«الذئاب المنفردة» والشبكات الإرهابية في المغرب

صراع ما بين التطرف وقبضة الأمن

مغربي يتابع  آثار العمل الإرهابي الذي ضرب مطعم كاسا دي إسبانيا في الدار البيضاء يوم17 مايو 2003 (غيتي)
مغربي يتابع آثار العمل الإرهابي الذي ضرب مطعم كاسا دي إسبانيا في الدار البيضاء يوم17 مايو 2003 (غيتي)
TT

«الذئاب المنفردة» والشبكات الإرهابية في المغرب

مغربي يتابع  آثار العمل الإرهابي الذي ضرب مطعم كاسا دي إسبانيا في الدار البيضاء يوم17 مايو 2003 (غيتي)
مغربي يتابع آثار العمل الإرهابي الذي ضرب مطعم كاسا دي إسبانيا في الدار البيضاء يوم17 مايو 2003 (غيتي)

أظهرت العملية الإرهابية التي وقعت بمنطقة إمليل قرب مدينة مراكش السياحية، في 17 ديسمبر (كانون الأول) 2018؛ والتي أسفرت عن مقتل سائحة دنماركية وأخرى نرويجية، أن المغرب لا يزال يعاني بشكل مباشر من الخطر الإرهابي. ومن المثير أن تنظيم داعش لم يعلن إلى اليوم، مسؤوليته عن العملية؛ رغم أن المنفذين أعلنوا مبايعتهم للتنظيم المتطرف.
كما بينت التحريات التي ما زالت مستمرة، وأدت لاعتقال 17 شخصاً، أن الأمر لا يتعلق بمجرد «ذئاب منفردة»، أو خلية من الخلايا المحلية؛ والتي اعتادت المصالح الأمنية التعامل معها منذ سنة 2003. فرغم أن العملية الإرهابية البشعة، نفذت بوسائل بسيطة (السكاكين)، فإن تعميق البحث الأمني، أدى إلى الكشف عن شبكة إرهابية. كما تبين من خلال تصريحات مغربية رسمية، أن الأفراد الموقوفين يسود بينهم نوع من التعاون، والتواصل المستمر؛ والمؤطر ضمن رؤية تهدف إلى تنفيذ مجموعة من الأعمال الإرهابية بالمغرب، والحصول على السلاح. وكذا تجنيد شباب مغاربة للالتحاق بمجموعات متطرفة، في منطقة الساحل والصحراء.

صعوبات المواجهة
من الواضح، أن الشبكة الإرهابية الجديدة استطاعت، أن تشكل تحدياً للنجاحات الكبيرة التي حققتها الأجهزة الأمنية المغربية بعد تفجير مقهي أركانة بمراكش في أبريل (نيسان) 2011. والذي تم بواسطة «ذئاب منفردة»، وأدى إلى سقوط 17 قتيلاً و20 جريحاً. ويبدو أن هذا القفز فوق الحواجز الأمنية، الذي حققته هذه الشبكة، يعبر عن الصعوبات الحقيقية التي تواجهها الدول، أمام القدرة الكبيرة، والانسياب، الذي تحققه، الجماعات الإرهابية، على مستوى، نشر، وتجنيد، ونقل الخبرة القتالية، عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ باستعمال «فيسبوك» و«ماسنجر» و«إنستغرام».
فقد ساعدت عدة عوامل موضوعية، الشبكة الإرهابية على إحداث هذا الاختراق الأمني. ويبدو أن أولها، راجع، لطبيعة المنطقة القروية، والبعيدة عن المدينة، حيث ألفت الخلايا النائمة العمل، وارتكاب أعمالها الإرهابية، داخل المدن الكبرى المغربية وخاصة الدار البيضاء، ومراكش؛ لما يشكله المكان، من دلالة رمزية، ودعاية وتأثير بالنسبة لآيديولوجية الجماعات المتطرفة.
أما العامل الثاني، فيعود لأشخاص الخلية المنفذة للعملية؛ حيث إن ثلاثة من أعضاء «الخلية»، المرتكبة للعملية، مستواهم التعليمي متدنٍ جداً، ولا يؤهلهم لاستعمال وسائل التواصل الاجتماعي. فمثلاً عبد الرحمان خيالي، والذي سجل ببيته فيديو لمبايعة «داعش» لم يتمم دراسته، حيث غادر الدراسة في السنة الأولى إعدادي، ثم توجه نحو تعلم حرفة السمكرة «بلومبي»، والتي ضمنت له قوت اليوم لسنوات داخل فندق مصنف بمدينة مراكش، قبل أن يغادر عمله منذ أربع سنوات، ويشتغل لحسابه الخاص. وتقول زوجته عائشة: «تزوجت به عام 2010. رغم أني من عائلة محافظة، وأرتدي النقاب قبل زواجنا. قبلت الارتباط بعبد الرحمن الشاب الطبيعي الذي لم يكن يطلق لحيته حينها، بل كان يدخن ويشرب الخمر، ودخلنا في خصام أكثر من مرة بسبب هذا الأمر».
ويقول أحد جيران المتهم، الثاني بمقتل السائحتين، رشيد أفاطي: «لاحظنا التحول في سلوك رشيد قبل سنة تقريباً وازداد حدة قبل أربعة أشهر، حيث صار يميل إلى العزلة والوحدة ولم يعد يلقي علينا السلام أو يرد السلام، وينظر إلينا بنظرات حادة خلال مروره بقربنا». وفي السياق نفسه، أشار بعض أصدقاء عبد الصمد الجود المتهم بالمشاركة في تنفيذ عملية القتل، أنه لم يعد يصلي في المسجد مع أصدقائه، كما هو معتاد، وأن هذا التحول وقع في الأشهر الأخيرة فقط». ويبدو فعلاً أن أعضاء الخلية الإرهابية، لم يكونوا متدينين متطرفين؛ بل انتقلوا بسرعة لعالم التطرف، رغم أن بعضهم معروف بانحراف وإدمان الخمر. وربما هذا ما دفع بسفيرة المغرب لدى النرويج لمياء الراضي، للتصريح لقنوات إعلامية نرويجية، يوم 9 يناير (كانون الثاني) الحالي، بأن أعضاء الخلية، انتقلوا إلى التطرف العنيف أسبوعاً فقط قبل ارتكابهم للعملية.
من جهة ثالثة، تكمن صعوبة الكشف عن مثل هذه الخلايا، في كون أعضائها لم يكونوا من ذوي سوابق في الإجرام أو الإرهاب؛ باستثناء فرد واحد، حاول الالتحاق بتنظيم داعش، وتعرض للسجن جراء ذلك سنة 2014. وهذا بدوره يطرح تحدياً مهماً، أمام الأجهزة الأمنية، يتلخص في إمكانية مراقبة العناصر المتطرفة، ومعرفة مدى تراجعها تصورياً وسلوكياً عن المعتقدات والأفعال المتطرفة.
كما، أعاد الوضع الاجتماعي الهش لأعضاء الخلية، التفسير الاقتصادي للواجهة؛ حيث إن الأفراد الذين نفذوا العملية الأخيرة، يسكنون في الأحياء الهامشية، ويتحدرون من الأوساط الفقيرة؛ وبالتالي صعوبة الولوج للخدمات الأساسية، مثل التعليم، والصحة، مما يكرس نفسية الحرمان والإقصاء، ويبقي الفرد في دائرة العوز الاجتماعي في المدن الكبرى؛ كما أن اجتماع ضغط الحياة، وتدني التعليم، والتعرض لتأثيرات الفكر المتطرف يسحب من الحياة المعيشة معناها، ويدفع ببعض الشباب، للبحث عن معنى جديد عبر تنفيذ هجمات إرهابية، بطريقة مميتة ووحشية.
من جانب رابع، يظهر بحسب الرواية الرسمية، أن الشاب السويسري وعمره 25 سنة، والذي دخل للبلاد، سنة 2015 وقرر الاستقرار بها، وتزوج من مغربية، والحاصل على بطاقة الإقامة في مراكش سنة 2017. قد لعب دوراً مركزياً غير مباشر في واقعة أمليل البشعة. أما المكتب المركزي للأبحاث القضائية ويرأسه عبد الحق الخيام، الذي أسس سنة 2015 باعتباره مؤسسة لمواجهة الأنشطة الإرهابية، وتعرف إعلامياً (بالبسيج)؛ فتشير لتوفرها على أدلة، تثبت تورط الشاب السويسري، في تدريب ونقل المعارف، المتطرفة والعنيفة «للخلية» المنفذة. وقد صرح عبد الحق الخيام، لوسائل إعلام محلية ودولية أنه يشتبه في تورط الشاب السويسري المقيم بالمغرب، «في تلقين بعض الموقوفين، آليات التواصل بواسطة التطبيقات الحديثة، إلى جانب تدريبهم على الرماية، وانخرط في عمليات استقطاب مواطنين مغاربة، وأفارقة من دول جنوب الصحراء بغرض تجنيدهم في مخططات إرهابية بالمغرب».
ورغم أن المصالح الأمنية بالمغرب لم تُدلِ بكل تفاصيل الدور الذي لعبه الشاب السويسري؛ فإن كثيراً من المؤشرات تدل على اضطلاعه بدور مركزي في عملية إمليل. فبخلاف المستوى التعليمي لأعضاء «الخلية» المنفذة، فإن الشاب السويسري، هو الأكثر تعلماً ضمن المجموعة الموجهة لها تهم المشاركة في العملية؛ ويبدو أنه لعب دور الرابط والوسيط، عبر التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، مما مكن من تأسيس وإدارة شبكة، كان أول تحركها العملي، هو قتل سائحتين بفصل رأسيهما عن الجسد. غير أن هذا التحرك، كان مسبوقاً، بذلك الإحساس الجماعي، لأعضاء الخلية بأن عملهم، يأتي في سياق، بناء عمل تنظيمي مرتبط، فكرياً وسلوكياً، بأفراد آخرين خارج المغرب. وهذا بدوره خلق في وعي أفراد الخلية، ذلك الانتماء «لدولة الخلافة»؛ وبالتالي التحرك وممارسة الأعمال الوحشية التي تقوم بها «داعش»؛ حتى ولو كان أعضاء الخلية لا يتمتعون بأي صلة تنظيمية، مع تنظيم أبي بكر البغدادي.
ويبدو أن الدور الذي لعبه الشاب السويسري، في عملية إمليل؛ يذكر بالدور المحوري «للحاج روبير» والذي ولد بضواحي سانت - ايتيان بفرنسا، واستطاع دخول المغرب وإقامة معسكر للتدريب على القتال بضواحي مدينة فاس أواخر 2002. مما أدى ببعض أفراد هذه المجموعة إلى تنفيذ عملية كبيرة يوم 16 مايو (أيار) 2003 بالدار البيضاء. صحيح أن هناك فرقا بين الشخصيتين الأوروبيتين «بيير روبير» والشاب السويسري؛ لكنهما يشتركان في تأسيس وتدريب «شبكة» إرهابية على أراضٍ مغربية. وكلاهما نجحا في عدم إثارة انتباه الأجهزة الأمنية إلا بعد وقوع عملية إرهابية.

تجاوز الصعوبات
ورغم أن عملية إمليل تمثل اختراقاً للجهود المبذولة من المغرب لمكافحة الإرهاب؛ فإن التجربة المغربية تظل رائدة دولياً، فيما يخص المواجهة الاستباقية للشبكات والخلايا الإرهابية، على المستوى الوطني حيث فككت عشرات الخلايا؛ وخارجياً في أوروبا، حيث كانت الأجهزة الأمنية المغربية طرفاً مركزياً في إحباط عمليات داخل الدول الأوروبية، كما ساهمت بشكل أساسي في إلقاء القبض على عناصر نفذت عمليات إرهابية، في بلجيكا وفرنسا.
وفي هذا السياق الخاص بالمواجهة الاستباقية للإرهاب، والحد من عنصر المفاجأة؛ اقترح الدكتور يونس الوكيلي أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس، «أن يتم العمل بشكل تشاركي بين السلطات الأمنية وفاعلين مدنيين وأسر المتطرفين على بناء سُلم لدرجات التطرف، يحدد علامات التطرف من الخطيرة إلى الأقل خطورة (يمكن الاستفادة من تجربة فرنسا في هذا الباب، وأيضاً تجربة بلدية آرهوس بالدنمارك)».
بالإضافة لذلك، أصبح لزاماً على الدولة المغربية توسيع جهودها المواكبة لتحسين الشروط الاجتماعية والاقتصادية للشبان المحكومين في قضايا الإرهاب، الذين استفادوا من برنامج المصالحة؛ والذي قادته كل من الرابطة المحمدية للعلماء والمندوبية العامة لإدارة السجون والمجلس الوطني لحقوق الإنسان سنة 2017. كما تحتاج المؤسسات الأمنية، والدينية الرسمية لشراكة حقيقية مع المثقفين والتنظيمات الدينية المدنية المعتدلة، لخلق مزيد من الفاعلين المشتغلين على محاصرة الإرهاب. بكلمة، يمكن القول، إن المغرب منذ 2011 إلى الأسابيع الأخيرة من سنة 2018م، لم يعرف وقوع أي عملية إرهابية، مما يعد إنجازاً كبيراً في معركة مواجهة الإرهاب. وقد نهج المغرب سياسة مندمجة، وجب تطويرها، رغم أنها، مكنته من تحقيق هذا الإنجاز، في محيط إقليمي، على تماسٍ مباشر بمنطقة الساحل والصحراء وما تشهده ليبيا، من انتشار كبير للسلاح، ونمو متزايد للجماعات الإرهابية. وربما هذا ما جعل الكثير من المؤسسات الدولية المتخصصة في الاستقرار والأمن الدولي، تنعت المغرب بالدولة المستقرة. ومن ذلك التقرير الصادر عن معهد الاقتصاديات والسلام بلندن، والذي صدر سنة 2018؛ ووضع المغرب في الرتبة 132 عالمياً، من حيث الدول المهددة بالهجمات الإرهابية.
- أستاذ زائر للعلوم السياسية جامعة محمد الخامس



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.