آخر الصحف المستقلة في فنزويلا تودع الورق بعد أكثر من 7 عقود

رئيس تحرير «إل ناسيونال» لـ «الشرق الأوسط»: القرار مؤقت يعتمد على انهيار النظام الذي لن يستمر طويلاً

أحد موظفي الصحيفة في ديسمبر 2018 يناهض قرار إلغاء النسخة الورقية جراء ضغوط الحكومة (غيتي)
أحد موظفي الصحيفة في ديسمبر 2018 يناهض قرار إلغاء النسخة الورقية جراء ضغوط الحكومة (غيتي)
TT

آخر الصحف المستقلة في فنزويلا تودع الورق بعد أكثر من 7 عقود

أحد موظفي الصحيفة في ديسمبر 2018 يناهض قرار إلغاء النسخة الورقية جراء ضغوط الحكومة (غيتي)
أحد موظفي الصحيفة في ديسمبر 2018 يناهض قرار إلغاء النسخة الورقية جراء ضغوط الحكومة (غيتي)

يعبر اسم «إل ناسيونال» في فنزويلا عن إحدى المؤسسات الصحافية المهنية في أميركا اللاتينية. فمنذ أكثر من 75 عاماً، كانت هذه الصحيفة الكبيرة شاهد عيان على تاريخ بلد بأسره. ومنذ بداية عهد هوغو شافيز في البلاد قبل عشرين عاماً، كانت هذه الصحيفة دون غيرها هدفاً مقصوداً لدى حكومة البلاد. وكان سبب استهدافها المعروف هو: استقلالها المهني.
جاء مؤخراً، ومما يؤسف له بشدة، إعلان صحيفة «إل ناسيونال» أن مخزونها من ورق الطباعة قد نفد تماماً، مما يجبرها على وقف إصدار النسخة المطبوعة من الجريدة. ويعد الأمر من دون شك كارثة على وسائل الإعلام في قارة أميركا اللاتينية على وجه العموم، وعلى الشعب الفنزويلي على وجه الخصوص.
وفي مقابلة أجرتها صحيفة «الشرق الأوسط» مع ميغيل إنريكي أوتيرو، رئيس تحرير صحيفة «إل ناسيونال»، الذي يعيش في المنفى بسبب الاضطهاد الذي عاناه من قبل حكومة بلاده، يقول أوتيرو إن الصحيفة سوف تواصل عملها، بنسختها الإلكترونية على شبكة الإنترنت، من أجل الديمقراطية في فنزويلا.

> لماذا تتوقف صحيفة «إل ناسيونال» عن الطباعة الآن؟
- إن نظام نيكولاس مادورو الحاكم هو نظام ديكتاتوري، يهدف إلى بسط السيطرة الكاملة على المعلومات في وسائل الإعلام. فلقد نجح النظام في إسكات الإذاعة والتلفزيون الوطنيين في البلاد، من خلال التشريعات التي وافقوا عليها، وتحولت وسائل الإعلام هذه في الوقت الحاضر إلى تطبيق أسلوب الرقابة الذاتية الكاملة لخدمة النظام الحاكم. ثم انطلقوا خلف الصحافة، عبر تطبيق عدد من التدابير القمعية من خلال المحاكم، والهيئات التابعة، وحتى الاعتداءات البدنية، وكافة أشكال الإجراءات الأخرى، حتى تبينوا السبيل الواصلة إلى تقييد المعروض من ورق الطباعة.
ومن ثم، بدأت الصحف الـ66 العاملة في البلاد في الاختفاء واحدة تلو الأخرى. وبعضها قد توقف عن العمل بالكلية، في حين تخيرت صحف أخرى الانتقال إلى شبكة الإنترنت. وكانت صحيفتنا «إل ناسيونال» هي آخر الصحف التي اختفت كمنفذ إعلامي مطبوع في فنزويلا. ولذلك، وفي الآونة الراهنة، فإن المنفذ الوحيد المتبقي لدينا للأخبار في البلاد هو شبكة الإنترنت.
ومع ذلك، فإن النظام الحاكم يعمل بالفعل على تطبيق الرقابة الصارمة، أو إغلاق البوابات الإلكترونية، وحجب المواقع وصفحات الويب، من خلال مشغلي الهواتف في البلاد. وعندما تنتهي عملية الحصار الشامل، لن يكون هناك في فنزويلا إذاعة أو تلفزيون أو جرائد أو إنترنت، مما يعني إغلاقاً تاماً لكافة منافذ حرية التعبير في بلادنا.
> كيف تمكنت صحيفة «إل ناسيونال» من البقاء لفترة طويلة على قيد الحياة؟
- لقد توقعنا الأمر قبل حدوثه. لقد أنشأ النظام الحاكم هيئة لبيع وشراء ورق الطباعة. وأدركنا أنهم لن يوافقوا أبداً على بيع ورق الطباعة إلينا. وعندما بدأ ذلك كان لدينا مخزون كبير من الورق، وكنا نستهلك ذلك المخزون يوماً بعد يوم، ثم أعربت بعض الصحف في أميركا اللاتينية عن تضامنها معنا، ومنحتنا ورق الطباعة كي نواصل العمل.
وبعد أن عملنا على ترشيد الاستهلاك بطريقة تجعل الصحيفة التي كانت توزع 120 ألف نسخة يومياً و250 ألف نسخة أيام الآحاد من كل أسبوع، وتتراوح بين 60 إلى 120 صفحة، انتهى بنا الحال إلى طباعة الصحيفة في 10 آلاف نسخة من 15 صفحة للنسخة الواحدة، ولم نعد ننشر الطبعة الخاصة بأيام الاثنين أو السبت من كل أسبوع.
بطبيعة الحال، كان بإمكاننا الاستمرار على هذا النحو، ونتحول إلى صحيفة تبيع 1000 نسخة من صفحة واحدة فقط، ولكننا قررنا ألا نفعل ذلك أبداً. لذا، اتخذنا القرار بوقف الطباعة مع نفاد آخر كمية من مخزون الورق لدينا، وتحولنا إلى منصة الإنترنت فحسب. وأخبرنا قراءنا أننا لن ننهزم أبداً، وأن التوقف الراهن هو توقف مؤقت يعتمد على انهيار النظام الحاكم في البلاد، وأعتقد أن ذلك النظام لن يستمر على قيد الحياة طويلاً.
> لماذا في رأيك تعمد النظام الفنزويلي الحاكم اضطهاد صحيفة «إل ناسيونال»؟
- إن النظام الحاكم في بلادنا يضطهد كافة وسائل الإعلام. مع مزيد من الضغط موجه ضد صحيفة «إل ناسيونال»؛ نظراً لأنها تمثل الصحافة الحرة، والمستقلة، والجريئة، والرمزية، وبطبيعة الحال فإننا تلقينا بسبب ذلك أقسى الضربات الموجعة وأقواها.
> كيف تمكنتم من اتخاذ هذا القرار؟ أعتقد أنه كان أمراً عسيراً للغاية؟
- إننا نتصور الأمر بمرور الوقت، وندرك أننا سوف نبلغ هذا الحد لا محالة. وظللنا نقلل من الكم والكيف حتى جاءت اللحظة المنتظرة. كنا نعي بصورة أو بأخرى أن الأمر قيد الحدوث ولقد حدث بالفعل. ولقد كان قراراً اتخذناه بسبب انعدام سبل العمل الأخرى في البلاد.
> كيف تصف حرية الصحافة في فنزويلا؟ وهل صحيح عدم وجود وسائل إعلام معارضة للنظام تماماً هناك؟
- كلا، لا يوجد، لا بالشكل المطبوع، ولا المسموع، ولا المرئي. ولكن هناك البوابات الإلكترونية، غير أن الحكومة تملك استراتيجية واضحة المعالم، تمنع وجود هذه البوابات في المدن. ولن تجد في العاصمة كاراكاس بوابة إلكترونية واحدة قط، فلقد حجبوا الوصول إلى شبكة الإنترنت، ويعمل النظام على قمع «صحافة المواطن الذاتية» بمنتهى الصرامة. وهناك مستخدمون على موقع «تويتر» تعرضوا للسجن لعام كامل من أجل تغريدة واحدة فقط. وهم يقمعون بشدة المواطنين الذين يلتقطون الصور في الشوارع باستخدام الهواتف المحمولة؛ لأنهم يعلمون أنهم سوف ينشرونها على وسائل الإعلام الاجتماعية بعد ذلك.
> كيف تصف واقع البلاد حالياً بصفة عامة؟
- إنه وضع حرج للغاية. الحكومة في حالة ارتباك شديدة، بسبب الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية العارمة بصورة يومية، والناس يتظاهرون من أجل توفير الخدمات العامة، ومن أجل الغذاء. إننا نتحدث عن 20 إلى 30 حالة تظاهر واحتجاج يومي، تلك التي ينتهي الأمر بقمعها بكل قسوة وصرامة على أيدي قوات الحرس الوطني في البلاد.
هناك واقع من الغليان الشديد داخل القوات المسلحة. وتمكن النظام الحاكم من سحق خمس محاولات للتمرد العسكري خلال العام الماضي وحده، ولدينا أكثر من 250 سجيناً عسكرياً الآن.
هناك انقسامات كبيرة في الزمرة الشافيزية الحاكمة، كما أن هناك شخصيات بارزة قد غادرت البلاد بالفعل. والبلدان المجاورة لفنزويلا، مثل كولومبيا، والبرازيل، والولايات المتحدة، والبيرو، وتشيلي، والأرجنتين، ليست لديها الرغبة في التدخل العسكري، ولكنها على استعداد للمساعدة بأي وسيلة أخرى للتخلص من النظام الحاكم لدينا، وهناك حالة من التضخم الاقتصادي الرهيب، وهي الظاهرة التي طالما أسفرت عن سحق وسقوط الحكومات.
> كيف كان شكل الدعم من المجتمع الدولي لبلادكم؟
- هناك 50 شخصية مهمة من النظام الحاكم فُرضت بحقهم العقوبات الدولية. ثم تأتي البيانات الدولية والفعاليات الدبلوماسية النشطة للغاية، من البلدان التي ذكرتها والمناوئة للنظام في فنزويلا، ثم هناك أنشطة منظمة الدول الأميركية، التي تغير فيها وجه التصويت بصورة جذرية فيما يتعلق بفنزويلا، ذلك إلى جانب العقوبات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي.
وفنزويلا معروفة على الصعيد العالمي بأنها بلد من بلدان المخدرات. وإن تحدثتم مع مكتب المخدرات التابع للأمم المتحدة في فيينا، فسوف يقولون لكم إن جزءاً كبيراً من مخدر الكوكايين الذي يدخل إلى أوروبا قادم بالأساس من فنزويلا، وتشرف عليه حكومة البلاد.
هذا ولقد غادر 4 ملايين مواطن البلاد بالفعل! ورحيل هذا العدد الهائل يؤثر من دون شك على بلدان أخرى. ووصول مليوني لاجئ من فنزويلا إلى كولومبيا وحدها ليس إلا كارثة محققة. كما هو الحال تماماً في كل من البيرو والإكوادور، إذ يتحول الشتات الفنزويلي إلى كابوس شديد الإزعاج لبقية الدول من حولنا.
إنه نظام ديكتاتوري غاشم، يلهو بألعاب جيوسياسية خطيرة تسبب الإزعاج لكثير من الجهات المعنية. إن بعض القاذفات الروسية تساعد تنظيم «حزب الله» اللبناني ومتحالفين مع إيران. إنهم يتحالفون مع أكثر أنظمة العالم خبثاً وشراً.
> كيف هي أكثر اللحظات انفعالاً في صحيفة «إل ناسيونال»؟
- يكون ذلك عندما نعمل على تحقيق صحافي حصري وبالغ الأهمية للغاية، أو عندما نكتب موضوعاً له نصيبه المعتبر من العمق والتأثير، لدرجة أنه يترك بصمته الأكيدة على المجتمع.
> ما مفهوم صحيفة «إل ناسيونال» في نسختها الإلكترونية الجديدة؟
- لدينا ثالث أكبر موقع إلكتروني من حيث حركة الزيارة والتصفح للمواقع الإخبارية الناطقة بالإسبانية في العالم، ولسوف نعمل على تكريس أنفسنا وتخصيص مواردنا لتعزيز هذا الزخم القائم، وعلى تطويره وتحديثه، ذلك لأن الجانب المطبوع من عملنا لا يمكن القضاء عليه تماماً. لا تزال المطابع تعمل، وبالقليل من التعب والمجهود، ونجد أنفسنا وكأننا لم نخسر شيئاً البتة.


مقالات ذات صلة

إصابة مصورَين صحافيَين بنيران إسرائيلية في جنوب لبنان

المشرق العربي جنود إسرائيليون يقودون مركباتهم في منطقة قريبة من الحدود الإسرائيلية اللبنانية كما شوهد من شمال إسرائيل الأربعاء 27 نوفمبر 2024 (أ.ب)

إصابة مصورَين صحافيَين بنيران إسرائيلية في جنوب لبنان

أصيب مصوران صحافيان بجروح بعد إطلاق جنود إسرائيليين النار عليهما في جنوب لبنان اليوم الأربعاء.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي نازحون في أثناء عودتهم إلى قراهم بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» الذي دخل حيز التنفيذ يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024... الصورة في أبلح شرقي لبنان (أ.ب)

«انتصار للبيت الأبيض»... صحف تحلل اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان

رأى موقع «بوليتيكو» أن اتفاق وقف إطلاق النار «انتصار كبير للبيت الأبيض»، وقالت «نيويورك تايمز» إن بايدن يريد تذكّره بأنه وضع الشرق الأوسط على طريق تسوية دائمة.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
آسيا خلال احتجاج نظمته حركة «طالبان» في أفغانستان (رويترز - أرشيفية)

إحصاء 336 اعتداءً ضد الصحافيين في 3 سنوات من حكم «طالبان» في أفغانستان

أفادت الأمم المتحدة، الثلاثاء، بأنها سجّلت 336 اعتداءً على صحافيين وعاملين في وسائل إعلام منذ عودة «طالبان» لحكم أفغانستان في أغسطس 2021.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
شمال افريقيا مبنى التلفزيون المصري في ماسبيرو (الهيئة الوطنية للإعلام)

تشكيلة جديدة للهيئات الإعلامية بمصر وسط ترقب لتغييرات

استقبلت الأوساط الإعلامية والصحافية المصرية، التشكيلة الجديدة للهيئات المنظمة لعملهم، آملين في أن تحمل معها تغييرات إيجابية.

فتحية الدخاخني (القاهرة)
المشرق العربي المسؤول الإعلامي في «حزب الله» محمد عفيف خلال مؤتمر صحافي بالضاحية الجنوبية لبيروت (أ.ف.ب) play-circle 00:40

محمد عفيف... صوت «حزب الله» وحائك سياسته الإعلامية

باغتيال مسؤول العلاقات الإعلامية في «حزب الله» محمد عفيف تكون إسرائيل انتقلت من اغتيال القادة العسكريين في الحزب إلى المسؤولين والقياديين السياسيين والإعلاميين.

بولا أسطيح (بيروت)

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)
TT

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

نوع من «التجنيد الإجباري» فرضته هذه الحالة على المحطات التلفزيونية وموظفيها ومراسليها، فغالبيتهم يمضون نحو 20 ساعة من يومهم في ممارسة مهامهم. وبعضهم يَصِلون ليلهم بنهارهم في نقل مباشر وموضوعي، وآخرون يضعون دمهم على كفّ يدهم وهم يتنقلون بين مناطق وطرقات تتعرّض للقصف. أما رؤساء التحرير ومقدِّمو البرامج الحوارية اليومية، فهم عندما يحوزون على ساعات راحة قليلة، أو يوم إجازة، فإنهم يشعرون كما السمك خارج المياه. ومن باب مواقعهم ومسؤولياتهم الإعلامية، تراهم يفضلون البقاء في قلب الحرب، وفي مراكز عملهم؛ كي يرووا عطشهم وشهيّتهم للقيام بمهامهم.

المشهدية الإعلامية برمّتها اختلفت هذه عن سابقاتها. فهي محفوفة بالمخاطر ومليئة بالصدمات والمفاجآت من أحداث سياسية وميدانية، وبالتالي، تحقن العاملين تلقائياً بما يشبه بهرمون «الأدرينالين». فكيف تماهت تلك المحطات مع الحدث الأبرز اليوم في الشرق الأوسط؟

الدكتورة سهير هاشم (إنستغرام)

لم نتفاجأ بالحرب

يصف وليد عبود، رئيس تحرير الأخبار في تلفزيون «إم تي في» المحلي، لـ«الشرق الأوسط»، حالة الإعلام اللبناني اليوم بـ«الاستثنائية». ويضيف: «إنها كذلك لأننا في لبنان وليس عندنا محطات إخبارية. وهي، بالتالي، غير مهيأة بالمطلق للانخراط ببث مباشر يستغرق ما بين 18 و20 ساعة في اليوم. بيد أن خبراتنا المتراكمة في المجال الإعلامي أسهمت في تكيّفنا مع الحدث. وما شهدناه في حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) الشعبي، وفي انفجار مرفأ بيروت، يندرج تحت (الاستنفار الإعلامي) ذاته الذي نعيشه اليوم».

هذا «المراس» - كما يسميه عبود - «زوّد الفريق الإخباري بالخبرة، فدخل المواكبة الإعلامية للحرب براحة أكبر، وصار يعرف الأدوات اللازمة لهذا النوع من المراحل». وتابع: «لم نتفاجأ باندلاع الحرب بعد 11 شهراً من المناوشات والقتال في جنوب لبنان، ضمن ما عرف بحرب المساندة. لقد توقعنا توسعها كما غيرنا من محللين سياسيين. ومن كان يتابع إعلام إسرائيل لا بد أن يستشفّ منه هذا الأمر».

جورج صليبي (إنستغرام)

المشهد سوريالي

«يختلف تماماً مشهد الحرب الدائرة في لبنان اليوم عن سابقاته». بهذه الكلمات استهل الإعلامي جورج صليبي، مقدّم البرامج السياسية ونشرات الأخبار في محطة «الجديد» كلامه لـ«الشرق الأوسط». وأردف من ثم: «ما نشهده اليوم يشبه ما يحصل في الأفلام العلمية. كنا عندما نشاهدها في الصالات السينمائية نقول إنها نوع من الخيال، ولا يمكنها أن تتحقق. الحقيقة أن المشهد سوريالي بامتياز حتى إننا لم نستوعب بسرعة ما يحصل على الأرض... انفجارات متتالية وعمليات اغتيال ودمار شامل... أحداث متسارعة تفوق التصور، وجميعها وضعتنا للحظات بحالة صدمة. ومن هناك انطلقنا بمشوار إعلامي مرهق وصعب».

وليد عبود (إنستغرام)

المحطات وضغوط تنظيم المهام

وبالفعل، منذ توسع الحرب الحالية، يتابع اللبنانيون أخبارها أولاً بأول عبر محطات التلفزيون... فيتسمّرون أمام الشاشة الصغيرة، يقلّبون بين القنوات للتزوّد بكل جديد.

وصحيحٌ أن غالبية اللبنانيين يفضّلون محطة على أخرى، لكن هذه القناعة عندهم تتبدّل في ظروف الحرب. وهذا الأمر ولّد تنافساً بين تلك المحطات؛ كي تحقق أكبر نسبة متابعة، فراحت تستضيف محللين سياسيين ورؤساء أحزاب وإعلاميين وغيرهم؛ كي تخرج بأفكار عن آرائهم حول هذه الحرب والنتيجة التي يتوقعونها منها. وفي الوقت نفسه، وضعت المحطات جميع إمكاناتها بمراسلين يتابعون المستجدات على مدار الساعات، فيُطلعون المشاهد على آخر الأخبار؛ من خرق الطيران الحربي المعادي جدار الصوت، إلى الانفجارات وجرائم الاغتيال لحظة بلحظة. وفي المقابل، يُمسك المتفرجون بالـ«ريموت كونترول»، وكأنه سلاحهم الوحيد في هذه المعركة التنافسية، ويتوقفون عند خبر عاجل أو صورة ومقطع فيديو تمرره محطة تلفزيونية قبل غيرها.

كثيرون تساءلوا: كيف استطاعت تلك المحطات تأمين هذا الكمّ من المراسلين على جميع الأراضي اللبنانية بين ليلة وضحاها؟

يقول وليد عبود: «هؤلاء المراسلون لطالما أطلوا عبر الشاشة في الأزمنة العادية. ولكن المشاهد عادة لا يعيرهم الاهتمام الكبير. ولكن في زمن الحرب تبدّلت هذه المعادلة وتكرار إطلالاتهم وضعهم أكثر أمام الضوء».

ولكن، ما المبدأ العام الذي تُلزم به المحطات مراسليها؟ هنا يوضح عبود في سياق حديثه أن «سلامة المراسل والمصور تبقى المبدأ الأساسي في هذه المعادلة. نحن نوصيهم بضرورة تقديم سلامتهم على أي أمر آخر، كما أن جميعهم خضعوا لتدريبات وتوجيهات وتعليمات في هذا الشأن... وينبغي عليهم الالتزام بها».

من ناحيته، يشير صليبي إلى أن المراسلين يبذلون الجهد الأكبر في هذه الحرب. ويوضح: «عملهم مرهق ومتعب ومحفوف بالمخاطر. لذلك نخاف على سلامتهم بشكل كبير».

محمد فرحات (إنستغرام)

«إنها مرحلة التحديات»

وبمناسبة الكلام عن المراسلين، يُعد إدمون ساسين، مراسل قناة «إل بي سي آي»، من الأقدم والأشهر في هذه المحطة. وهو لا يتوانى عن التنقل خلال يوم واحد بين جنوب لبنان وشماله. ويصف مهمّته خلال المرحلة الراهنة بـ«الأكثر خطراً». ويشرح من ثم قائلاً: «لم تعُد هناك خطوط حمراء أو نقاط قتال محددة في هذه الحرب. لذا تحمل مهمتنا التحدّي بشكل عام. وهي محفوفة بخطر كبير، لا سيما أن العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين طريق ومبنى ومركز حزب وغيره، ويمكنه بين لحظة وأخرى أن يختار أهدافه ويفاجئ الجميع... وهذا ما وضع الفرق الصحافية في خطر دائم، ونحن علينا بالتالي تأمين المعلومة من قلب الحدث بدقة».

وفق ساسين، فإن أصعب المعلومات هي تلك المتعلقة بالتوغّل البرّي للجيش الإسرائيلي، «فحينها لا يمكن للمراسل معرفة ما يجري بشكل سليم وصحيح على الأرض... ولذا نتّكل أحياناً على مصادر لبنانية من جهة (حزب الله)، و(اليونيفيل) (القوات الدولية العاملة بجنوب لبنان) والجيش اللبناني والدفاع المدني، أو أشخاص عاشوا اللحظة. ومع هذا، يبقى نقل الخبر الدقيق مهمة صعبة جداً. ويشمل ما أقوله أخبار الكمائن والأسر، بينما نحن في المقابل نفتقر إلى القدرة على معرفة هذه الأخبار، ولذا نتوخى الحذر بنقلها».

«لبنان يستأهل التضحية»

في هذه الأثناء، يتكلم مراسل تلفزيون «الجديد» محمد فرحات «بصلابة»، عندما يُسأل عن مهمّته الخطرة اليوم.

محمد كان من بين الفريق الإعلامي الذي تعرّض لقصف مباشر في مركز إقامته في بلدة حاصبيا، وخسر يومذاك زملاء له ولامس الموت عن قرب لولا العناية الإلهية، كما يقول. ويتابع: «لقد أُصبت بحالة إنكار للمخاطر التي أتعرّض لها. في تلك اللحظة عشت كابوساً لم أستوعبه في البداية. وعندما فتحت عيني سألت نفسي لبرهة: أين أنا؟»، ويضيف فرحات: «تجربتي الإعلامية ككل في هذه الحرب كانت مفيدة جداً لي على الصعيدين: الشخصي والمهني. من الصعب أن أُشفى من جروح هذه الحرب، ولكني لم أستسلم أو أفكر يوماً بمغادرة الساحة. فلبنان يستأهل منا التضحية».

العلاج النفسي الجماعي ضرورة

أخيراً، في هذه الحرب لا إجازات ولا أيام عطل وراحة. كل الإعلاميين في مراكز عملهم بحالة استنفار. ولكن ماذا بعد انتهاء الحرب؟ وهل سيحملون منها جراحاً لا تُشفى؟

تردّ الاختصاصية النفسية الدكتورة سهير هاشم بالقول: «الإعلاميون يتعرضون لضغوط جمّة، وفي الطليعة منهم المراسلون. هؤلاء قد لا يستطيعون اليوم كشف تأثيرها السلبي على صحتهم النفسية، ولكن عند انتهاء الحرب قد يكون الأمر فادحاً. وهو ما يستوجب الدعم والمساندة بصورة مستمرة من مالكي المحطات التي يعملون بها». وأضافت الدكتورة هاشم: «ثمة ضرورة لإخضاعهم لجلسات علاج نفسية، والأفضل أن تكون جماعية؛ لأن العلاج الموسمي غير كافٍ في حالات مماثلة، خلالها يستطيعون أن يساندوا ويتفهموا بعضهم البعض بشكل أفضل».