مسارات الإرهاب في 2019

{القاعدة} تخطط لاختراق أفريقيا والصحراء من جديد

تأهب أمني في مدينة ستراسبورغ عقب هجوم إرهابي تبناه تنظيم {داعش} استهدف سوقاً في المدينة الفرنسية الشهر الماضي (إ.ب.أ)
تأهب أمني في مدينة ستراسبورغ عقب هجوم إرهابي تبناه تنظيم {داعش} استهدف سوقاً في المدينة الفرنسية الشهر الماضي (إ.ب.أ)
TT

مسارات الإرهاب في 2019

تأهب أمني في مدينة ستراسبورغ عقب هجوم إرهابي تبناه تنظيم {داعش} استهدف سوقاً في المدينة الفرنسية الشهر الماضي (إ.ب.أ)
تأهب أمني في مدينة ستراسبورغ عقب هجوم إرهابي تبناه تنظيم {داعش} استهدف سوقاً في المدينة الفرنسية الشهر الماضي (إ.ب.أ)

أحد الأسئلة الجوهرية التي تواجه الباحثين في شؤون الإرهاب حول العالم ونحن على عتبات العام الجديد، هو ذلك المتعلق بمسار العنف المسلح والمنطلق في عباءات آيديولوجية تارة والمتدثر بأردية دوغمائية تارة أخرى، وفي كل الأحوال لا يحمل الخير للبشر بل الشر والموت.
قبل أن ينتهي العام المنصرم، خيل للكثيرين أن العام الجديد سوف يضحى أفضل حالاً من سابقه، غير أن قراءات معمقة صادرة من مراكز دولية، وعن عقول خبيرة واعية بأبعاد الأزمة تشير إلى أن ذلك لن يضحى كذلك.
على أبواب 2019 لا يزال هناك فارق واضح بين إرهاب الدول وإرهاب الجماعات المسلحة على اختلاف مسمياتها، عطفاً على الشكل الذي بات أكثر إزعاجاً حول الكرة الأرضية، أي الإرهاب الفردي، ونموذج «الذئاب المنفردة»، والأشد خطورة هنا أولئك غير المرصودين أو المعروفين بالانتماء لجماعات إرهابية عنقودية.
يمكن للمرء بداية الحديث قطعا عن إرهاب الدول، لا سيما بعد أن أكد استطلاع رأي لخبراء السياسة الأميركية أن إيران تعد أكبر المهددين للأمن والسلم في العالم في العام الجديد. الخلاصة المتقدمة لم تأتِ من فراغ، بل هي حصاد معلومات ومتابعات لما تقوم به طهران من إرهاب الوكلاء والميليشيات في الشرق الأوسط تحديداً، عطفاً على الأدوار القاتلة في كل من أميركا اللاتينية، ودول البلقان، والتي ألقينا عليها الضوء في قراءات سابقة. والشاهد أن الخبراء الأميركيين الذين يتهمون إيران بالتدخل في النزاعات القومية، ودعم الجماعات الإرهابية في بعض الدول الحليفة للولايات المتحدة والذين ينتمون إلى مجلس العلاقات الخارجية الأميركي في واشنطن، قد رصدوا بعين المحللين الثقات الأرقام المتغيرة في الموازنة الإيرانية الجديدة لعام 2019. إذ أشارت تقارير من جهات مختلفة إلى قيام حكومة الملالي برفع مستوى الدعم للحرس الثوري ضمن الموازنة الجديدة لتصل إلى 6 مليارات، بعد أن كانت 4.8 مليار في ميزانية 2018، أي بزيادة قدرها 25 في المائة، والمثير في الأمر أن مخصصات وزارة الدفاع تراجعت من 17 مليار دولار عام 2018 إلى النصف في موازنة 2019. وحال محاولة فهم ماذا يعني ذلك، فإن النتيجة المؤكدة هي أن الحرس الثوري الموكول إليه العمليات الإرهابية الإيرانية، بات يجد المزيد من التمويل لتعكير صفو الأمن العام الدولي وتكدير سلمه.
ماذا عن أكبر جماعة ظلامية معاصرة في العالم الجديد؟
الإشارة ولاشك لـ«داعش» ومستقبل تحركاته عربياً أولاً ودولياً ثانياً، لا سيما بعد أن استدعت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأيام الماضية عن اكتمال المهمة في سوريا بالقضاء على «داعش» الكثير من الأسئلة: فهل حقاً هزمت «داعش» هزيمة مبرمة في العراق وسوريا، وبهذا يكون قد انكسر شرها، وذهبت خطورتها إلى أضابير التاريخ؟
في الأسبوع الأخير من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، كتب توماس جوسلين كبير محرري مجلة «لونغ جورنال» تحقيقاً مطولاً عنوانه: «لم نهزم (داعش) بعد»، أشار فيه إلى بقاء عدد من كبار قادة التنظيم على قيد الحياة، بمن فيهم أبو بكر البغدادي، إضافة إلى آلاف المقاتلين في كل من سوريا والعراق وما يدل على أن عودة «داعش» ليست بعيدة حرص هؤلاء على التدريب المستمر في انتظار فرصة جديدة للنهوض مرة ثانية، عطفاً على مواصلة آلة التنظيم الإعلامية، والتي يعتقد أن مقرها الرئيسي لا يزال شرق أوسطي، وتنشر يومياً تقارير بلغات عدة.
أما حال استخدام الأرقام التي لا تكذب ولا تتجمل والمتصلة بعدد عمليات «داعش» خلال مدة 20 أسبوعاً، فنحن أمام حقيقة مؤكدة وهي أن التنظيم لا يزال قادراً على إحداث ضربات إرهابية وإن تراوحت قوتها حول العالم، ففي الفترة المرصودة ادعى «داعش» تنفيذه 1922 عملية، نصفها تقريباً في العراق أي نحو 946. وهناك 599 عملية في سوريا... فهل يمكن لتلك الجماعة أن تكون قد هزمت مرة وإلى الأبد؟
كذلك، أثبتت حادثة مدينة ستراسبوغ في فرنسا مؤخراً أن كارثة «داعش» ترتبط بالتوجيه الذهني والولاء العقائدي، إذ ليس شرطاً أن يكون الإرهابي الداعشي على اتصال تنظيمي بالقيادة في الشرق الأوسط، لكي يقدم على عملية بعينها، سيما وأن هناك تصريحات سابقة للمتحدث باسم التنظيم أبو محمد العدناني، يشير فيها إلى أن الأدوات البسيطة كافة يمكن أن تكون أداة لقتل الكفار من الإنجليز والفرنسين وغيرهم، كالسكين، والدهس بالسيارات، وصولاً إلى إلقاء الحجارة لو تطلب الأمر.
ولأن الأميركيين بنوع خاص لديهم مخاوف من أن يتمدد «داعش» داخل بلادهم المتمترسة وراء محيطين على حين غرة، لذا كان التركيز من كبريات الصحف الأميركية على الخطر الداعشي والجدل حول ما قاله ترمب، وهذا ما دفع جوشوا غيلترز، المدير التنفيذي لمعهد الدفاع عن الحقوق الدستورية بجامعة جورج تاون الأميركية، والذي شغل من قبل منصب المدير الأعلى لمكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي الأميركي، وكريستوفر كوستا، المدير التنفيذي لمتحف الجاسوسية الدولي، وضابط الاستخبارات السابق، وقد شغل بدوره مدير قسم مكافحة الإرهاب في المجلس، لكتابة مقال مطول ورصين بتاريخ 19 ديسمبر (كانون الأول) الماضي عبر صحيفة «نيويورك تايمز»، أشار المقال إلى أن مهمة هزيمة «داعش» لم تنجز بالكامل، سيما وأن الجزء الأصعب ربما لم يأتِ بعد، وهو التعامل مع بقايا نواة التنظيم في العراق وسوريا، والخلاصة لديهما هي أنه رغم جميع النجاحات الكثيرة التي حققتها الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001. فإن الإدارات الأميركية المتعاقبة لم تتوصل بعد إلى طريقة كاملة لتجاوز أهم منعطف في سبيل هزيمة الجماعات الإرهابية مثل القاعدة و«داعش»، من أجل القضاء عليها. والثابت أن ذكر اسم تنظيم القاعدة يعود بنا إلى حضور التنظيم الذي من رحمه خرجت «داعش» في العراق، ومآلاته في العام الجديد، وهو المعروف بحضوره الفكري والعقائدي بأكثر من عملياته النوعية كما الحال مع «داعش» ؟
مع الأيام الأولى من العام الجديد كان مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية، يصدر قراءته عن تنظيم القاعدة، وكيف أنه يسعى لبسط نفوذه في مناطق أفريقيا وجنوب الصحراء، وفق استراتيجية تستند إلى أربعة أسس رئيسية هي: التحالفات مع الجماعات الإرهابية الأخرى في المنطقة والتي تنتهج آيديولوجيته، وتتلاقى في المصالح والأهداف معه، ثم الضرب على وتر العرقية، إذ يحرص تنظيم القاعدة دائماً على الاحتفاظ بظهير عرقي يمثل مصدراً رئيسياً للعناصر الإرهابية التي يمكن أن تنضم إليه، كي يتخطى الخسائر التي يتعرض لها بسبب العمليات العسكرية ضده، واستخدام أساليب جديدة لم يكن يستخدمها من قبل، إذ يحاول على سبيل المثال في المغرب أن يرد على الهجمات التي تشن ضده بأساليب مختلفة وسريعة، خشية أن يؤثر عدم الرد على تمسكه الداخلي وإضعاف قدرته على التوسع في المنطقة.
في سياق البحث عن المشهد الإرهابي القادم، يستطيع المرء القطع بأن هناك تنظيمات وخلايا جديدة غير مركزية قد تنشأ حول العالم، لا سيما في أفريقيا وآسيا، وليس شرطاً أن تكون ذات مقدرة عالية، بل يكفي أن تلتقي نوايا إيقاع الأذى بالآخرين لحدوث عمليات إرهابية كبيرة من خلال أدوات تبدو في الظاهر صغيرة.
التحليل السابق يمكن ومن أسف أن يكون له حظ من النجاح لأسباب منطقية تسلسلية فقد كانت حركة المجاهدين العرب في أفغانستان هي المصدر الرئيسي لتنظيم القاعدة في التسعينات، ذلك الذي أذاق العالم الكثير من الألم وصولاً إلى العام الأول من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتالياً في العقد الثاني كانت «داعش» تنبعث من ركام القاعدة في العراق، وتتمدد في سوريا، وها نحن على عتبات العقد الثالث من القرن الجديد، وفيه تبقى الاحتمالات مفتوحة وواردة، وقابلة لظهور تنظيمات أخرى، ربما تكون ثمرة التقاء للفارين من الدواعش، وبقايا القاعدة، إضافة إلى جماعات أخرى بعضها بات يعرف بصفته إرهاباً عائلياً، حيث نجد عمليات بعينها يقوم بها أقارب ومن دون أن يخالطهم غريب، الأمر الذي يعقد من مسألة المتابعة الأمنية، أو إفشال مثل تلك المخططات قبل حدوثها.
من بين تلك الإشكاليات العريضة المتصلة بالإرهاب في العام الجديد يبقى الحديث عن مهارات الاتصالات بين الإرهابيين الذين باتوا خبراء ولا نغالي إن قلنا إنهم أضحوا «إرهابيين معولمين»، بمعنى حضورهم العالي في مجال التكنولوجيا الذكية، والالتفاف من حول الرقابة الأمنية، ما بعد التقليدية، وذلك من خلال زيادة استخدام التطبيقات المشفرة، فقد بات من المحتمل أن تحاول جماعات إرهابية محاكاة وتطوير التقنيات والأساليب التي تستخدمها المنظمات الإجرامية العابرة للحدود.
وفي الإطار نفسه يبقى الإرهاب السيبراني مجالاً جديداً للجماعات الإرهابية للتعاطي من خلاله، سيما وأنه أصبح عالماً ورائياً غير مرئي من السلطات التي تراقب الإرهاب والمتشددين، ومن هنا فإن المخاوف من أن يسابق الإرهابيون ولو بخطو واحدة الأجهزة المعنية، وفي هذها الحال ربما تكون الضحايا بالآلاف أو الملايين، إذا استطاع الإرهابيون اختراق شبكات الدفاع والصواريخ لدولة كبرى، أو طالت أياديهم مفاتيح الشفرات التي تنظم حركة الطائرات في المجال الجوي أو الوصول إلى محطات الكهرباء والبنى التحتية لدولة ما.
أضف إلى ما تقدم فإن هناك رعباً جديداً ينتظر أن يستطير شره في الأعوام المقبلة، منه على سبيل المثال لا الحصر إشكالية الطائرات من دون طيار، فحتى لو كانت في شكل بدائي، فإن خطر تحميلها بمتفجرات يبقى كارثياً ويهدد الآمنين بشراً وحجراً.
يأمل المرء أن يكون 2019 أفضل حظاً من سابقه، لكن حقيقة الأمر تبين أن المخاوف القائمة والقادمة تستدعي وتتطلب استراتيجية دولية حقيقية غير مرائية، إن أراد الجميع الخلاص من الشر الآتي من بعيد.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.