سارتر في الذاكرة الثقافية العربية

كتاب أميركي عن زيارته التاريخية لمصر عام 1967

سارتر
سارتر
TT

سارتر في الذاكرة الثقافية العربية

سارتر
سارتر

جاء حين من الدهر – لنقُل خمسينات القرن الماضي وستيناته - كان فيه للفلسفة الوجودية، وإمامها الفيلسوف والروائي والكاتب المسرحي الفرنسي جان بول سارتر (1905 - 1980) أثر عميق في الفكر والأدب العربي كما تشهد مراجعة أعداد مجلة «الآداب» البيروتية وإصداراتها عبر ما يقرب من أربعة عقود، وكتابات سهيل إدريس، ومطاع صفدي، وجورج طرابيشي، وإدوار الخراط، وغيرهم.
واليوم يصدر عن مطبعة جامعة شيكاغو كتاب باللغة الإنجليزية يعيد هذا الأثر السارتري في علاقته بالثقافة العربية إلى الأذهان: كتاب من تأليف يواف دي كابوا عنوانه: «لا مخرج: الوجودية العربية وجان بول سارتر والتحرر من الاستعمار». وعنوان الكتاب – كما لا يخفى على القارئ - إشارة إلى مسرحية سارتر المسماة «لا مخرج» (1944 أو في ترجمات عربية مختلفة: الجلسة سرية، أو الأبواب الموصدة، أو الدائرة المفرغة).
في أكثر من ثلاثمائة وخمسين صفحة يتتبع الكتاب رحلة سارتر مع المثقفين العرب، وفي مصر بوجه خاص. يبدأ الرحلة – كما يقول آدم شاتز في «مجلة لندن لعرض الكتب» (22 نوفمبر/تشرين الثاني 2018) – في أواخر خمسينات القرن العشرين حين وصل خريج مصري شاب يدعى علي السمان (الدكتور فيما بعد) إلى باريس ليعدّ رسالة دكتوراه في الفكر السياسي. كان مثقفاً نشيطاً أنشأ «رابطة الطلاب العرب في فرنسا»، وكان حلقة اتصال بين الجنرال ديغول وجبهة التحرير الوطني الجزائرية أثناء المفاوضات بين الطرفين. وشاءت المصادفات أن يكون السمان جاراً في السكن لسارتر في شارع بونابرت. هكذا تعددت لقاءاتهما وطلب المفكر الكبير من الشاب المتبرعم أن يحيطه علماً بأبعاد الصراع العربي – الإسرائيلي؛ فلم يدخر السمان وسعاً في إطلاعه على أصل النكبة التي اقتلعت شعباً كاملاً من أرضه وأحلّت محله كياناً غاصباً جاء من وراء البحار. وفيما بعد تعرف سارتر وسيمون دي بوفوار على الأديب والصحافي المصري اليساري لطفي الخولي، رئيس تحرير مجلة «الطليعة»، وزوجته ليليان. واستضافت مؤسسة «الأهرام»، تحت قيادة محمد حسنين هيكل، سارتر ودي بوفوار كي يطلعا على وجهة النظر العربية في قضية فلسطين، وغيرها من القضايا.
كان وصول قطبي الوجودية إلى القاهرة في 25 فبراير (شباط) 1967 حدثاً كبيراً ملأ الحياة الثقافية المصرية وشغل الناس. التقى سارتر الرئيس المصري جمال عبد الناصر لمدة ثلاث ساعات، ورحّبت صحيفة «الأهرام» بمقدمه على صفحتها الأولى، وشاهد عرضاً باللغة العربية لمسرحيته «لا مخرج»، وزار قرية كمشيش في الدلتا، حيث التقى الفلاحين المصريين، والتقى أدباء وفنانين وطلبة (ممن التقى بهم الكاتب المسرحي توفيق الحكيم، وأستاذ الفلسفة عثمان أمين، والناقد الأدبي أحمد عباس صالح الذي قال لسارتر: «إن تأثيرك في هذه المنطقة أعمق وأوسع من تأثير أي كاتب آخر»). وألقى محاضرة (حضرها كاتب هذه السطور، وإن لم يفهم منها إلا القليل) عن دور المثقف في العالم الحديث تحت قبة جامعة القاهرة، نشرت ترجمتها العربية فيما بعد على صفحات «الطليعة».
كان سارتر في نظر المفكرين العرب رمزاً للضمير الأخلاقي وشاهداً على العصر ونصيراً لحركات التحرر في الجزائر، وكوبا، والكونغو وغيرها. وكان قد وقف إلى جانب مصر أثناء العدوان الثلاثي الذي شنّته بريطانيا، وفرنسا، وإسرائيل في 1956.
لكن هذه الفورة انطفأت على نحو مؤلم حين اندلعت حرب الأيام الستة في الخامس من يونيو (حزيران) 1967؛ فقد انحاز سارتر – ومعه دي بوفوار وكلود لانزمان وكثير من المثقفين «التقدميين» الفرنسيين – إلى صف إسرائيل. وكان لذلك وقع أليم على نفوس المثقفين العرب. كتب إدوارد سعيد يقول: «لأسباب ما زلنا لا نستطيع أن نعرفها على وجه اليقين قد ظل سارتر ثابتاً على مناصرته الجذرية للصهيونية. وسواء كان هذا راجعاً إلى خشيته من أن يبدو في صورة المعادي للسامية، أو راجعاً إلى شعوره بالذنب من جراء المحرقة النازية لليهود، أو راجعاً إلى أنه لم يقدر عميقاً بما فيه الكفاية كون الفلسطينيين ضحايا للظلم الإسرائيلي ومناضلين ضده، أو راجعاً إلى أي سبب آخر، فذاك ما لا أدريه».
هكذا تغير الموقف العربي من سارتر وتحوّل عنه عدد من المثقفين العرب إلى مفكرين آخرين مثل ميشيل فوكو، ورولان بارت، وجاك دريدا، وبخاصة بعد أن بدأ بريق الوجودية ينطفئ وتحل محلها اتجاهات أخرى كالبنيوية والتفكيكية وما بعد الحداثية. كذلك اتجهت بوصلة الاهتمام إلى مفكرين فرنسيين آخرين أكثر تعاطفاً مع وجهات النظر العربية، مثل مكسيم رودنسون، وروجيه جارودي، وجاك بيرك.
وتبقى – بعد ذلك - حقيقة مؤداها أن أثر الوجودية السارترية (أفكار العبث واللاجدوى والحرية والفوضوية من ناحية، والالتزام السياسي والأدبي والمسؤولية الأخلاقية من ناحية أخرى، ومركّب الوجودية الماركسية من ناحية ثالثة) كان أثراً عميقاً متشعباً في مناخنا الثقافي لا يكاد يدانيه سعة وانتشاراً غير أثر ت.س.إليوت في شعرنا ونقدنا الحديث (بدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور، ورشاد رشدي، وغيرهم). فسارتر (وإن اختلفنا معه في هذا الأمر أو ذاك) عقل لامع أضاء جوانب كثيرة من وجودنا الإنساني برواياته وأقاصيصه ومسرحياته وكتبه الفلسفية وتحليلاته النفسية لأدباء مثل بودلير، وفلوبير، وجان جينيه، وكلها منجزات تكفل له مكاناً باقياً بين قادة الفكر في القرن العشرين.


مقالات ذات صلة

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
TT

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)

تحت عنوان «النقد الفلسفي» انطلقت صباح اليوم، فعاليات مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة بدورته الرابعة، الذي يقام بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، وذلك بمقر بيت الفلسفة بالإمارة، برعاية الشيخ محمد بن حمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة.

ومؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة، هو أول مؤتمر من نوعه في العالم العربي ويشارك فيه سنوياً نخبة من الفلاسفة البارزين من مختلف أنحاء العالم، ويحمل المؤتمر هذا العام عنوان «النقد الفلسفي».

وتهدف دورة هذا العام إلى دراسة مفهوم «النقد الفلسفي»، من خلال طرح مجموعة من التساؤلات والإشكاليات حوله، بدءاً من تعريف هذا النوع من النقد، وسبل تطبيقه في مجالات متنوعة مثل الفلسفة والأدب والعلوم.

ويتناول المؤتمر العلاقة بين النقد الفلسفي وواقعنا المعيش في عصر الثورة «التكنوإلكترونية»، وأثر هذا النقد في تطور الفكر المعاصر.

الدكتور عبد الله الغذامي (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويسعى المتحدثون من خلال هذا الحدث إلى تقديم رؤى نقدية بناءة جديدة حول دور الفلسفة في العصر الحديث ومناقشة مجموعة من الموضوعات المتنوعة، تشمل علاقة النقد الفلسفي بالتاريخ الفلسفي وتأثيره في النقد الأدبي والمعرفي والعلمي والتاريخي ومفاهيم مثل «نقد النقد» وتعليم التفكير النقدي، إلى جانب استكشاف جذور هذا النقد وربطه ببدايات التفلسف.

وتسعى دورة المؤتمر لهذا العام لأن تصبح منصة غنية للمفكرين والفلاسفة لتبادل الأفكار، وتوسيع آفاق النقاش، حول دور الفلسفة في تشكيل المستقبل.

ويأتي المؤتمر في ظل الاحتفال بـ«اليوم العالمي للفلسفة» الذي يصادف الخميس 21 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، والذي أعلن من قبل «اليونيسكو»، ويحتفل به كل ثالث يوم خميس من شهر نوفمبر، وتم الاحتفال به لأول مرة في 21 نوفمبر 2002.

أجندة المؤتمر

وعلى مدى ثلاثة أيام، تضم أجندة مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة؛ عدداً من الندوات والمحاضرات وجلسات الحوار؛ حيث افتتح اليوم بكلمة للدكتور أحمد البرقاوي، عميد بيت الفلسفة، وكلمة لأمين عام الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية.

وتتضمن أجندة اليوم الأول 4 جلسات: ضمت «الجلسة الأولى» محاضرة للدكتور أحمد البرقاوي، بعنوان: «ماهيّة النّقد الفلسفيّ»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الغذامي، بعنوان: «النقد الثقافي»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الهتلان.

كما ضمت الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور فتحي التريكي، بعنوان: «النقد في الفلسفة الشريدة»، ومحاضرة للدكتور محمد محجوب، بعنوان: «ماذا يُمكنني أن أنقد؟»، ومحاضرة ثالثة للدكتور أحمد ماضي، بعنوان: «الفلسفة العربية المعاصرة: قراءة نقدية»، وترأس الجلسة الدكتور حسن حماد.

أمّا الجلسة الثالثة، فضمت محاضرة للدكتور مشهد العلّاف، بعنوان: «الإبستيمولوجيا ونقد المعرفة العلميّة»، ومحاضرة للدكتورة كريستينا بوساكوفا، بعنوان: «الخطاب النقدي لهاريس - نقد النقد»، ومحاضرة للدكتورة ستيلا فيلارميا، بعنوان: «فلسفة الولادة - محاولة نقدية»، وترأس الجلسة: الدكتور فيليب دورستيويتز.

كما تضم الجلسة الرابعة، محاضرة للدكتور علي الحسن، بعنوان: «نقد البنيوية للتاريخانيّة»، ومحاضرة للدكتور علي الكعبي، بعنوان: «تعليم الوعي النقدي»، ويرأس الجلسة: الدكتور أنور مغيث.

كما تضم أجندة اليوم الأول جلسات للنقاش وتوقيع كتاب «تجليات الفلسفة الكانطية في فكر نيتشه» للدكتور باسل الزين، وتوقيع كتاب «الفلسفة كما تتصورها اليونيسكو» للدكتور المهدي مستقيم.

الدكتور أحمد البرقاوي عميد بيت الفلسفة (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويتكون برنامج اليوم الثاني للمؤتمر (الجمعة 22 نوفمبر 2024) من ثلاث جلسات، تضم الجلسة الأولى محاضرة للدكتورة مريم الهاشمي، بعنوان: «الأساس الفلسفي للنقد الأدبيّ»، ومحاضرة للدكتور سليمان الضاهر، بعنوان: «النقد وبداية التفلسف»، ويرأس الجلسة: الدكتورة دعاء خليل.

وتضم الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور عبد الله المطيري، بعنوان: «الإنصات بوصفه شرطاً أوّلياً للنّقد»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الجسمي، بعنوان: «النقد والسؤال»، ويرأس الجلسة الدكتور سليمان الضاهر.

وتضم الجلسة الثالثة، محاضرة الدكتور إدوين إيتييبو، بعنوان: «الخطاب الفلسفي العربي والأفريقي ودوره في تجاوز المركزية الأوروبية»، ومحاضرة الدكتور جيم إي أوناه، بعنوان: «الوعي الغربي بفلسفة ابن رشد - مدخل فيمونولوجي»، ويرأس الجلسة: الدكتور مشهد العلاف.

ويتكون برنامج اليوم الثالث والأخير للمؤتمر (السبت 23 نوفمبر 2024) من جلستين: تتناول الجلسة الأولى عرض نتائج دراسة حالة «أثر تعليم التفكير الفلسفي على طلاب الصف الخامس» تشارك فيها شيخة الشرقي، وداليا التونسي، والدكتور عماد الزهراني.

وتشهد الجلسة الثانية، اجتماع حلقة الفجيرة الفلسفية ورؤساء الجمعيات الفلسفية العربية.