منذ أن وصل الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، إلى سدة الحكم في بيلاروسيا (روسيا البيضاء) عام 1994، وهو يسير عكس التيار. حمل رايات الشيوعية وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة في الفضاء السوفياتي، ورفض برامج الخصخصة والانتقال إلى الملكية الفردية، حين كان «اقتصاد السوق» يغزو التركة المتعبة من عقود تحكم الدولة في كل شؤون البلاد. حارب معارضيه بقوة وزجّ بهم في السجون، متجاهلاً رياح التغيير والديمقراطية التي عصفت بالمنطقة من حوله. ومن ثم، حافظ على القبضة القوية لجهاز الـ«كي جي بي» الرهيب - رافضاً حتى تغيير اسمه - بينما كان جيرانه يتفننون في إظهار عزمهم على التخلّص من كل ما يربط بلادهم بالماضي السوفياتي القريب.
بدا المزارع العنيد الذي صعد سلم السياسة العليا في زمن التقلّبات الكبرى في بلاده كأنه قادم من عالم آخر... أو من زمن آخر.
ركب ألكسندر لوكاشينكو موجة محاربة الفساد والجريمة المنظمة و«المافيات» التي كادت تنهش جسد بيلاروسيا، ليسيطر على مقاليد الحكم، ويحولها في ربع قرن إلى ما يشبه جمهورية سوفياتية مصغرة تكاد تكون مكتفية ذاتياً، لكنها معزولة.
آخر الديكتاتوريات في أوروبا
ظل الشاب ذو الخلفية العسكرية الصارمة التي اكتسبها بحكم خدمته في حرس الحدود لمدة تجاوزت سبع سنوات، مرتبطاً بقوةٍ بالتعاونيات الزراعية التي نشرتها التجربة السوفياتية في كل أنحاء الاتحاد السوفياتي السابق، لكن كانت لها أهمية خاصة في بيلاروسيا، الجمهورية السوفياتية السابقة والبلد الزراعي المهم، الذي ما زال يفاخر بإنتاجه في هذا المجال، رغم تقلبات السنوات والأحوال.
وخطا لوكاشينكو إلى عالم السياسة من موظف في مزرعة تعاونية سوفياتية تقليدية إلى مدير مصنع لمواد بناء مزارع الدولة، قبل اختياره نائباً في المجلس الأعلى لجمهورية بيلاروسيا (البرلمان) حيث خاض حروباً شرسة ضد التيارات الليبرالية الإصلاحية التي اتهمها بالسعي إلى نهب ثروات البلاد، وتمزيقها، في فترة تفكك الاتحاد السوفياتي.
وكشف لوكاشينكو مبكراً عن آرائه وطموحاته، رغم أنها كانت في ذلك الوقت مثيرة للجدل والصراعات. إذ إنه لم يتردد في نشر مقالة لافتة في عام 1991 حملت عنوان «الديكتاتورية... الخيار البيلاروسي»، وتحوّلت إلى «مانيفستو» أو «خريطة طريق» سار لتنفيذها على مدى سنوات لاحقة. فكان النائب الوحيد في البرلمان البيلاروسي الذي صوّت ضد اتفاقية «ديسمبر 1991»، التي شكّلت الأساس القانوني لحل الاتحاد السوفياتي وتأسيس «كومنولث (رابطة) الدول المستقلة» على أنقاضه. ومنذ أن ساهم بتأسيس كتلة نيابية حملت اسم «شيوعيون من أجل الديمقراطية»، بدا واضحاً أنه اختار الطريق الأصعب، لكنه ظل منسجماً مع أفكاره التي انعكست لاحقاً على كل سياساته طوال فترة تربّعه على سدة الحكم لخمس ولايات رئاسية متتالية.
لا تهاون...
على مدى ربع قرن حكم البلاد خلالها بقبضة قوية لا تتهاون، ظل لوكاشينكو - الذي بات يحمل في بلاده تسمية «الأب» - محور سجالات لا تنتهي. إذ يدافع أنصاره عن أسلوبه في الحكم، بالإشارة إلى أنه «أنقذ البلاد من الآثار السيئة للتحول نحو الرأسمالية» عبر رفضه إجراءات الخصخصة العشوائية، ومواجهته الفساد والجريمة المنظمة، ومحاربته محاولات «حيتان المال» السيطرة على القطاعات الرئيسية في البلاد، وفقاً للنموذج الذي سارت عليه وأوقعها في حال من التخبّط والفوضى في تسعينات القرن الماضي.
في المقابل، يدّعي خصومه الكثيرون أن ثَمن تلك «الإنجازات» كان باهظاً. وأنه قمع الحريات، وأغلق الصحف، ومنع تطوّر الحياة الحزبية والسياسية في البلاد. كذلك فإنه نكل بمعارضيه بقسوة، ولم يتردد في إطلاق أبشع الصفات ضدهم... حتى أنه تجاهل الانتقادات الدولية الكثيرة عندما واجه بحزم احتجاجات واسعة وسجن مئات المعارضين في عام 2010، بعد مرور وقت قصير على إعادة انتخابه في الولاية الرابعة آنذاك، بأصوات نحو 80 في المائة من الناخبين. وهي انتخابات شكّكت المعارضة - بقوة - في صحة نتائجها، ما أثار غضبه ودفعه إلى اعتقال 7 من أصل 9 مرشحين خاضوا المنافسة ضده.
في أي حال، لم ير الرجل، الذي يصفه الغرب بأنه «آخر ديكتاتور في أوروبا» مشكلة في حالة العزلة التي فُرضت على بلاده. وللعلم، فهو مدرج على لوائح عقوبات كثيرة تمنعه من زيارة أوروبا أو الولايات المتحدة، أو بناء علاقات طبيعية حتى مع جيرانه الأقرب لجهة الغرب، وهي جمهوريات حوض البلطيق وبولندا. ثم إن بيلاروسيا حُرمت من الانضمام إلى مجلس أوروبا لسنوات طويلة، قبل أن يبدأ الغرب بتخفيف لهجته قليلاً، عبر فتح بعض الشراكات مع لوكاشينكو في إطار برامج «الشراكة الشرقية» التي بقيت لسنوات تراوح في مكانها.
المثير أن لوكاشينكو يرفض اتهامات الغرب له، ويبرّر سطوته الثقيلة في بلاده بغياب المنافسين الجديين، ولقد فاخر ذات يوم بأن معارضيه «بضع أشخاص لا يملكون أي وزن في الشارع، وهم في الانتخابات عاجزون عن جمع أكثر من واحد في المائة من الأصوات». لكنه في الوقت ذاته وجه رسالة واضحة إلى الغرب بضرورة التراجع عن معاييره في إطلاق أوصاف الديكتاتورية عليه، إذ قال إنه «لكي يكون ديكتاتوراً يحتاج إلى موارد»، مضيفاً: «أنا لا أنام محتضناً الرؤوس النووية مثل ستالين، ولا أعوم على بحر من موارد النفط مثل هوغو تشافيز في فنزويلا... وليست لدينا كميات من الغاز الطبيعي كتلك التي تمتلكها روسيا الاتحادية».
ومع الاتهامات الغربية الكثيرة للرئيس البيلاروسي بالديكتاتورية، وحرمان البلاد من السير على خطى التطور المماثل للبلدان السوفياتية السابقة التي اختارت طريق الانفتاح والديمقراطية، أثار لوكاشينكو غضب الغرب في مواقف عدة؛ تتعلق بنظرته إلى الملفات السياسية الدولية، أو إلى القيَم والمعايير التي تحاول أوروبا الترويج لها. فهو على مدى سنوات أعلن دعمه لإيران في «حقها بتطوير البرنامج النووي الإيراني». وحقاً، تُعدّ إيران بين الحلفاء الأساسيين لبيلاروسيا، رغم ضعف ميزان التبادل التجاري بين البلدين.
مواقفه غير السياسية
بعيداً من مجالات السياسة، لم يتردد لوكاشينكو بإعلان كراهيته لـ«المثليين»، ورأى أنه لا يمكن السماح بأن يتحوّل النقاش حول هذا الموضوع إلى نقاش حول الحرّيات. وانتُقد لأنه نصح يوماً وزير الخارجية الألماني، المثلي جنسياً، بأن يحيا «حياة طبيعية»، وعندما وُجه بالانتقادات قال لصحافيين: «نحن نعيش في مجتمع ديمقراطي، ولدي الحق في إعطاء رأيي».
من ناحية أخرى، مع أن «الأب» لوكاشينكو برز مدافعاً شرساً ضد الفساد والمحسوبيات في سنوات حكمه الأولى، فاللافت أنه فتح المجال لأفراد من عائلته للعب أدوار مهمة في البلاد. ذلك أن ابنه الأكبر فيكتور عضو في مجلس الأمن القومي في بيلاروسيا، ويحتل ابنه الأصغر ديمتري منصب رئيس النادي الرئاسي الرياضي وأعد مشاركة الرياضيين البيلاروس في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية 2008 في بكين. أما ابنه الأصغر كوليا فهو مرشح الرئيس لـ«خلافته»؛ إذ لم يتردد ضمن أحاديث علنية أمام تجمعات في الإشارة إلى أنه (كوليا) «سيغدو رئيساً». وكان لافتاً أن الفتى، الذي يبلغ حالياً من العمر 14 سنة، رافق والده في مناسبات رسمية؛ بينها زيارة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأخرى للبابا بنديكتوس السادس عشر، كما كان رفيقه في الإشراف ذات مرة على مناورات عسكرية.
روسيا حليف... ولكن
في سياق آخر، مقابل العلاقة المتوترة مع الغرب على مدى سنوات طويلة، حافظ لوكاشينكو على صلات وثيقة مع «الشقيق الأكبر» روسيا، ووقع عام 1996 اتفاقاً لتأسيس اتحاد بين البلدين. لكن الاتفاق ظل حبيس الأدراج، لمدة 3 سنوات، بسبب الرفض القاطع من جانب الرئيس البيلاروسي مطالب موسكو بفتح القطاعات الاقتصادية الأساسية في بلاده أمام عمليات خصخصة تسمح بدخول الشركات الكبرى الروسية إليها.
وفي أكثر من موقع، عقد لوكاشينكو مقارنات مع «النتائج الكارثية» لـ«الخصخصة العشوائية» التي جربتها روسيا في بداية تسعينات القرن الماضي. وتعهد بأنه «لن يسمح أبداً للصوص أن ينهبوا ثروات بلاده»، في إشارة إلى حيتان المال الذين راكموا ثروات خرافية في روسيا، ووضعوا أعينهم على البلد الجار لاحقاً.
وحقاً، شكلت هذه العقدة واحدة من المشكلات التي أصابت الاتحاد بين روسيا وبيلاروسا بحال من الجمود. لكن في الوقت ذاته، حافظ البلدان على نوع من «العلاقات الخاصة» التي دفعت إليها الحاجة الاستراتيجية لكل طرف. إذ تعد روسيا البوابة الأهم على العالم لبيلاروسيا المعزولة والمحاطة بقيود كثيرة، كما أن بيلاروسيا تعد بالنسبة إلى موسكو «الجدار الحاجز» الذي يفصلها عن أوروبا في ظروف تدهور العلاقات وتعزيز سياسات العسكرة وحشد الطاقات على طرفي الحدود. وبهذا المعنى، فإن القيادة الحالية في مينسك (عاصمة بيلاروسيا) باتت تلعب دوراً أساسياً في هذه المواجهة، ولذلك لم يكن غريباً أن تعلن موسكو أخيراً عن زجّ قوات إضافية وطرازات من الأسلحة الحديثة في البلد الجار، وفقاً لاتفاقات التعاون العسكري القائمة بين الحليفين.
وظلت العلاقة الملتبسة بين الطرفين تظهر في محطات عدة، وتراوح بين أحاديث عن تعزيز اتحاد «دولة سلافية» تجمع البلدين، وهو أمر عارضته بقوة مينسك، ما دفع الكرملين في نهاية العام الماضي إلى نفي تهمة محاولات الهيمنة على البلد الجار عن نفسه. ولم تلبث أن تجلت تلك العلاقة المتناقضة عند منعطفات مهمة، إذ لم يحصل الكرملين على دعم الحليف الأقرب في ملف ضم القرم إلى روسيا عام 2014، بل على العكس من ذلك، بدا أن تصرفات روسيا في الفضاء السوفياتي السابق أثارت مخاوف إضافية لدى لوكاشينكو، الذي رأى فيها تقويضاً لفكرة التكامل بين الجمهوريات السوفياتية السابقة وبروزاً لروح الهيمنة ومحاولة التوسع على حساب الشركاء. ثم، منذ وقعت الحرب الروسية - الجورجية عام 2008 ما أسفر عن انفصال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا بدعم روسي، كان تحفّظ مينسك واضحاً على تحركات الكرملين، لكنه اتخذ صفة أوضح بعد ضم شبه جزيرة القرم واندلاع الحرب في الشرق الأوكراني. إذ عارض لوكاشينكو علانية، التطور، وتحدث عن «رأي خاص» لبلاده يقوم على ضرورة «احترام وحدة أراضي أوكرانيا وضرورة ألا يقوم أي طرف بتقسيم هذا البلد العظيم». بل ورأى أن «ضم القرم سابقة سيئة لبلداننا». وأكثر من ذلك، اتهمت أوساط روسية، مينسك، بأنها لعبت أدواراً مهمة في تسهيل دخول البضائع الأوكرانية والغربية إلى الأسواق الروسية بشهادات منشأ بيلاروسية... لتجاوز حواجز العقوبات والتدابير المفروضة بين الجانبين.
«الحليف الصعب» يهدّد
لقد شكلت الأزمة الأوكرانية واحداً من الأسباب الأساسية لتوسيع التوتر في العلاقات بين روسيا وبيلاروسيا، قبل أن تتداخل عناصر أخرى مختلفة؛ بينها أسباب اقتصادية في شكل تجلى في تعميق أزمة سعى الطرفان لمحاصرتها في نهاية العام، قبل أن تتسع أكثر. لكن يبدو أن هذه الجهود وصلت أخيراً إلى طريق مسدودة، إذ رفع لوكاشينكو بقبضته أخيراً في وجه الكرملين، ملوحاً بأن «موسكو قد تخسر حليفها الوحيد على الجبهة الغربية... إذا ما واصلت السير على طريق الإضرار بمصالحنا».
هذه اللهجة التحذيرية الغاضبة برزت بعدما أعلنت موسكو عن إجراءات ضريبية ستؤدي في حال تنفيذها إلى زيادة أسعار النفط الروسي إلى بيلاروسيا، بنسبة غير مسبوقة، وهو ما سيحرم البلد الجار من الوضع التفضيلي الذي نصت عليه اتفاقات الشراكة بين البلدين. وترى مينسك أن موسكو تحاول أن تعوّض خسائرها بسبب العقوبات الغربية، وأن توفر عائدات مالية لمواجهة مشكلاتها من جيوب أطراف أخرى، بينها بيلاروسيا. وهذا ما دفع لوكاشينكو إلى قرع جرس التحذير للروس، فقال: «إذا لم ننجح في الاتفاق على تعويضات الخسائر التي يمكن أن تتكبّدها بلادنا بسبب المناورات الضريبية الروسية الجديدة، فهذا سوف يكون خيار القيادة الروسية. لن نجبرهم على شيء... لكننا سنبحث عن خيارات لمواجهة الوضع الجديد، وهكذا قد تخسر موسكو بهذه الطريقة حليفها الأساسي غرباً».
استخدم لوكاشينكو أسلوبه نفسه في إدارة الأزمات التي تواجهها بلاده عادة. فهو من جانب كلف الحكومة بالبحث عن خيارات لتعويض الخسائر التي تقدر بنحو 10 مليارات دولار أميركي على مدى السنوات الست المقبلة، من بينها تسريع تشغيل مصانع تكرير النفط الخام التي يقترب اكتمال بنائها. ولوّح بضرورة البحث عن مصادر أخرى لشراء النفط الخام وتكريره محلياً، ثم بيعه لبلدان حوض البلطيق المجاورة بـ«تكلفة النفط الروسي». وتلك كانت إشارة قوية إلى عزمه مواجهة التحركات الروسية أخيراً، التي قال عنها «الأفضل ألا تفكّروا بالبحث عن حلول لمشكلاتكم الداخلية من خلال إلقاء الثقل على كاهل المواطن البيلاروسي، فهذا أمر لن نسمح به أبداً».
قد تكون هذه المقدمات الأولى لتحوّل مهم في الشراكة الروسية مع أقرب الحلفاء في الفضاء السوفياتي السابق. ويكفي أن لوكاشينكو، الذي يبدو حالياً أنه يخوض معركته الكبرى على الجانبين شرقاً وغرباً، كان فضّل خلال لقاء لمعالجة هذه الأزمة جمعه في نهاية العام الماضي مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين تحاشي وصف روسيا بأنها «بلد شقيق»، كما جرت العادة. بل اكتفى بالإشارة إلى الأهمية التي توليها بلاده لتجاوز هذه الأزمة بشكل لا يسبب أضراراً مالية على بلاده.
في المقابل، أفردت وسائل إعلام روسية مساحات واسعة خلال الفترة الأخيرة للحديث عن «صعوبة إدارة العلاقات» مع «الحليف الصعب»، الذي وُصف بأنه يحاول أن «يعضّ يد روسيا التي ساعدته دائماً في مواجهة العزلة المفروضة على بلاده». وقال وزير المال الروسي أنطون سيلوانوف، رداً على تعليقات لوكاشينكو الحادة، إن «الإجراءات الضريبية التي نقوم بها شأن داخلي، ونحن لم نَعِد بيلاروسيا بأي شيء». وتبدو العبارة لافتة لأنها تعد بتوسيع التوتر مع البلد الجار.