مسارات الإرهاب في 2019

{القاعدة} تخطط لاختراق أفريقيا والصحراء من جديد

تأهب أمني في مدينة ستراسبورغ عقب هجوم إرهابي تبناه تنظيم {داعش} استهدف سوقاً في المدينة الفرنسية الشهر الماضي (إ.ب.أ)
تأهب أمني في مدينة ستراسبورغ عقب هجوم إرهابي تبناه تنظيم {داعش} استهدف سوقاً في المدينة الفرنسية الشهر الماضي (إ.ب.أ)
TT

مسارات الإرهاب في 2019

تأهب أمني في مدينة ستراسبورغ عقب هجوم إرهابي تبناه تنظيم {داعش} استهدف سوقاً في المدينة الفرنسية الشهر الماضي (إ.ب.أ)
تأهب أمني في مدينة ستراسبورغ عقب هجوم إرهابي تبناه تنظيم {داعش} استهدف سوقاً في المدينة الفرنسية الشهر الماضي (إ.ب.أ)

أحد الأسئلة الجوهرية التي تواجه الباحثين في شؤون الإرهاب حول العالم ونحن على عتبات العام الجديد، هو ذلك المتعلق بمسار العنف المسلح والمنطلق في عباءات آيديولوجية تارة والمتدثر بأردية دوغمائية تارة أخرى، وفي كل الأحوال لا يحمل الخير للبشر بل الشر والموت.
قبل أن ينتهي العام المنصرم، خيل للكثيرين أن العام الجديد سوف يضحى أفضل حالاً من سابقه، غير أن قراءات معمقة صادرة من مراكز دولية، وعن عقول خبيرة واعية بأبعاد الأزمة تشير إلى أن ذلك لن يضحى كذلك.
على أبواب 2019 لا يزال هناك فارق واضح بين إرهاب الدول وإرهاب الجماعات المسلحة على اختلاف مسمياتها، عطفاً على الشكل الذي بات أكثر إزعاجاً حول الكرة الأرضية، أي الإرهاب الفردي، ونموذج «الذئاب المنفردة»، والأشد خطورة هنا أولئك غير المرصودين أو المعروفين بالانتماء لجماعات إرهابية عنقودية.
يمكن للمرء بداية الحديث قطعا عن إرهاب الدول، لا سيما بعد أن أكد استطلاع رأي لخبراء السياسة الأميركية أن إيران تعد أكبر المهددين للأمن والسلم في العالم في العام الجديد. الخلاصة المتقدمة لم تأتِ من فراغ، بل هي حصاد معلومات ومتابعات لما تقوم به طهران من إرهاب الوكلاء والميليشيات في الشرق الأوسط تحديداً، عطفاً على الأدوار القاتلة في كل من أميركا اللاتينية، ودول البلقان، والتي ألقينا عليها الضوء في قراءات سابقة. والشاهد أن الخبراء الأميركيين الذين يتهمون إيران بالتدخل في النزاعات القومية، ودعم الجماعات الإرهابية في بعض الدول الحليفة للولايات المتحدة والذين ينتمون إلى مجلس العلاقات الخارجية الأميركي في واشنطن، قد رصدوا بعين المحللين الثقات الأرقام المتغيرة في الموازنة الإيرانية الجديدة لعام 2019. إذ أشارت تقارير من جهات مختلفة إلى قيام حكومة الملالي برفع مستوى الدعم للحرس الثوري ضمن الموازنة الجديدة لتصل إلى 6 مليارات، بعد أن كانت 4.8 مليار في ميزانية 2018، أي بزيادة قدرها 25 في المائة، والمثير في الأمر أن مخصصات وزارة الدفاع تراجعت من 17 مليار دولار عام 2018 إلى النصف في موازنة 2019. وحال محاولة فهم ماذا يعني ذلك، فإن النتيجة المؤكدة هي أن الحرس الثوري الموكول إليه العمليات الإرهابية الإيرانية، بات يجد المزيد من التمويل لتعكير صفو الأمن العام الدولي وتكدير سلمه.
ماذا عن أكبر جماعة ظلامية معاصرة في العالم الجديد؟
الإشارة ولاشك لـ«داعش» ومستقبل تحركاته عربياً أولاً ودولياً ثانياً، لا سيما بعد أن استدعت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأيام الماضية عن اكتمال المهمة في سوريا بالقضاء على «داعش» الكثير من الأسئلة: فهل حقاً هزمت «داعش» هزيمة مبرمة في العراق وسوريا، وبهذا يكون قد انكسر شرها، وذهبت خطورتها إلى أضابير التاريخ؟
في الأسبوع الأخير من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، كتب توماس جوسلين كبير محرري مجلة «لونغ جورنال» تحقيقاً مطولاً عنوانه: «لم نهزم (داعش) بعد»، أشار فيه إلى بقاء عدد من كبار قادة التنظيم على قيد الحياة، بمن فيهم أبو بكر البغدادي، إضافة إلى آلاف المقاتلين في كل من سوريا والعراق وما يدل على أن عودة «داعش» ليست بعيدة حرص هؤلاء على التدريب المستمر في انتظار فرصة جديدة للنهوض مرة ثانية، عطفاً على مواصلة آلة التنظيم الإعلامية، والتي يعتقد أن مقرها الرئيسي لا يزال شرق أوسطي، وتنشر يومياً تقارير بلغات عدة.
أما حال استخدام الأرقام التي لا تكذب ولا تتجمل والمتصلة بعدد عمليات «داعش» خلال مدة 20 أسبوعاً، فنحن أمام حقيقة مؤكدة وهي أن التنظيم لا يزال قادراً على إحداث ضربات إرهابية وإن تراوحت قوتها حول العالم، ففي الفترة المرصودة ادعى «داعش» تنفيذه 1922 عملية، نصفها تقريباً في العراق أي نحو 946. وهناك 599 عملية في سوريا... فهل يمكن لتلك الجماعة أن تكون قد هزمت مرة وإلى الأبد؟
كذلك، أثبتت حادثة مدينة ستراسبوغ في فرنسا مؤخراً أن كارثة «داعش» ترتبط بالتوجيه الذهني والولاء العقائدي، إذ ليس شرطاً أن يكون الإرهابي الداعشي على اتصال تنظيمي بالقيادة في الشرق الأوسط، لكي يقدم على عملية بعينها، سيما وأن هناك تصريحات سابقة للمتحدث باسم التنظيم أبو محمد العدناني، يشير فيها إلى أن الأدوات البسيطة كافة يمكن أن تكون أداة لقتل الكفار من الإنجليز والفرنسين وغيرهم، كالسكين، والدهس بالسيارات، وصولاً إلى إلقاء الحجارة لو تطلب الأمر.
ولأن الأميركيين بنوع خاص لديهم مخاوف من أن يتمدد «داعش» داخل بلادهم المتمترسة وراء محيطين على حين غرة، لذا كان التركيز من كبريات الصحف الأميركية على الخطر الداعشي والجدل حول ما قاله ترمب، وهذا ما دفع جوشوا غيلترز، المدير التنفيذي لمعهد الدفاع عن الحقوق الدستورية بجامعة جورج تاون الأميركية، والذي شغل من قبل منصب المدير الأعلى لمكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي الأميركي، وكريستوفر كوستا، المدير التنفيذي لمتحف الجاسوسية الدولي، وضابط الاستخبارات السابق، وقد شغل بدوره مدير قسم مكافحة الإرهاب في المجلس، لكتابة مقال مطول ورصين بتاريخ 19 ديسمبر (كانون الأول) الماضي عبر صحيفة «نيويورك تايمز»، أشار المقال إلى أن مهمة هزيمة «داعش» لم تنجز بالكامل، سيما وأن الجزء الأصعب ربما لم يأتِ بعد، وهو التعامل مع بقايا نواة التنظيم في العراق وسوريا، والخلاصة لديهما هي أنه رغم جميع النجاحات الكثيرة التي حققتها الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001. فإن الإدارات الأميركية المتعاقبة لم تتوصل بعد إلى طريقة كاملة لتجاوز أهم منعطف في سبيل هزيمة الجماعات الإرهابية مثل القاعدة و«داعش»، من أجل القضاء عليها. والثابت أن ذكر اسم تنظيم القاعدة يعود بنا إلى حضور التنظيم الذي من رحمه خرجت «داعش» في العراق، ومآلاته في العام الجديد، وهو المعروف بحضوره الفكري والعقائدي بأكثر من عملياته النوعية كما الحال مع «داعش» ؟
مع الأيام الأولى من العام الجديد كان مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية، يصدر قراءته عن تنظيم القاعدة، وكيف أنه يسعى لبسط نفوذه في مناطق أفريقيا وجنوب الصحراء، وفق استراتيجية تستند إلى أربعة أسس رئيسية هي: التحالفات مع الجماعات الإرهابية الأخرى في المنطقة والتي تنتهج آيديولوجيته، وتتلاقى في المصالح والأهداف معه، ثم الضرب على وتر العرقية، إذ يحرص تنظيم القاعدة دائماً على الاحتفاظ بظهير عرقي يمثل مصدراً رئيسياً للعناصر الإرهابية التي يمكن أن تنضم إليه، كي يتخطى الخسائر التي يتعرض لها بسبب العمليات العسكرية ضده، واستخدام أساليب جديدة لم يكن يستخدمها من قبل، إذ يحاول على سبيل المثال في المغرب أن يرد على الهجمات التي تشن ضده بأساليب مختلفة وسريعة، خشية أن يؤثر عدم الرد على تمسكه الداخلي وإضعاف قدرته على التوسع في المنطقة.
في سياق البحث عن المشهد الإرهابي القادم، يستطيع المرء القطع بأن هناك تنظيمات وخلايا جديدة غير مركزية قد تنشأ حول العالم، لا سيما في أفريقيا وآسيا، وليس شرطاً أن تكون ذات مقدرة عالية، بل يكفي أن تلتقي نوايا إيقاع الأذى بالآخرين لحدوث عمليات إرهابية كبيرة من خلال أدوات تبدو في الظاهر صغيرة.
التحليل السابق يمكن ومن أسف أن يكون له حظ من النجاح لأسباب منطقية تسلسلية فقد كانت حركة المجاهدين العرب في أفغانستان هي المصدر الرئيسي لتنظيم القاعدة في التسعينات، ذلك الذي أذاق العالم الكثير من الألم وصولاً إلى العام الأول من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتالياً في العقد الثاني كانت «داعش» تنبعث من ركام القاعدة في العراق، وتتمدد في سوريا، وها نحن على عتبات العقد الثالث من القرن الجديد، وفيه تبقى الاحتمالات مفتوحة وواردة، وقابلة لظهور تنظيمات أخرى، ربما تكون ثمرة التقاء للفارين من الدواعش، وبقايا القاعدة، إضافة إلى جماعات أخرى بعضها بات يعرف بصفته إرهاباً عائلياً، حيث نجد عمليات بعينها يقوم بها أقارب ومن دون أن يخالطهم غريب، الأمر الذي يعقد من مسألة المتابعة الأمنية، أو إفشال مثل تلك المخططات قبل حدوثها.
من بين تلك الإشكاليات العريضة المتصلة بالإرهاب في العام الجديد يبقى الحديث عن مهارات الاتصالات بين الإرهابيين الذين باتوا خبراء ولا نغالي إن قلنا إنهم أضحوا «إرهابيين معولمين»، بمعنى حضورهم العالي في مجال التكنولوجيا الذكية، والالتفاف من حول الرقابة الأمنية، ما بعد التقليدية، وذلك من خلال زيادة استخدام التطبيقات المشفرة، فقد بات من المحتمل أن تحاول جماعات إرهابية محاكاة وتطوير التقنيات والأساليب التي تستخدمها المنظمات الإجرامية العابرة للحدود.
وفي الإطار نفسه يبقى الإرهاب السيبراني مجالاً جديداً للجماعات الإرهابية للتعاطي من خلاله، سيما وأنه أصبح عالماً ورائياً غير مرئي من السلطات التي تراقب الإرهاب والمتشددين، ومن هنا فإن المخاوف من أن يسابق الإرهابيون ولو بخطو واحدة الأجهزة المعنية، وفي هذها الحال ربما تكون الضحايا بالآلاف أو الملايين، إذا استطاع الإرهابيون اختراق شبكات الدفاع والصواريخ لدولة كبرى، أو طالت أياديهم مفاتيح الشفرات التي تنظم حركة الطائرات في المجال الجوي أو الوصول إلى محطات الكهرباء والبنى التحتية لدولة ما.
أضف إلى ما تقدم فإن هناك رعباً جديداً ينتظر أن يستطير شره في الأعوام المقبلة، منه على سبيل المثال لا الحصر إشكالية الطائرات من دون طيار، فحتى لو كانت في شكل بدائي، فإن خطر تحميلها بمتفجرات يبقى كارثياً ويهدد الآمنين بشراً وحجراً.
يأمل المرء أن يكون 2019 أفضل حظاً من سابقه، لكن حقيقة الأمر تبين أن المخاوف القائمة والقادمة تستدعي وتتطلب استراتيجية دولية حقيقية غير مرائية، إن أراد الجميع الخلاص من الشر الآتي من بعيد.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».