيين باحثة عنهم في مخابئهم أثناء الحرب الأهلية، سائلة عما كانوا يفعلونه في ظلمة العنف. وعلى عكس زميلاتها اللاتي انتقلن من المكتوب إلى المرئي، غيّر اتصال من غسان تويني مسارها. عام 1969 حين طلب إليها أن تنضم إلى جريدة «النهار»، لم تتردد لحظة، وعدّت الأمر فتحاً جديداً لها. ذهبت هذه الفرنكوفونية المختصة بالأدب الفرنسي إلى معقل ضم أدباء، وشهد مرور كبار، سيشكلون بعد ذلك علامات فارقة في الحياة الأدبية اللبنانية، مثل أنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، وسعيد عقل.... وآخرين.
وجودها في «النهار» كاد يلامس الخمسين سنة، غطت خلالها مئات الأحداث الثقافية، وكتبت في الموسيقى بشكل خاص التي كانت تجود فيها وتطرب قراءها نغماً وسمفونيات، كأنهم يشاركونها اندغامها في المقطوعات الموسيقية التي كانت تسمعها. ولها مع «مهرجان البستان» الموسيقي حكاية تتجاوز النقد إلى المشاركة الفاعلة والنشاط المؤثر، وصولاتها وجولاتها في «مهرجانات بعلبك» لم تنقطع سنة تلو سنة، وكذلك في «بيت الدين». ناقدة من نوع خاص كتبت في الأدب والفن التشكيلي والمسرح، وكان يؤخذ عليها دائماً لينها المبالغ فيه، ورقتها التسامحية التي تمنعها من الإتيان على ذكر المعايب والثغرات، لكنها نادراً ما كانت تأبه. وهي تدافع عن نفسها فتقول إنها كانت تكتفي بأن تصف ما ترى، وإذا ما كان العمل رديئاً، فإنها تكف عن الكتابة عنه بدل التجريح، لأنه لا يستحق متابعتها، أو لعلها تحدثت مع صاحب العمل ليشرح وجهة نظره، بدل أن تهاجم وتخطئ فتتسبب بأذى في غير مكانه.
مضت مي، وبدا أنها كانت من النبل بحيث أرادت لما حولها أن يكون جميلاً، ولكتابتها أن تعكس صورة لبنان المضيء... هذا الوطن الذي لم يتوقف عن الإمعان في إيلامها... حياة صعبة وطفولة قاسية، بدأت في بيت بسيط لأم تخيط الملابس على ماكينتها طوال الليل «لتواري فقر بناتها الثلاث بفساتين تفصلها ثم تطرزها». من عوز الحرب العالمية الثانية خرجت طفولة مي منسى المولودة عام 1939، ومن مأساة تهجير عائلة والدها في حرب الجبل من «مزرعة الشوف» بحيث «لم يبق لنا هناك قبر ولا عريشة» كما كانت تقول، ومن أوجاع الحرب الأهلية اللبنانية التي عاشتها كما أي صحافية تسعى وراء الخبر ومن أجل الرزق، بكثير من الشغف والتضحية... خرجت كتابات مي؛ لا بل إنها تعدّ أن مقالاتها لم تتجوهر إلا في أتون الحرب.
كتبت بالفرنسية للأطفال أولاً، لكنها في السنوات العشرين الأخيرة، كتبت 9 روايات، وكأنها كرست نفسها لتستلهم القصص التي كابدتها أو حتى عاينتها، وتحيك منها نصوصها التي سرعان ما تفلت من الواقع الذي تنطلق منه، لتبحر في أجواء أكثر تخييلاً.
وكما كان الإنسان بمشاعره وأحاسيسه هو شاغلها في مقالاتها، بقي محور اهتمامها وهي تكتب نصوصها الروائية من «أوراق من دفاتر شجرة رمان» (1998)، مروراً بـ«المشهد الأخير» (2003)، و«أنتعل الغبار وأمشي» (2006) التي وصلت إلى اللائحة القصيرة من جائزة «البوكر» عام 2008، وفي هذه الرواية تروي وتحكي قصة ماريا نور التي تنهش الحرب عائلتها وتوصلها إلى «ميتم» تعيد منه بناء حياة عسيرة بين معهد الصحافة والعمل في مطبعة، لتعاود الالتقاء بالحروب والفواجع، وتصدم من عم خائن لا يأبه لوطن أو ألم.
حاملة قنديل ديوجين، كانت مي منسى تعدّ نفسها، باحثة عن الإنسان الذي بمقدوره أن يعيد للبنان كرامته... وفي كتابها «ما هو اسمي» الذي سطرته بالفرنسية، استلهمت زيارة قديمة لها إلى حلب لتكتب عن الدمار الذي لحق بالمدينة التاريخية... بالبؤس الذي حلّ بأهلها. أما في «ماكينة خياطة» (2012) فتحية لوالدتها التي ماتت وهي تسأل عن الماكينة التي تركتها بمنزلها في عين الرمانة؛ المنطقة التي لم يعد الوصول إليها سهلاً خلال الحرب الأهلية، ولا استعادة الماكينة التي قضت لياليها خلفها ممكنة. وفي «تماثيل مصدعة» (2013) انطلقت من ذاك الرجل الذي جاءها صدفة يطلب منها مساعدة لتعرف أنه تعرض لاعتداء جنسي من والده وهو صغير، ولم يعد قادراً على حمل هذا العبء على كتفيه.
هكذا حولت مي منسى وحدتها بعد أن كبر ابنها الوحيد، إلى مشغل تغزل فيه عوالم من حواضر ما كابدته خلال عمر شقي مليء بالأحداث.
لكن مي منسى، رغم انشغالها بكتابة الرواية، بقيت حتى الرمق الأخير صحافية مدمنة، تعمل كما أي مبتدئة لم تصبها لوثة الاحتراف. تذهب إلى المناسبات الثقافية قبل الوقت المحدد... تجلس على كرسيها، تخرج قلمها ووريقاتها، تنتظر لحظة البدء بكثير من المهابة والانضباط، تسجل ملاحظاتها، وتنسحب سريعاً كي تتمكن من تسليم مقالتها قبل أن ينفد الوقت. كانت كمن لها وجهان يتكاملان بسلام عجائبي؛ واحد متألم تعيشه مع نفسها وتبثه نصوصها الروائية، وآخر أكثر إشراقاً وحبوراً تطالعنا به في مقالاتها التي تشبه أغنيات عذبة... كأنما الحياة التي تحياها صحافيةً ليست سوى أوبرات وسمفونيات لا تنتهي. ومن كان يرى تلك الصبية الرشيقة الأنيقة، تقود سيارتها وتقطع المسافات بحثاً عن تغطية لا تريدها أن تفوتها، لا بد من أنه لم يكن ليفكر بعدد السنوات التي اجتازتها، وهي تقوم بهذه المهام دون تأفف أو تعب. لكن لحظة إعلان رحيلها كانت مفاجأة أكبر من الموت نفسه... أن مي في الثمانين.
لعلها المرة الأولى التي يرحل فيها فائز على إحدى لوائح جائزة الرواية العربية، قبل أن يكمل المشاركة في السباق، فهل سيسقط اسم مي من المنافسة؛ أم ستتابع غائبة؟ وهل يمكن أن تنال أديبة راحلة الجائزة الكبرى؟



بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)
مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)
TT

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)
مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى، فإن المصرية مريم شريف تفوقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بالدورة الرابعة لـ«مهرجان البحر الأحمر السينمائي» التي تَنافس على جوائزها 16 فيلماً، وترأس لجنة تحكيمها المخرج العالمي سبايك لي، لتحوز جائزة «اليسر» لأفضل ممثلة عن أدائها لشخصية «إيمان»، الشابة التي تواجه التّنمر بسبب قِصرِ قامتها في فيلم «سنو وايت»، وذلك خلال حفل ختام المهرجان الذي أقيم الخميس في مدينة جدة السعودية.

وعبّرت مريم عن سعادتها بهذا الفوز قائلة لـ«الشرق الأوسط»: «الحمد لله، هذه فرحة كبيرة تكلّل جهودنا طوال فترتي التحضير والتصوير، لكنني أحتاج وقتاً لأستوعب ذلك، وأشكر أستاذة تغريد التي أخضعتني لورشِ تمثيلٍ عدة؛ فكُنا نجلس معاً لساعات طوال لتُذاكر معي الدّور وتوضح لي أبعاد الشخصية، لذا أشكرها كثيراً، وأشكر المنتج محمد عجمي، فكلاهما دعماني ومنحاني القوة والثقة لأكون بطلة الفيلم، كما أشكر مهرجان (البحر الأحمر السينمائي) على هذا التقدير».

المخرجة تغريد أبو الحسن بين منتج الفيلم محمد عجمي والمنتج محمد حفظي (إدارة المهرجان)

سعادة مريم تضاعفت بما قاله لها المخرج سبايك لي: «لقد أذهلني وأبهجني برأيه حين قال لي، إن الفيلم أَثّر فيه كثيراً بجانب أعضاء لجنة التحكيم، وإنني جعلته يضحك في مشاهد ويبكي في أُخرى، وقلت له إنه شرفٌ عظيم لي أن الفيلم حاز إعجابك وجعلني أعيش هذه اللحظة الاستثنائية مع أهم حدث في حياتي».

وأضافت مريم شريف في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أنها لم تُفكّر في التمثيل قبل ذلك لأن السينما اعتادت السخرية من قِصار القامة، وهو ما ترفضه، معبّرة عن سعادتها لتحقيق العمل ردود أفعال إيجابية للغاية، وهو ما كانت تتطلّع إليه، ومخرجته، لتغيير أسلوب تعامل الناس مع قِصار القامة لرؤية الجمال في الاختلاف، وفق قولها: «نحن جميعاً نستحق المساواة والاحترام، بعيداً عن التّهكم والسخرية».

وكان قد شهد عرض الفيلم في المهرجان حضوراً لافتاً من نجوم مصريين وعرب جاءوا لدعم بطلته من بينهم، كريم فهمي الذي يشارك بصفة ضيف شرف في الفيلم، وبشرى التي أشادت بالعمل، وكذلك أمير المصري ونور النبوي والمنتج محمد حفظي.

قُبلة على يد بطلة الفيلم مريم شريف من الفنان كريم فهمي (إدارة المهرجان)

واختارت المخرجة أن تطرح عبر فيلمها الطويل الأول، أزمة ذوي القامة القصيرة الذين يواجهون مشاكل كبيرة، أقلّها تعرضهم للتنمر والسخرية، وهو ما تصدّت له وبطلتها عبر أحداث الفيلم الذي يروي قصة «إيمان» قصيرة القامة التي تعمل موظفة في أرشيف إحدى المصالح الحكومية، وتحلم مثل كل البنات بلقاءِ فارس أحلامها وتتعلق بأغنية المطربة وردة الجزائرية «في يوم وليلة» وترقص عليها.

وجمع الفيلم بين بطلته مريم شريف وبعض الفنانين، ومن بينهم، كريم فهمي، ومحمد ممدوح، ومحمد جمعة، وخالد سرحان، وصفوة، وكان الفيلم قد فاز بوصفه مشروعاً سينمائياً بجائزة الأمم المتحدة للسكان، وجائزة الجمعية الدولية للمواهب الصاعدة في «مهرجان القاهرة السينمائي».

وعلى الرغم من أن مريم لم تواجه الكاميرا من قبل، بيد أنها بدت طبيعية للغاية في أدائها وكشفت عن موهبتها وتقول المخرجة: «كنت مهتمة أن تكون البطلة غير ممثلة ومن ذوات القامة القصيرة لأحقق المصداقية التي أردتها، وحين التقيت مريم كانت هي من أبحث عنها، وكان ينقصنا أن نقوم بعمل ورش تمثيل لها، خصوصاً أن شخصية مريم مختلفة تماماً عن البطلة، فأجرينا تدريبات مطوّلة قبل التصوير على الأداء ولغة الجسد والحوار، ووجدت أن مريم تتمتع بذكاء لافت وفاجأتني بموهبتها».

لم يكن التمثيل يراود مريم التي درست الصيدلة في الجامعة الألمانية، وتعمل في مجال تسويق الأدوية وفق تأكيدها: «لم يكن التمثيل من بين أحلامي لأن قِصار القامة يتعرضون للسخرية في الأفلام، لكن حين قابلت المخرجة ووجدت أن الفيلم لا يتضمّن أي سخرية وأنه سيُسهم في تغيير نظرة كثيرين لنا تحمست، فهذه تجربة مختلفة ومبهرة». وفق تعبيرها.

ترفض مريم لقب «أقزام»، وترى أن كونهم من قصار القامة لا يحدّ من قدرتهم ومواهبهم، قائلة إن «أي إنسان لديه مشاعر لا بد أن يتقبلنا بدلاً من أن ننزوي على أنفسنا ونبقى محبوسين بين جدران بيوتنا خوفاً من التنمر والسخرية».

تغريد أبو الحسن، مخرجة ومؤلفة الفيلم، درست السينما في الجامعة الأميركية بمصر، وسافرت إلى الولايات المتحدة للدراسة في «نيويورك أكاديمي» قبل أن تُخرج فيلمين قصيرين، وتعمل بصفتها مساعدة للمخرج مروان حامد لسنوات عدّة.

المخرجة تغريد أبو الحسن وبطلة الفيلم مريم شريف (إدارة المهرجان)

وكشفت تغريد عن أن فكرة الفيلم تراودها منذ 10 سنوات: «كانت مربية صديقتي من قِصار القامة، اقتربتُ منها كثيراً وهي من ألهمتني الفكرة، ولم أتخيّل أن يظهر هذا الفيلم للنور لأن القصة لم يتحمس لها كثير من المنتجين، حتى شاركنا الحلم المنتج محمد عجمي وتحمس له».

العلاقة التي جمعت بين المخرجة وبطلتها كانت أحد أسباب تميّز الفيلم، فقد تحولتا إلى صديقتين، وتكشف تغريد: «اقتربنا من بعضنا بشكل كبير، وحرِصتُ على أن تحضر مريم معي ومع مدير التصوير أحمد زيتون خلال معاينات مواقع التصوير حتى تتعايش مع الحالة، وأخبرتها قبل التصوير بأن أي مشهد لا ترغب به سأحذفه من الفيلم حتى لو صوّرناه».

مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

وتلفت تغريد إلى مشروعٍ سينمائيّ يجمعهما مرة أخرى، في حين تُبدي مريم سعادتها بهذا الالتفاف والترحيب من نجوم الفن الذين شاركوها الفيلم، ومن بينهم: كريم فهمي الذي عاملها برفق ومحبة، ومحمد ممدوح الذي حمل باقة ورد لها عند التصوير، كما كان كل فريق العمل يعاملها بمودة ولطف.