محمد بن راشد: القذافي رفض التغيير... والأسد بدأ إصلاحياً ثم شاهد بلاده تغرق

«الشرق الأوسط» تنشر مقتطفات من كتاب يروي فيه قصته في 50 عاماً وأنه حلم أن تكون دبي كبيروت

محمد بن راشد: القذافي رفض التغيير... والأسد بدأ إصلاحياً ثم شاهد بلاده تغرق
TT

محمد بن راشد: القذافي رفض التغيير... والأسد بدأ إصلاحياً ثم شاهد بلاده تغرق

محمد بن راشد: القذافي رفض التغيير... والأسد بدأ إصلاحياً ثم شاهد بلاده تغرق

يصدر للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، كتابٌ جديد غداً الإثنين بعنوان «قصتي... 50 قصة في خمسين عاماً»، يروي فيه رحلة 50 عاماً من حياته وعمله ومسؤولياته، مستعيداً ذكريات وتجارب ومواقف.
يتناول الشيخ محمد في الكتاب الذي تنشر «الشرق الأوسط» مقتطفات من فصوله حصرياً اليوم، اتصالات غير معلنة أجراها مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، كاشفاً عن أنه عرض عليه، قبيل بدء الغزو الأميركي عام 2003، الانتقال إلى «دبي مدينتك الثانية» إذا وافق على ترك الحكم، لكن صدام رفض العرض قائلاً إنه يريد «إنقاذ العراق وليس نفسي». كذلك يتحدث عن تداعيات الغزو العراقي للكويت عام 1990، قائلاً إنه شكّل «نقطة تحول غيّرت المنطقة بأسرها».
كما يشرح قصة طلب العقيد الليبي الراحل معمر القذافي منه معاونته في تحويل طرابلس إلى «دبي ثانية»، لكنه قال إن «القذافي لم يكن يريد التغيير، كان يتمنى التغيير».
ويعرض الشيخ محمد بن راشد في الكتاب أيضاً علاقته بالرئيس السوري بشار الأسد، قبل توليه السلطة وبعدها، معتبراً أن بشار عاش بعد بدء الأزمة في بلاده «في عالم آخر... وهو يشاهد بلده يغرق في مسلسل الدماء والدمار».
ويتحدث الشيخ محمد بشغف عن بيروت، قائلاً: «أذهلتني صغيراً، وعشقتُها يافعاً، وحزنتُ عليها كبيراً»، واصفاً لبنان بأنه «ساحة لتصفية كثير من الحسابات». وفيما يأتي مقتطفات من فصول الكتاب الذي يصدر غداً في الإمارات:

بيروت

«ذكرياتي الأولى مع بيروت كانت من بدايات حياتي وأنا صغير؛ وأنا القادم من صحراء دبي، من بيوتها الطينية، من شوارعها الترابية، من أسواقها المبنيّة من سعف النخيل. سافرتُ مع إخوتي إلى بيروت. كان لا بدَّ من المرور بها للوصول إلى لندن. أذهلتني صغيراً، وعشقتُها يافعاً، وحزنتُ عليها كبيراً.
كانت شوارعها النظيفة، وحاراتها الجميلة، وأسواقها الحديثة في بداية الستينات مصدر إلهام لي. وحلم تردّد في ذهني أن تكون دبي كبيروت يوماً ما...
لكن للأسف، لبنان تم تفتيته وتقسيمه على مقاسات طائفية ومذهبية، فلم تعُد بيروت هي بيروت، وأصبح لبنان غير لبنان...
لي زيارات كثيرة لبيروت، ومحبة وعلاقات جميلة. لكن كوزير للدفاع في دولة الإمارات لي معها محطتان كبيرتان في حياتي.
الأولى بعد 13 أبريل (نيسان) 1975، عندما انطلقت أول رصاصة لتعلن بدء الحرب الأهلية التي استمرت أكثر من 15 عاماً، وحصدت نحو 150 ألف قتيل، وأكثر من 300 ألف جريح، وتكبّدت خسائر اقتصادية فاقت أكثر من 25 مليار دولار.
لم يمرّ سوى أشهر على بدء الحرب حتى كان إطلاق النار قد انتشر على نطاق واسع في أرجاء بيروت، وبدأت الأهداف المدنية تتعرض للقصف بشكل متكرر. وهكذا انقسمت المدينة إلى معاقل طائفية ومذهبية. وهذه كانت بداية النهاية.
لم تنجح كل الجهود الحثيثة التي بذلها الشيخ زايد لجمع الأطراف على طاولة واحدة. كنت أساعده مع والدي في المفاوضات، لكننا بدأنا نشعر باليأس بسبب فشلها المستمر، ثم بدأ تدخلٌ عربي شامل للحيلولة دون تعرض هذا البلد الجميل إلى الدمار.
في يونيو (حزيران) 1976، شهدت الحرب الأهلية اللبنانية منعطفاً جوهرياً من خلال التدخل السوري. وقد تسببت معاقل الحركة الوطنية اللبنانية بخسائر جمة في صفوف القوات السورية.
راقبتُ بهدوءٍ مؤتمر القمة العربية الذي عُقد في الرياض، ثم المؤتمر الذي تلاه في القاهرة في أكتوبر (تشرين الأول) 1976، لوقف إطلاق النار وإنهاء الاقتتال في الأراضي اللبنانية كافة. وعلى الرغم من القرارات والتعهدات الصادرة عن القمتين، عرفتُ أن ما طُرح عبارة عن حلول مؤقتة، وأن الأسباب الجذرية للمشكلة ما زالت مستعرة تحت السطح.
كنتيجة لمؤتمري الرياض والقاهرة، تم تشكيل «قوات الردع العربية»، التي شاركت دولة الإمارات فيها، للعمل على وقف النار وحقن الدماء وتحقيق السلام في البلاد.
لقد كانت تلك أياماً ثقيلة الوطء عليّ، فقد فعلتُ كل شيء لإعداد رجالي (...) وأشحذ هممهم وطاقاتهم وقواهم. أقول لهم: سنذهب من أجل السلام وليس من أجل الحرب، من أجل إنقاذ شعب صديق وشقيق وليس من أجل خدمة مصالح طوائف أو جماعات.
ومع نهاية عام 1976 أطلقنا 30 ألف رجل بقوة مشتركة، وبهذه الطريقة استطعت أن أرى الصورة من زواياها المختلفة دائماً.
لا أستطيع التعبير عن مدى فظاعة الحرب، ومن خبرتي الشخصية في القتال أعرف أنها ليست الحلّ لأي شيء...
محطتي الثانية مع المحبوبة بيروت، كانت أفظع للأسف... في عام 1982 اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان الذي أصبحت أراضيه ساحة قتال ما بين منظمة التحرير الفلسطينية وسوريا وإسرائيل. وعلى الرغم من أن الاجتياح الإسرائيلي الذي بدأ في يونيو بقيادة وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون كان متوقعاً، فإن فظاعته لم تكن متوقعة أبداً، بخاصة أنه استمرّ طويلاً.
بعد أكثر من شهرين من المقاومة المتفرقة والقتال، تم التوصل إلى قرار وقف إطلاق النار. وانسحبت منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت متّجهة إلى تونس، تحت إشراف قوة متعددة الجنسيات، وحصلت القيادة الفلسطينية على ضمانات بشأن أمن المدنيين في المخيمات. تواصل إخلاء عناصر منظمة التحرير الفلسطينية عبر الميناء على مدى أسبوعين، وكان الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات آخر المغادرين، حيث رافقته قوات فرنسية إلى الميناء. وفي 9 سبتمبر (أيلول) 1982، غادرت القوة المتعددة الجنسيات بيروت. وأعلن شارون في اليوم التالي أن هناك «2000 إرهابي» ما زالوا موجودين داخل مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت. في 15 سبتمبر، بعد يوم من مغادرة المقاتلين الفلسطينيين، احتلّ الجيش الإسرائيلي بيروت الغربية محكماً الخناق على مخيمَي صبرا وشاتيلا اللذين يقطنهما مدنيون لبنانيون وفلسطينيون.
كانت مذبحة صبرا وشاتيلا مأساة فظيعة استمرت أربعين ساعة بين يومَي 16 و18 سبتمبر 1982؛ إذ قامت ميليشيات الكتائب بغطاء من الجيش الإسرائيلي بعمليات قتل واغتصاب وتعذيب راح ضحيتها عددٌ كبير من المدنيين العزّل غالبيتهم من الأطفال والنساء وكبار السن.
لم أتقبّل في حياتي فكرة القتل وإزهاق الأرواح، ولم أفهم أبدا لماذا يحدث هذا في عالمنا. بقيتُ على تواصل مع جميع الفرقاء في المنطقة، وكنت أعرف أن مجزرة ستحدث، وعندما ظهرت مشاهد الضحايا، بخاصة من الأطفال والنساء، في نشرات الأخبار، اكتشفتُ أن جهودنا لم تؤدِّ إلى نتيجة.
توليتُ قيادة المبادرة الإماراتية بنفسي لتنفيذ أوامر القائد الأعلى الشيخ زايد؛ إذ تم تزويد طائرات «سي 130» بأطنان من المساعدات الإنسانية، وذلك ضمن واحدة من أكبر العمليات التي نُظمت في الخليج.
وما زالت تلك المشاهد ماثلة في ذاكرتي، مخلّفة جرحاً كبيراً في نفسي...
للأسف ما زال لبنان إلى يومنا هذا ورقة يحاول كثيرون اللعب بها، وما زال شباب لبنان يدفعون ضريبة الصراعات التي تدور في المنطقة، وما زالت الساحة اللبنانية ساحة لتصفية كثير من الحسابات والصراعات التي لا تنتهي».

غزو الشقيق

«... شكل غزو الكويت في 2 أغسطس (آب) من عام 1990 صدمة. أذكر أنني تأكدتُ ثلاث مرات من الضابط الذي نقل لي الخبر. نقلتُ النبأ لأخي الأكبر الشيخ مكتوم، ثم أمرتُ بإعلان حالة الطوارئ لجميع القوات الأمنية والعسكرية. تحدثت مع الشيخ زايد، فوجدته غاضباً وحزيناً في الوقت نفسه. كيف يمكن لصدام أن يفعل ذلك؟ وما هي خطوته التالية؟
لم نكن نتوقع أبدا أن يتجرأ صدام على غزو دولة شقيقة جارة ذات سيادة وقفت تاريخياً إلى جانبه. كان قرار صدّام باجتياح الكويت صدمة للجميع، كما كان نقطة تحول غيرت المنطقة بأسرها (...)
استقبلنا في بلادنا عشرات الآلاف من أبناء الكويت الشقيقة. فتحنا لهم الفنادق والبنايات السكنية، وكثير من مواطنينا فتحوا لهم البيوت.
أصبحت مرافئنا مرسى لسفن الحلفاء مع بدء عمليات «عاصفة الصحراء»، وهي العملية العسكرية التي شنتها قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في 16 يناير (كانون الثاني) 1991 لتحرير الكويت من القوات العراقية. أنشأنا المطارات العسكرية وجهزنا المرافئ والمستودعات للجيوش. واستقبل ميناء جبل علي من سفن التحالف أكثر من أي ميناء آخر في المنطقة لأنه الأكبر والأكثر تجهيزاً.
أما قواتنا العسكرية فقد ساهمت بفاعلية في دعم قوى التحالف من أجل تحرير الكويت، وسافرت شخصيّاً إلى مركز عمليات «عاصفة الصحراء» عدة مرات. وكان من أولوياتي عند التعامل مع الجنرال نورمان شوارزكوف، قائد قوات التحالف الدولي، الذي كان يقود أكثر من 900 ألف جندي من قوّات التحالف، أن أجد طريقة للحدّ من حجم الخسائر لدى المدنيين. فلم يرغب شعب الكويت أو شعب العراق في الاجتياح، بل كان عملاً أرعن، وكنت حريصاً على ألا يدفع الشعب ثمن هذه الحماقة.
أُجبر صدّام على الانسحاب بعد عملية عسكرية ناجحة، وكانت القوات الإماراتية لها شرف أن تكون من أوائل القوات التي دخلت الكويت من أجل التحرير. للكويت أفضال، ولو طالت الحرب لبذلنا لها من أرواحنا وأبنائنا ما تحتاج إليه حتى التحرير...
انتهى غزو الكويت بانسحاب مهين للقوات العراقية، لكن تلك لم تكن النهاية، بل البداية لحقبة جديدة في المنطقة عنوانها انهيار دولها الكبرى، وتفكك جيوشها العظمى. لقد كان غزو الكويت الغلطة التاريخية الكبرى التي غيرت وجه المنطقة للأبد».
لا أحد يربح في الحرب
«ما زلتُ أذكر عندما رحلت الحرب المنهِكة ما بين العراق وإيران التي خلّفت وراءها أكثرَ من مليون قتيل. وعندما ترحل حربٌ من مكان فهي لا ترحل سريعة كما جاءت، بل يظلّ ثقلها باقياً لسنوات؛ هكذا رأيت العراق.
في تلك الفترة، كان الرئيس العراقي صدام حسين في قمّة مجده وكبريائه. وما زلتُ أذكر ذلك الموقف الذي حدث بيني وبينه؛ حيث صرّح للشيخ زايد بشعوره وتحفظاته تجاهي: إنه يميل للغرب، ولا يعامل العرب معاملة جيدة.
طلب مني الشيخ زايد بعدها مقابلة صدام، على عادته، رحمه الله، في عدم ترك أي أمور عالقة يمكن أن تؤثر على مصالحنا.
التقيت مع صدام في أحد الاجتماعات وابتدأ الحديث فيما بيننا بنوع من المجاملة، ثم جاءت الجملة الأهم من صدام: لدي تقرير يفيد بأنك كنتَ تدعم إيران بطرق مختلفة، ووضع تقريراً أمامي.
أجبته: إنني لا احتاج للتقرير وها أنا ذا معك، إذا كنتَ تقصدُ شحناتٍ من الأسلحة فأتحدّى أي شخص أن يثبتَ ذلك، أما إذا كنتَ تقصدُ تلك الشحنات من المواد الغذائية فنعم؛ ولن تحتاج لتلك التقارير لأن سفننا تذهب إلى هناك وإلى العراق أيضاً، ولا يمكنني أن أوقف شيئاً إنسانياً يتجه نحو الشعوب.
ظهرت علامات المفاجأة على وجهه، لأن كلامي كان جريئاً. كان معتاداً على سماع ما يود سماعه، وربما كان ردّي مفاجئاً له لأنه أعتقد أنني أضعف من تلك الصورة الذهنية التي رسمها عني. بعد تلك المواجهة أصبحنا صديقيْن.
جاء غزو العراق للكويت، وانهارت جسور التواصل. لكن في عالم السياسة لا بدّ أن تبقي على شعرة معاوية دائماً لأوقات الأزمات.
بعد تحرير الكويت في فبراير (شباط) 1991، كان الخليج جريحاً بكفّتيه؛ المنتصر والمهزوم. الكل كان يدفن أوجاعه ويرمم ما تهدّم منه.
تعب العراق من الحروب، أما الرئيس العراقي صدام حسين المنسحب المهزوم فلم يكن ينام بكلتا عينيه.
في عام 2003، عاد الأميركيون إلى الشرق الأوسط. أرادوا بناء نموذج يتماشى مع رؤيتهم وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، التي غيرت نظرتهم للمنطقة وغيّرت أولوياتهم.
كنتُ أعرف أن غزو العراق كان ضمن أهداف الرئيس الأميركي جورج بوش الابن. حاولنا إقناعه بألا يجتاح العراق، طلبتُ منه أن يستثمر جهوده وأمواله في مساعدة الشعب العراقي ببناء المدارس والمستشفيات وتعبيد الطرق، لكنني عرفتُ أنه عزم على قرار استخدام القوة.
طلبتُ من الأميركيين أن يمنحونا فرصة للتصرُّف، ثم سألتهم: ما الذي تريدونه من صدام؟ أحسست بأن المنطقة مقبلة على حرب وكنت على استعداد لفعل أي شيء من أجل أن تتجنّب الشعوب الحرب مرة أخرى. قالوا إنهم يريدون دخول فرق التفتيش للبحث عن أسلحة الدمار الشامل.
كنتُ أدرك أن عواقب الحرب على المنطقة كلها، وعلى العراق بشكل أخص، ستكون مدمرة، حاولت أن أقنعهم بأن يتولى التفاوض قادة منا؛ إنّنا عرب نتشابه في بعض عاداتنا وخصائصنا، ونفهم كيف يفكر صدام وأمثال صدام.
عزمتُ الذهاب إلى صدام بنفسي. ركبتُ الطائرة من دبي للبحرين ومن هناك ركبتُ البحر باتجاه البصرة. تقابلنا في أحد الأمكنة التي كان يلجأ إليها، ثم بدأنا حديثاً صريحاً وواضحاً. تحدثنا في كل الأشياء التي أتفق معه فيها، وتلك التي أختلف معه فيها وهي أكثر. ذكّرتُه بشبح الحرب وأنا أعرف أنني أعظ رجلاً أفنى شطراً كبيراً من حياته في الحروب. كان من الواضح أنّه لا يمكن أن يربح الحرب ضدّ الأميركيين، وإن لم يفعل شيئا لتجنّب الهجوم القادم، فسوف يخسر العراق كلّ شيء. حاولتُ أن أستخدم المنطق والعقلانية في حديثي معه.
همستُ له: لو اقتضى الأمر رحيلك عن الحكم من أجل العراق ارحل، ودبي مدينتك الثانية أهلاً بك فيها دائماً. نظر إليّ ثم قال: لكنني يا شيخ محمد أتحدّث عن إنقاذ العراق وليس نفسي. كبر في نفسي بعد كلامه ذاك.
امتدّت هذه الجلسة، التي اتسمت بالصراحة والتوتّر، نحو خمس ساعات، غادر أثناءها صدام أربع مرات، كاسراً البروتوكول؛ وفي كل مرة كان يعود، يطلب القهوة العربية، التي ما زلت أذكر طعمها، قبل أن نواصل النقاش. لقد ولّد رعباً لدى كل من حضر معنا الاجتماع، من بينهم عبد حمود، السكرتير الشخصي للرئيس العراقي. وفي كل مرة كان يخرج كنتُ أدعو الله أن نجتاز هذه المحنة. لم يكن صدام يجلس في المكان الواحد فترة طويلة. كان يخاف القصف، وكان يعرف أنه الشخصية المستهدفة التي ينتظرها قنّاصون كثر.
انتهى الاجتماع، ثم صحبني للسيارة حتى فتح لي بابها وودّعني، وهذا أمر لم يكن معتاداً منه حسبما سمعت. سافرتُ إلى عمّان ومن هناك بالطائرة إلى وطني. في القمة العربية التي عُقدت في شرم الشيخ مطلع مارس (آذار) 2003 مباشرة قبل غزو العراق، عرض الشيخ زايد على صدام اللجوء إلى أبوظبي في محاولة أخيرة لتجنُّب الطوفان القادم. كان الوقت متأخراً، وكانت الولايات المتحدة قد اتخذت قراراها ببدء الغزو.
حضرت أميركا تصحبها بريطانيا بتلك الجيوش الجرارة، ثم نزف العراق مرة أخرى.
أخطأ صدّام في حساباته، فقد ظنّ أنّ زرع الخوف والذعر واستخدام السيف الطريقة الأفضل في إدارة الأمور. ولأنّ جميع من حوله كان يخاف منه، لم يجرؤ أحد قط على مصارحته بقدرات جيشه الحقيقية...».

بشار... سوريا


«أتذكر نهاية التسعينات حينما زار بشار الأسد دبي. وقتها كان والده حافظ الأسد في سدّة الحكم، وربما كان في أيامه الأخيرة، ومسألة تولي بشار السلطة كانت مسألة وقت. رغبت بالحصول على وقت أكثر معه بعيداً عن أعين الرقابة والرجال المحيطين به. كان بصحبته ضمن الوفد المرافق له صديقه مناف طلاس، ابن وزير الدفاع السوري يومها مصطفى طلاس.
طلبتُ من أحد المرافقين الذهاب مع وفد بشار في السيارة، بينما اصطحبته بسيارتي، التي كنت أقودها بنفسي (...) توجهنا إلى أحد المجمعات التجارية الكبرى، التي عادة ما تستقبل المتسوقين من أنحاء العالم كافة. نزلنا وبدأنا جولتنا داخل المجمع.
لم يزعجنا أحد، تحدثنا عن مستقبل التكنولوجيا ودورها في التنمية، حيث كان بشار رئيساً للجمعية العلمية السورية للمعلوماتية. كان حماسه شديداً لاستثمار التكنولوجيا في خدمة بلده، وأكد لي أنه سيجري بعض التغييرات في سوريا. لقد أعجبته التجربة، وترسخّت علاقة طيبة لي معه.
بعد بضع سنوات، زار دبي مرة أخرى ولكن هذه المرة بصفته الرئيس بشار الأسد. سألني: كيف تدير حكومة دبي مدينتها؟ كانت لديه رغبة كبيرة في تطوير الإدارة والحكومة في سوريا.
حدثتُه كثيراً عن دبي، وانفتاحها، وتبنيها فكراً حكومياً يقترب من فكر القطاع الخاص، حيث تُدار الحكومة عندنا بعقلية القطاع الخاص، سواء من ناحية الخدمات والتميز فيها، أو لجهة إنفاق الأموال بطريقة فيها كثير من الكفاءة، أو من خلال تطوير الكوادر وبناء القيادات. أخبرتُه أننا نتمنّى بناء نموذج للعالم العربي، ولكننا نتعلَّم ونستفيد أيضاً من التجارب العربية والعالمية الأخرى كافة (...) أبدى إعجابه الشديد بتجربة دبي، مؤكداً لي أنه يعتزم تكرارها في سوريا. حاول الرئيس بشار الأسد في بداية حكمه تحقيق بعض الانفتاح في الاقتصاد السوري، حيث فتح المجال للبنوك الأجنبية، وسمح لمواطنيه بفتح حسابات بعملات أجنبية، كما دعا المستثمرين الأجانب للاستثمار في سوريا. وأذكر أنني أرسلتُ وفداً لاستطلاع فرص الاستثمار العقاري هناك في سوريا، وعادوا لي بأفكار طيبة. عاش بشار بعد ذلك عالماً آخر، وهو يشاهد بلده يغرق في مسلسل الدماء والدمار الذي اجتاح سوريا، وأتى على الأخضر واليابس، وعصف بتاريخ عمره آلاف السنين».

أريد دبي في أفريقيا


«... أستذكر اتصالاً من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي الذي تواصل معي ذات يوم. قال لي إنه يريد بناء دبي جديدة في ليبيا، تكون عاصمة اقتصادية للقارة الأفريقية.
بعد غزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003، بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل التي ادّعت أن صدام حسين يملكها، خرج الرئيس الليبي معمر القذافي أمام العالم في بادرة قال فيها إن ليبيا لديها برنامج نووي وتطالب بإزالة جميع المواد ومعدات البرامج التي قد تؤدي إلى تطوير الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، فاتحين مستقبلنا للازدهار العلمي والتطور التقني، مادين أيدينا كأصدقاء للزعماء الآخرين.
وكان من ضمن من مدَّ يده لهم هو أنا، طالباً مني العون لبناء دبي جديدة في ليبيا، وذلك تأكيداً لرغبته في الانفتاح على العالم. قمتُ بإرسال محمد القرقاوي، رئيس مكتبي التنفيذي آنذاك، إلى ليبيا؛ وبعد وصوله بيومين قام رجال القذافي باصطحابه إلى مقر إقامة الرئيس الليبي في باب العزيزية بطرابلس. وبعد انتظار، أدخلوه غرفة كبيرة وجد القذافي فيها جالساً على مكتب يتصفّح الإنترنت بطريقة تنبئ عن قلّة خبرة ونوع من الاستعراض.
ابتدأ القذافي حديثه قائلاً: أنا معجب جداً بما صنعه الشيخ محمد بدبي، وأريد أن أفعل الشيء نفسه بليبيا، وأطلب منكم الاستثمار في ليبيا، وأطلب أيضاً خبرتكم في تحقيق هذا الحلم الجديد للشعب الليبي.
طلب تحويل طرابلس، وبالأخص مطار معيتيقة، إلى عاصمة حضارية لأفريقيا. أعطى انطباعاً بأنه لم يكن عالماً بالتاريخ ولا بالأحداث، وأنه محاط بفريق يخفي عنه الحقائق إما عن خوف أو عن رغبة، وإن كنتُ أرجّح الاحتمال الأول. كان حديثه طويلاً بلا معنى، قال إنه لم يكن معجباً بأي دولة ولا بأي رئيس. كان يطرح رأيه بتعصُّب لا يمكنك أن تناقشه فيه. لم يكن حديثه حديث زعيم.
وصلني تقرير محمد القرقاوي، وعندها قررتُ الذهاب بنفسي. توجهتُ بالطائرة إلى طرابلس؛ مدينة جميلة رابضة في قلب التاريخ (....)
في اليوم الأول ذهبنا إلى المدينة القديمة. إنها مدينة تشعرك بالحزن. كيف لبلد بهذه الثروة أن يكون هكذا؟ مجار على الطرقات، نفايات مرمية هنا وهناك؛ حتى دبي في الخمسينات عندما كانت الموارد محدودة والمياه شحيحة والناس بلا كهرباء لم تكن بهذا البؤس أبداً. بعدها قمتُ بزيارة القذافي في خيمته بمدينة سرت، وكما في المرة السابقة تولى الحديث طوال الوقت. وفي المساء من ذلك اليوم توجّهنا إلى إحدى ساحات طرابلس المكتظة بالحضور. لكن المفاجأة التي كانت تنتظرنا أن أحدهم أخبر الجماهير بأننا هناك، عندها أحاطوا بالسيارة بشكل هستيري مرحبين بعواطف حارّة جداً، وبدأت السيارة تفقد اتزانها بفعل اندفاعهم. وما هي إلا لحظات حتى بدأتُ أشعر بارتفاع السيارة التي تقلنا عن الأرض. شعرنا بالقلق من هذا الاندفاع حتى لو كان للترحيب أو بفعل العاطفة الجياشة. لم أستطع الحديث معهم بفعل الأصوات العالية، عندها تدخل الحرس وأبعدوا الجماهير بطريقة عنيفة. لم أكن أرغب أبدا في أن يتم إبعادهم بتلك الطريقة.
بعد ذلك، أراد القذافي أن يريني منطقة الجبل الأخضر في شمال شرقي طرابلس حيث توجد بعض الآثار الإغريقية. ركبنا طائرة مع سيف الإسلام القذافي، ابن القائد، وعبد الله السنوسي الذي كان رئيس الأمن الداخلي واستخبارات الجيش وقريب القذافي أيضاً، ومعروف عن السنوسي أنه كان رجلاً عنيفاً متجهم الوجه.
أقلعت الطائرة، وعندما استوت في الجو التفت السنوسي نحونا وقال إنها المرة الأولى التي يركب فيها الطائرة منذ سنوات. سألته: ولماذا؟ أجاب: لطالما كنت مستهدفاً، وأخاف أن تُستهدف الطائرة التي أستقلها. خيّم السكون علينا ونحن نفكر بتبعات كلامه، هل أراد أن تكون أول تجربة له معنا؟
تحدّث سيف الإسلام، وبدا مطَّلعاً ومتطلِّعاً أكثر من والده.
تحدث قائلاً: لطالما فكرتُ بنوع الاقتصاد الذي انتهجه والدي، فهو لم يكن اشتراكياً ولا شيوعياً ولا حتى رأسمالياً، ثم تابع: لقد تحدثتُ إليه عن أهمية أن تعود الأرض للشعب وأن ننفتح على العالم بشكل أكبر.
انتهت الزيارة وظل الشعب الليبي في قلوبنا. تمنّينا مساعدته، لكن لم تكن الأمور على ما يرام. انسحبنا من المحادثات حول المشروع الجديد بعد فترة بعدما أدركنا أننا ندور في حلقة مفرغة، وأن الأجواء ملبَّدة بغيوم الفساد، وأننا سنكون بروباغاندا في منظومته الدعائية.
لم يكن القذافي يريد التغيير، كان يتمنى التغيير. التغيير لا يحتاج إلى خطابات، بل إنجازات».


مقالات ذات صلة

بيدرو ألمودوفار سيد الأفلام الغامضة يؤلف كتاباً لا يستطيع تصنيفه

ثقافة وفنون بيدرو ألمودوفار (إ.ب.أ)

بيدرو ألمودوفار سيد الأفلام الغامضة يؤلف كتاباً لا يستطيع تصنيفه

يجري النظر إلى بيدرو ألمودوفار، على نطاق واسع، باعتباره أعظم مخرج سينمائي إسباني على قيد الحياة. أما هو فيرى نفسه كاتباً في المقام الأول - «كاتب حكايات»،

نيكولاس كيسي
يوميات الشرق الصور الثابتة في أي كتاب مدرسي تتحوَّل نماذج تفاعلية ثلاثية البُعد (فرجينيا تك)

الذكاء الاصطناعي يضخّ الحياة بالكتب المدرسية الجامدة

طوّر فريق من الباحثين في جامعة «كولورادو بولدر» الأميركية نوعاً جديداً من الكتب المدرسية التفاعلية التي تتيح تحويل الصور الساكنة نماذجَ محاكاة ثلاثية البُعد.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «شيء مثير للاهتمام جداً» (رويترز)

نسخة نادرة من مخطوطة «الأمير الصغير» للبيع

ستُطرح نسخة نادرة من المخطوطة الأصلية لرواية «الأمير الصغير» للكاتب أنطوان دو سانت أكزوبيري، للبيع؛ وهي التي تحتوي على تصحيحات وتعليقات مكتوبة بخطّ المؤلّف.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب القوة في موازين الحياة

القوة في موازين الحياة

يسعى كتاب «لعب الأدوار بقوة» للكاتبة والباحثة الأميركية، ديبورا جرونفيلد، إلى تفكيك مفهوم «القوة»، بما له من حمولات سيكولوجية، واجتماعية، وسياسية، وإنثروبولوجية

منى أبو النصر (القاهرة)
كتب «استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور

«استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور

يأخذ المفكر اللبناني مشير باسيل عون قارئه، في مؤلفه الجديد «استنطاق الصامت: مفاتحات فلسفية في الاجتماع والدين والسياسة» الصادر حديثاً عن دار «سائر المشرق»

مالك القعقور (لندن)

اكتشاف قاموس للهجة البدو في نجد بجامعة زيوريخ

غلاف الكتاب... صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي)
غلاف الكتاب... صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي)
TT

اكتشاف قاموس للهجة البدو في نجد بجامعة زيوريخ

غلاف الكتاب... صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي)
غلاف الكتاب... صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي)

قد لا يكون اسم الباحث الهولندي الدكتور مارسيل كوربرشوك الذي عُرف باهتمامه بثقافة الصحراء العربية، وتخصص في دراسة الشعر النبطي، غريباً على القارئ العربي عموماً، وعلى القارئ الخليجي خصوصاً، بحكم حضوره في وسائل الإعلام الخليجية، خاصة عندما كان يعمل أستاذاً في جامعة نيويورك في أبوظبي.

الباحث الهولندي د. مارسيل كوربرشوك مع الباحث السعودي قاسم الرويس

ولا ننسَ عمله العظيم «FROM CENTRAL ARABIA ORAL POETRY AND NARRATIVES » الذي أنجزه أثناء عمله في سفارة بلاده لدى السعودية، ونُشر في خمسة مجلدات خلال الفترة 1994-2005م، ثم إنه أصدر بعد ذلك كتاباً عن الشاعر حميدان الشويعر، وأتبعه بكتاب عن الشاعر عبد الله بن سبيّل، وأخيراً كتابه الذي صدر مؤخراً «شعراء النفود»، إضافة إلى أعمال أخرى.

تربطني بهذا الباحث الجاد صداقة وثّقها الاهتمام الثقافي المشترك، وكلي إعجاب بجَلَده ودأبه على تحمّل المشاق والسفر إلى أي مكان في سبيل شغفه بدراسة ثقافة صحراء الجزيرة العربية وآدابها.

قاموس لهجات البدو في نجد

في يوليو (تموز) 2023م أرسل لي هذا الصديق رسالة يزفّ لي فيها خبراً جميلاً حول اكتشافه قاموساً ضخماً مكتوباً بخط اليد عن لهجة بدو قبيلتَي «عتيبة» و«قحطان» القديمة للمستشرق السويسري يوهان جاكوب هيس Johann Jakob Hess (1866ـ1949م) الذي أقام في البلاد العربية عدة سنين عُني خلالها بثقافة ولهجات البدو في داخل الجزيرة العربية، وألّف في ذلك كتاباً نشره في عام 1938م تحت عنوان: «Von den Beduinen des Innern Arabiens: Erzählungen, Lieder, Sitten und Gebräuche».

وتظهر على غلاف الكتاب صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي) بشعره المدهون وضفائره المجدولة.

وقد تُرجم الكتاب في 2010م، ونشرته «دار الورّاق» في لندن تحت عنوان: «بدو وسط الجزيرة: عادات... تقاليد... حكايات وأغانٍ». هذا الكتاب كان الدليل الرئيسي لأعمال كوربرشوك الميدانية في المملكة العربية السعودية.

كما أن لهيس (Hess) جهوداً أخرى؛ فقد أعدّ بحثاً في «لهجة نجد الحالية» عُرض في مؤتمر المستشرقين الذي عُقد في فيينا عام 1912م، كما نشر مقالتين عن اللهجة الدوسرية حيث سُجّلت مادتها في الكويت، وله أيضاً بحث استقصائي حول رحلة داوتي إلى جزيرة العرب، كما أن له كتاباً قدّمه إلى أكاديمية «هايد لبرغ» للعلوم، وطُبع سنة 1912م تحت عنوان: «أسماء بدو من وسط الجزيرة العربية»، وهو عبارة عن معجم صغير لأسماء البدو، بدأت فكرته عندما جمع المؤلف في صيف 1909م نحو ثلاثمائة اسم من حضر نجد، حسب تعبيره، الذين كان يلتقيهم، ثم عمل على تدقيق هذه الأسماء مع بدو نجد وغرب الجزيرة، ثم أضاف إليها أسماء أخرى. وقد تُرجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية في السنوات الأخيرة، ونشرته «دار الورّاق» بلندن.

اكتشاف جامعة زيوريخ

وفي حين يشير من ترجموا لهيس (Hess) إلى جمعه مواد غزيرة لوضع قاموس للهجات البدو في داخل الجزيرة العربية، فقد أكدوا أنه لم يطبع هذا القاموس إذا كان قد حرّره بشكل نهائي، إلا أنه لا أحد يعلم تفاصيل مادة هذا القاموس وحجمه أو مكان حفظه، حتى اكتشف هذا الكنز الثمين صديقنا مارسيل كوربرشوك في أقبية معهد «الشرق وآسيا» (the Orient und Asien Institut) في جامعة زيوريخ.

عقدت جامعة زيوريخ بعد هذا الاكتشاف مؤتمراً حول هيس وأعماله في سبتمبر (أيلول) 2023م ألقى فيه كوربرشوك الكلمة الافتتاحية عن اكتشافه، ثم إني التقيت به في مؤتمر «المروية العربية» الثاني الذي نظمه مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلامية في الرياض في 5-6 مايو (أيار) الماضي، فشرح لي قصة اكتشاف هذا الأرشيف الضخم وأهميته كأقدم شاهد على لهجات البدو في نجد في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

فذكر أنه في اليوم الأخير من عام 2019م أرسل رسالة إلى أمين مكتبة معهد «أورينت وآسيا» في جامعة زيوريخ، الدكتور يوهانس توهمان، يسأله فيها عن ملاحظات مكتوبة بخط اليد تركها يوهان جاكوب هيس. فتلقى رده خلال ساعة مخبراً بوجود ملفات وبطاقات كثيرة في أرشيف المعهد، لم يقم أحد حتى ذلك التاريخ بعمل جاد عليها.

كان هيس من الباحثين الدقيقين في التدوين الصوتي للغة العربية البدوية؛ ولذا تتميز أعماله بالجودة والإتقان الذي قلّ نظيره في ذلك الوقت المبكر الذي اعتمد فيه على السماع المباشر دون الاستعانة بجهاز تسجيل.

لقد وجد مارسيل كوربرشوك في أقبية المعهد أكثر من ثلاثة عشر ألف بطاقة تحتوي على معلومات لغوية وغيرها: مكتوبة باللغة الألمانية، بخط يد أنيق بقلم رصاص على بطاقات صنعها هيس بنفسه من ورق رقيق جداً، منظمة بشكل أو بآخر أبجدياً، وهي بالفعل مشروع غير مكتمل لقاموس اللهجات العربية البدوية. اشتمل جزء من البطاقات على مادة كتابه «بدو وسط الجزيرة»، ولكن هناك الآلاف من البطاقات الأخرى المثقلة بالمعلومات اللغوية والثقافية البدوية الأصلية، إنها كنز تاريخي مجهول لم يهتم به أحد منذ وفاة هيس في سنة 1949م.

جاء هيس في نحو عام 1900م إلى المنطقة العربية في وقت كانت فيه الثقافة الشفوية هي الوعاء الذي حفظ السمات القديمة للهجات والعادات والتقاليد والحكايات والأغاني، مثل «الماموث» المحفوظ في صقيع سيبيريا - على حد تعبير كوربرشوك - فعمل هيس على توثيق هذه الثقافة الشفوية قبل اندثارها؛ ولذا فإن هذا الإرث الذي تركه هيس فريد ولا يُقدر بثمن، خاصة أن الثقافة الشفوية في قلب الجزيرة في ذلك الوقت غير مكتشفة إلى حد كبير، وهو ما كان يمثل فراغاً علمياً وقصوراً معرفياً.

من موهق العتيبي إلى العمّ محمّد سلّمه الله ودام بقاه.

سلّم لي على عمرك، وعلى جارالله، وعلى عبدالله الموسى إن وجدته، وناصر السعود، وعلى دخيل الجِدَاع، وعلى كلّ الجماعة.

أنا في زوريخ أكبر بلد من سوَيسرا مريّح ومتعافي، ديرةٍ على أهلها طيّبة وعلى الغريب شينة: مطر وبرد واليا رحت أبا أسيّر يتليّمون عليّ الناس. أنا منحجْرٍ من البيت إلى الجنَينة.

يوم سافرنا جات مسافرتنا زَينة. سفرنا على أكبر وابور اللي في البحر المتوسّط. بعد ثلاثة أيام من إسكندرية حصّلنا لمينا تَرْيَستا من بلاد نِمسا. ومنها سافرنا غرب إلى قريةٍ اسمها البندقية، يقولون أصل البنادق طالعةٍ منها، وهي وسط بحر تحوّل من السفينة في فم البيت، وأفكروني كيف بنوها، والبندقية من إيطاليا.

ومنها غيّرنا وابور سِكّة في بلد اسمها ميلانو. ثم ركبنا وابور سِكّه، ثم عطى بنا مع وسط الجبال عليها الثلج. خشّينا في وسط الجبال المشَقّقة يمشي نصّ ساعة والبابور من تحت الجبل. وفِتنا ثلاثة بحَيرات حِلوة، وطبَّينا بلاد الخواجة.

الخواجة والسِتّ يسلّمون عليك سلامٍ كثير مكيّفين.

الفقع اللي عطيته الخواجة نطبخ منه، لقيناه أحسن أكل. حنا ناخذ خمسين يوم ونتوجّه لمصر إن شاء الله. والخواجة متوصٍّ بي مع البَرّ والبحر. تأريخه ثمانية من فطر أوّل

رسالة موهق العتيبي

كان المصدر الرئيسي لهيس هو موهق الغنّامي الذي ظل مقيماً في مصر، وقد دوّن قصة حياته في كتابه «Von den Beduinen» كما رواها له. كان موهق أيضاً شاعراً جيداً، وكان متمكناً من لهجات البدو وتعبيراتهم، ولديه إلمام بالعادات والتقاليد، والقصص والأساطير، وطبيعة الصحراء وتضاريسها، وأعراف البدو وأخلاقهم.

ويرى كوربرشوك أن عمل هيس تفوّق على ما قام به السويسريان ألبرت سوسين وجون لويس بوركهارت، وغيرهما من الرحّالة والمستشرقين؛ لأن نصوصه كانت أول نصوص للغة العربية البدوية في الجزيرة نفسها استناداً إلى مصادر شفوية، ولأن هيس استخدم منهجاً دقيقاً في ترجمته للنصوص؛ فالأبجدية العربية ليست ملائمة كوسيلة لتمثيل المتغيرات المنطوقة. لهذا السبب، يستخدم اللغويون الترجمة النصية بالأبجدية اللاتينية، مع إضافة بعض الرموز الخاصة. فكانت جودة تدويناته الصوتية لا تضاهَى في زمنه، ولمدة طويلة بعد ذلك.

ويشير كوربرشوك إلى أن هيس سجّل بعض الملاحظات على بطاقات المعلومات كمتخصص في علم المصريات، في حين كانت ملاحظاته حول اللهجة البدوية مليئة بالإشارات إلى العبرية، والأكادية، والأرامية، والآشورية، والبابلية، والتركية، والفارسية، والسنسكريتية، حتى الصينية، ناهيك عن اليونانية، واللاتينية، واللغات الأوروبية الحديثة. وبدا أنه مطلع على جميع الأعمال الأكاديمية والرحلات المتعلقة بالجزيرة العربية حتى نهاية الثلاثينات. حيثما لاحظ أخطاء أو أخطاء مطبعية في أعمال الآخرين، قام بتصحيحها إما في ملاحظاته المنشورة أو في بطاقاته. كان يعيش البحث العلمي كمؤسسة جماعية.

يضيف هيس في بطاقاته ملاحظة إذا كانت التعبيرات تستخدم في الشعر بدلاً من الكلام العام، وغالباً ما يتم تحديد مصادر غير موهق، وينسب الكلمات إلى قبائل محددة، وينبّه إذا كانت الكلمات مستخدمة من قبل الحاضرة. ويستخدم مجموعة من الاختصارات للإشارة إلى الباحثين الأوروبيين وأعمالهم في العربية الكلاسيكية. وفي أحيان كثيرة كان هيس يستعين بالرسومات لتوضيح الأوصاف. لقد أظهرت بعض الأوراق أن هيس كان قريباً من تحويل مجموعته إلى قاموس حقيقي، ولكن لا نعلم ما هي الأسباب التي جعلت هيس لا يكمل هذا المشروع الرائع، أو حتى يكتب خطته لتنفيذه النهائي. ولعلنا نتساءل بعد ذلك عما يمكن فعله لإنقاذ هذا القاموس وإخراجه من غياهب النسيان بعد مرور نحو مائة وعشرين عاماً على كتابته ليضيف مزيداً من الوعي والمعرفة حول ثقافتنا وتاريخنا، في ظل ما قام به كوربرشوك من جهد مشكور في رقمنة بطاقات هيس وترتيبها بشكل أبجدي تقريبي. ومن الجميل أن تهتم الجهات الثقافية العلمية في السعودية بهذا القاموس بالتعاون مع جامعة زيوريخ.

رسالة موهق الغنّامي

رسالة نادرة

 

وقبل أسابيع زوّدني الدكتور مارسيل كوربرشوك بنموذج يؤكد أهمية أرشيف هيس في جامعة زيوريخ الذي تحدثنا عنه، وهي رسالة نادرة ظريفة توثق رحلة مجهولة قام بها موهق الغنّامي من مصر إلى سويسرا لزيارة هيس الذي كان يعمل أستاذاً في جامعة زيوريخ، وهي رسالة وجّهها بعد وصوله إلى التاجر محمد العلي الذي كان يعمل لديه، وفيها يحكي بلهجته تفاصيل رحلته بالباخرة من الإسكندرية، ثم القطار حتى وصوله إلى سويسرا، مروراً بالنمسا وإيطاليا في ضيافة هيس. وعلى الرغم من أن موهق قد أرّخ رسالته باليوم والشهر «تأريخه ثمانية من فطر أوّل»؛ أي الثامن من شوّال، فإن السنة مجهولة، ويترجّح أن رحلته كانت بين سنة 1331هـ/1913م وسنة 1336هـ/1918م. وهذا نَص الخطاب كما فرّغه مارسيل كوربرشوك من النص المكتوب بالأحرف اللاتينية كتابةً صوتية.