طفرة جراحات تجميل في الهند بحثاً عن صورة بوليوود

مراهقون يريدون مظهراً مثالياً على مواقع التواصل الاجتماعي

نجمة بوليوود شيلبا شيتي قبل عمليات التجميل وبعدها
نجمة بوليوود شيلبا شيتي قبل عمليات التجميل وبعدها
TT

طفرة جراحات تجميل في الهند بحثاً عن صورة بوليوود

نجمة بوليوود شيلبا شيتي قبل عمليات التجميل وبعدها
نجمة بوليوود شيلبا شيتي قبل عمليات التجميل وبعدها

قبل شهرين من التحاقها بالكلية، بل وحتى قبل عيد ميلادها التاسع عشر خضعت نيرجا سوهني لعملية تجميل أنفها حتى تندمج مع الطلبة في الحرم الجامعي. وقالت: «لطالما كان شكل أنفي سيئاً، لكنني في المرحلة الجامعية الآن بمظهر جديد وأشعر بالثقة في نفسي». مع تغير مفاهيم الجمال في الهند والاتجاه نحو إنفاق المزيد من المال على المظهر، يتعزز إقبال الشباب على جراحات التجميل لزيادة ثقتهم في أنفسهم.
خرج إسرار خان، البالغ من العمر 19 عاماً من مستشفى ماكس في دلهي بالوجه الذي لطالما حلم به، حيث نحت أنفه فأصبح أكثر نحافة. على ما يبدو أن الحاجة القوية إلى تعزيز صورة الذات تؤثر على الفتيان أيضاً. وقد أصبح سيدهانت ذي الستة عشر عاماً منعزلاً عندما بدأ «صدره» ينمو بشكل غير طبيعي وهي حالة شائعة بين المراهقين. ويطلق على هذه الحالة تثدي البلوغ، وعادة ما تختفي من تلقاء نفسها. وأوضح قائلاً: «أخذ أصدقائي في إثارة غيظي، وقرص صدري، وبدأت ثقتي في نفسي تتحطم، لذا خضعت لعملية جراحية بدعم مالي من أبوي.
يسعى كثير من المراهقين، مثل أولئك النماذج، وراء طرق جديدة للحصول على المظهر المثالي. يمكن تصغير حجم الشفاه الغليظة، ونحت وتنحيف الأنف الكبيرة في بضع ساعات، ولا يحتاج جعل الوجنتين أكثر امتلاءً، ويبدو عليها أمارات الشباب بإجازة يوم واحدة. من جراحات شد الوجه السريعة وحقن نفخ الشفاه، إلى نحت البطن، وجراحات علاج التثدي، تعد جراحات التجميل محور وموضوع الأحاديث هذه الأيام.
يتجه المراهقون الهنود المهووسون بالصور الذاتية ويخشون الشعور بالعار من شكل أجسامهم، نحو عمليات التجميل الجراحية بفعل ضغط الأقران ومعايير الجمال المستحيلة. يقول دكتور سونيل تشوداري، مدير مؤسسة جراحات التجميل والجراحات الاستنباتية ماكس هيلث كير في دلهي: «تحول تركيز عمليات التجميل من البحث عن المظهر الشاب إلى استهداف شكل محدد. يأتي إلينا الشباب الذين ينتمون إلى تلك الفئة العمرية، قبل بدء مرحلة جديدة في حياتهم مثل الالتحاق بالجامعة، أو الحصول على وظيفة جديدة، أو الزواج».
يوضح دكتور تشوداري الذي يجري ست عمليات لعلاج التثدي شهرياً على الأقل، قائلاً: «هناك فتية مراهقون يطلبون مني أن أنحت لهم عضلات البطن، فأخبرهم بأن عليهم الانتظار حتى سن الثامنة عشرة». وقد تحدث جراح في دلهي مؤخراً عن رغبة بعض مرضاه في أن يبدوا مثل النسخة المنقحة لهم على برنامج «سناب شات» حيث يبحثون عن البشرة الملساء والشفاه الغليظة والأعين الواسعة وما إلى ذلك.
كذلك أوضح دكتور فيرال ديساي، جراح التجميل، أن هناك زيادة في تلك العمليات لأن الجميع يريدون مظهراً أفضل في عالم اليوم الذي تؤثر عليه مواقع التواصل الاجتماعي. وأضاف دكتور ديساي الذي يتلقى من 10 إلى 12 استفساراً شهرياً: «يمكن للمرء الحصول على صورة معززة رقمياً من خلال منقحات تطبيق (سناب شات) تكون فيها الشفاه غليظة، والوجنتان ممتلئتان، والأعين واسعة. نتلقى كثيراً طلبات لعمل مثل تلك التعزيزات، ويأتي إلينا الناس ومعهم تلك الصور المنقحة. هناك طلب كبير على جعل الذقن أكثر امتلاء وتحديد خط الفك. هناك خيارات جراحية (نتائجها دائمة) وخيارات غير جراحية (نتائجها مؤقتة) لعمل ذلك النوع من التغييرات الجمالية، لكننا نستخدم في أكثر الأحوال الاثنين معاً».
يتلقى دكتور موهان توماس، جراح التجميل البارز، في معهد جراحات التجميل والبشرة، خلال الأربع سنوات الماضية من طلبين إلى ثلاثة طلبات شهرياً بإجراء عمليات جراحية تجعل الناس يبدون مثلما يظهرون في صور تطبيق «فيس آب» من «آبل»، وفي الصور المنقحة. ويقول أخصائي التجميل: «ظاهرة الصور الذاتية نموذج رئيسي، حيث يمكن لانتشار تلك الصور المنقحة أن يؤثر سلباً على تقدير الإنسان لذاته، ويجعل المرء يشعر بالدونية فقط لأن ليس له مظهر محدد في العالم، وربما يؤدي ذلك إلى الإصابة باضطراب تشوه الجسم. نحن ننصح في كثير من الأحوال الشباب بعدم الخضوع إلى الجراحة، حيث يعاني بعضهم من اضطراب تشوه الجسم الذي يفوق فيه مبعث القلق من تشوه ما التشوه ذاته وهذا أمر غير صحي».
ويحذر دكتور ديساي قائلاً: «أي شيء يزيد عن الحد ينقلب إلى الضد، حيث يجب على المرء أن يكون موقناً من السبب الذي يدفعه نحو الخضوع لجراحة تجميل، ومدركاً لفائدتها ونفعها بالنسبة له». وقد حول دكتور ديساي ثمانية في المائة من مرضاه إلى طبيب نفسي حين اشتبه في إصابتهم بذلك الاضطراب فقد كانت طلباتهم غير واقعية أثناء الاستشارة.
وأوضحت دراسة تزايد عدد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، ضمن الفئة العمرية 17 - 25 عاماً، الذين يتواصلون مع جراحين لتغيير مظهرهم بحيث يصبح منقحاً. ويحذر الأطباء من هذا التوجه المزعج المتمثل في «تعديلات الشكل على تطبيق سناب شات» الذي أصاب الشباب الهندي بالهوس، حيث باتوا يسعون وراء العمليات الجراحية من أجل الحصول على شفاه أكثر امتلاء، أو أعين واسعة، أو أنف أصغر حجماً استناداً إلى المنقحات المفضلة لهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
حسب تقرير «أوت لوك» الذي يورد قول دكتور شيشير أغراوال، يزداد معدل جراحات التجميل بين الشباب بنسبة تتراوح بين 10 و15 في المائة سنوياً، ويوضح أن 50 في المائة من مرضاه من الأطفال، في حين يشير دكتور بريادارشان في مستشفى «فورتيس» إلى أن النسبة تبلغ 40 في المائة. كذلك يقول دكتور سمير كاركانيس، جراح تجميل في مومباي: «هناك زيادة نسبتها 30 في المائة في جراحات تجميل الأطفال دون الثامنة عشرة خلال العقد الماضي».
ما سبب زيادة جراحات التجميل بين المراهقين؟ ربما يكون التنمر هو السبب الرئيس وراء زيادة عمليات التجميل، فبالنسبة للفتيات المراهقات يعد وصف أصدقائهن أو أفراد أسرهن لهن بالـ«نحيلة» أو الـ«بدينة» سبباً في رسم صورة نمطية سلبية، ويؤدي إلى ضعف ثقتهن على المستوى الاجتماعي.
كانت على شيفانغي، مراهقة من مومباي تخجل من جسدها باستمرار، فعل الكثير حتى تشعر بالاطمئنان الذي تحتاجه. وتقول: «لم يكبر ثدياي أبداً، واعتدت أن أبقى واعية جداً بمظهري. كنت أسمع زميلاتي في الصف الدراسي وهم يصفونني بالـ(الفتاة الذكر). لقد دفعوني إلى النظر في الخيارات المتاحة الخاصة بتكبير الثدي. فكرت في الأمر وتحدثت مع والدي فدعماني وخضعت للعملية الجراحية. أشعر الآن بالثقة فيما يتعلق بجسمي».
لدى أكثر الأطفال الذين يقابلهم الجراحون في الهند، آباء ميسورو الحال يملكون المال الكافي لدفع تكلفة عمليات التجميل، مع العلم أن عملية تجميل الأنف وحدها قد تتراوح بين 50 ألف و80 ألف روبية.
يوافق دكتور ديساي على أن الصور الذاتية قد جعلت تكبير الشفاه، وتعديل الأنف من جراحات التجميل الأكثر شعبية وانتشاراً بين الأطفال، حيث أوضح قائلاً: «إنهم يريدون المظهر المثالي في الصور الذاتية، وهو أمر يمكن تحقيقه بسهولة باستخدام مواد نفخ الشفاه، والحقن بالدهون. لقد جعلت الصور الذاتية تكبير الشفاه، وتصغير الأنف من العمليات الأكثر شيوعاً وانتشاراً. هناك أطفال يطلبون أن تصبح شفاههم مثل شفاه شيلبا شيتي أو إيشواريا راي، أو الحصول على فك هريثيك روشان، أو الملامح الحادة لكريستيانو رونالدو. إنهم يرغبون في الحصول على المظهر المثالي من أجل الصور الذاتية».
ويقابل دكتور لوهيا، طبيب الأمراض الجلدية، الكثير من المرضى المراهقين الذين يسعون وراء جعل أنوفهم أكثر استقامة، وخالية من التحدبات باستخدام مواد النفخ، وجعل شفاههم غليظة، والمنطقة التي توجد أسفل أعينهم خالية من الانتفاخات. وتعد عملية إزالة الشعر باستخدام الليزر طريقة معتادة جديدة بالنسبة للمراهقين أيضاً.
مع ذلك كثيراً ما تتجاوز أسباب هذا التوجه التنمر، أو الشعور برغبة قهرية في الحصول على أنف أجمل، أو بطن أكثر نحافة، أو ثدي أكبر. يقول الطبيب النفسي دكتور أمبريش دارماديكاري من مومباي: «من وجهة نظر نفسية يسعى البالغون وراء التميز بين الجموع، ويريد المراهقون الاندماج مع أقرانهم. يعد الحفاظ على حسابات مواقع التواصل الاجتماعي بالنسبة للأطفال وظيفة بدوام كامل مثيرة للقلق، لأنه عليهم الحصول على نقرات إعجاب أكثر مما يحصل عليه أقرانهم حتى يتقدموا في اللعبة». يقال إنه إذا لو كان الأمر برمته يتعلق بالصور الذاتية فلماذا لا يستخدمون تطبيق يحسن شكل الصور الذاتية بدلاً من اللجوء إلى جراحات التجميل؟ تثير أي محاولة للمس صورة رقمياً ازدراء الأقران، حيث يعرف الجميع كيف يبدو الشخص في الواقع. ويضيف دكتور بريادارشان قائلاً: «المنقحات التجميلية ليست كافية، ويبدو أن الخضوع لمشرط الجراح طريقة سهلة لحل الأمر».
على الجانب الآخر يقول سانديب أهوجا، المدير التنفيذي لـ«في إل سي سي هيلث كير»: «يريد كثير من العملاء أن يحصلوا على مظهر جميل من دون الخضوع إلى إجراءات مؤلمة. لذا قدمنا بدائل مثل الطرق العضوية لتلميع شعر الوجه، وإزالة السمرة باستخدام طرق طب الآيورفيدا، وإزالة النمش باستخدام عرق السوس، والتخلص من حب الشباب باستخدام تسعة أنواع مختلفة من الأحماض».
كثيراً ما يرفض الأطباء التعامل مع المرضى دون الثامنة عشرة خوفاً من حدوث عدوى وظهور آثار جانبية على الأجسام آليافعة. يقول كونجال غاناكا، طبيب نفسي ومعالج أطفال يبلغ من العمر 35 عاماً ويقيم في دلهي: «كثيراً ما أقابل عملاء يصل عمرهم إلى العاشرة، ويكون علي نصحهم بعدم إجراء أي عمليات جراحية».
كذلك يوجه كثير من الأطباء المرضى نحو اللجوء إلى طرق العلاج غير الجراحية، التي يستمر أثرها لأكثر من عام، ولا يكون لها أثر نفسي دائم، ففي الحالات الحرجة ربما يصاب الشباب باضطراب تشوه الجسم، عندما يكونون مهووسين بأصغر جزء من وجوههم وأجسامهم.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)