«كف اليد» يترك موظفين سوريين معلَّقين بين السماء والأرض

«الشرق الأوسط» تنشر تحقيقاً عن معاناة آلاف وعدم قدرتهم على العودة إلى العمل

سوق الحميدية في دمشق (رويترز)
سوق الحميدية في دمشق (رويترز)
TT

«كف اليد» يترك موظفين سوريين معلَّقين بين السماء والأرض

سوق الحميدية في دمشق (رويترز)
سوق الحميدية في دمشق (رويترز)

بعد إطلاق سراح مدرس المرحلة الثانوية السوري صالح (56 عاماً) من المعتقل في منتصف عام 2016، توقع أن يعود إلى وظيفته بعد رفع الإيقاف المؤقت بحقه. منذ ذلك الحين، تردد مراراً على إدارته التربوية وحصل على أحكام قضائية تدعم حقه في العودة وإنهاء الإيقاف المؤقت أو «كف اليد» الذي اتخذته بحقه جهة العمل في أثناء الاعتقال، لكن من دون جدوى إذ تشترط جهة العمل حصوله على موافقة أمنية صعبة المنال بموجب تعميم صدر عن الحكومة السورية في 2013.
قانون المحاكم المسلكية الصادر عام 1990 الذي ينظم إجراء «كف اليد» لا ينصف صالح، إذ لا يحدد إجراءات ولا مدة معينة لعودة الموقوفين ولا يتضمن إلزاماً لجهات العمل. وزاد الأمر تعقيداً بسبب التعميم الصادر عن الحكومة في 2013 والذي وُزِّع على جهات العمل.
لم يتمكن صالح من الالتحاق بوظيفة أخرى، فهو لا يزال رسمياً على ذمة وظيفته في التعليم التي أمضى بها 22 عاماً قبل اعتقاله. هكذا بقي معلقاً بين السماء والأرض مثل 4500 موظف «مكفوفي الأيدي» رفعوا دعاوى أمام المحكمة الإدارية في دمشق منذ بداية الأزمة السورية في 2011 حتى نهاية 2017 للمطالبة بمستحقاتهم الموقوفة من أجور وتعويضات، حسب القاضي يحيى العلي من مجلس الدولة. جهات العمل تضرب بأحكام القضاء عرض الحائط وتطبّق تعميم الحكومة الذي يمنع صالح ورفاقه من العودة للعمل رغم مخالفته قانون المحاكم المسلكية والمادة 51 من الدستور السوري التي تعتبر أن «كل متهم بريء حتى يدان بحكم قضائي مبرم في محاكمة عادلة».
اعتُقل صالح في أبريل (نيسان) 2015 بتهمة «كتم جناية وتمويل إرهاب» لأن شقيقه الذي اتُّهم بالانتماء إلى مقاتلي المعارضة السورية كان يزوره بمنزله في بلدة «ببيلا» في ريف دمشق. لم يجدِ نفعاً أن صالح أثبت لجهات الأمن أن شقيقه أُطلق سراحه من «فرع فلسطين» الأمني (التابع للاستخبارات العسكرية) في دمشق في 24 فبراير (شباط) من نفس العام، وجدد جواز سفره بموافقة السلطات، وسافر عبر مطار دمشق إلى مدينة القامشلي في شمال شرق البلاد.
خرج صالح بعد سنة وثلاثة أشهر من الاعتقال، بإخلاء سبيل، ثم حصل على منع محاكمة من القضاء الجزائي في 24 أكتوبر (تشرين الأول) 2016 لعدم ثبوت دليل على التهمة الموجهة إليه. وقدم طلب العودة إلى العمل بعدها بثلاثة أيام. وقدمت وزارة التربية بدورها، طلبًا إلى مكتب الأمن الوطني للحصول على الموافقة الأمنية. وبعد شهرين، كان الرد بالرفض.
تكررت مراجعة صالح لمديرية التربية فأحالت ملفه إلى المحكمة المسلكية (التأديبية) في دمشق. استغرقت إجراءات التقاضي سبعة أشهر، وحصل صالح على قرار «عدم مُساءلة قانونية وإلغاء قرار كف اليد» بتصديق من مجلس الدولة بتاريخ الثامن من مايو (أيار) 2017، حاول مجدداً العودة للعمل، لكن وزارة التربية لم تنفذ القرار القضائي وعادت لتطلب الموافقة الأمنية.
يقول القاضي يحيى العلي من مجلس الدولة إن «القضاء الإداري ينتهي دوره، بمجرد إصدار القرار القضائي المبرم المكتسب الدرجة القطعية وإعلان الحكم الصادر عن مجلس الدولة».
وفي ظل انقطاع الراتب وتحت ضغط تكاليف الحياة ومصروفات العائلة التي نزحت ثماني مرات من منزلها بسبب القتال في سوريا، اضطر صالح إلى العمل عتالاً (حامل أغراض ثقيلة) في محل للخضراوات بإحدى أسواق دمشق. مع الوقت بدأت زيارته تكثر للأطباء بسبب آلام الظهر نتيجة ثقل الأحمال. واضطر ولداه، وأحدهما بالثانوي والآخر بالجامعة، إلى ترك الدراسة والالتحاق بسوق العمل لإعالة الأسرة.
قال الرجل الذي يقترب من عامه الستين، وهو ينحني ليرفع حزمة من الخضر، إن ما تعرض له بسبب كف يده ووقف مستحقاته المادية «إعدامٌ على الساكت».
لاح طوق نجاة أمام صالح، حين وجد فرصة للعمل مدرساً في وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). لكن هذا العمل كان يتطلّب منه الحصول على ورقة «غير موظّف» بموجب الفقرة «و» من المادة رقم 7 من قانون العاملين. وبما أنّه لا يزال مقيداً ضمن الموظفين في وزارة التربية، فشل صالح في الحصول على الوظيفة الجديدة.
مسؤولة ملف مكفوفي اليد في الدائرة القانونية في مديرية تربية ريف دمشق وداد خالد، قالت: «لا نقوم بإعادة العامل إلا في حال حصوله على الموافقة الأمنية». وأضافت أنّها أرسلت طلباً ثانياً وثالثاً من أجل منحه الموافقة الأمنية «لكنها جاءت مع الرفض رغم أن وضعه قانوني».
وزارة التربية التي كان يعمل بها صالح سجلت، إلى جانب مؤسسة مياه دمشق، أعلى نسبة لحالات «كف اليد»، حسب القاضي يحيى العلي من مجلس الدولة، رغم أنه لم يعطِ أرقاماً لتلك النسب.
ولا يختلف الوضع في قطاعات أخرى، حسب عينة من 11 موظفاً شملهم هذا التحقيق، حُرموا من عملهم بعد اعتقالهم دون جرم. وحصل أربعة من العينة على أحكام قضائية قطعية تلزم جهات العمل بإعادتهم لأعمالهم.

مزاودات
جهة عمل صالح طلبت أكثر من مرة منحه الموافقة الأمنية دون جدوى. لكن الموظّفة السورية هبة العبد الله (اسم مستعار) لم تحظَ بهذه المعاملة، إذ كان مديرها ملكياً أكثر من الملك. لم تفلح هبة في العودة إلى عملها التابع لوزارة الإدارة المحلية رغم أنه لم تثبت عليها تهمة «الترويج للأعمال الإرهابية» التي اعتُقلت بسببها، بل وشملها عفو رئاسي أغلق ملفها في 21 يوليو (تموز) 2014.
أمضت الموظفة الثلاثينية التي تعول والديها، خمسة أشهر رهن الاعتقال قبل أن يُخلى سبيلها لعدم ثبوت التهمة في مايو 2014، حسب أوراق المحكمة التي قدمتها إلى جهة العمل. وشملها العفو الرئاسي في الشهر التالي، وحصلت من رئاسة الوزراء على تأشيرة «لا مانع من العودة للعمل» في أكتوبر 2014.
لكنّ كل تلك الأوراق والتأشيرات انتهى بها الأمر إلى إضبارة هبة في شؤون العاملين (الذاتية)، دون أن تفلح في إعادتها إلى عملها بعد أكثر من أربع سنوات ونصف السنة من إخلاء سبيلها.
وقال مدير شؤون العاملين في جهة العمل، التي طلبت هبة عدم الكشف عنها، إن مدير هبة «يرفض إعادة أي عامل تعرض للاعتقال، حيث رفض تقديم طلب لها إلى مكتب الأمن الوطني للحصول على الموافقة الأمنية».

11 يوماً تبدّد 15 عاماً
الدخول في النفق المظلم لكف اليد قد لا يحتاج إلى أكثر من تشابه الأسماء. وسام الزغبي (40 سنة) دخل فرع الأمن الجنائي (التابع لوزارة الداخلية) في باب مصلى بدمشق بسبب تشابه اسمه مع مطلوب آخر. وخرج بعد 11 يوماً مكفوف اليد عن عمله بالقرار رقم 242-م الصادر عن مديرية النفوس المدنية في دمشق في 17 - 1 - 2017.
قال وسام: «تم التحقيق معي وخرجت، كوني لم أكن الشخص المطلوب، حيث تم تحويلي إلى القضاء وحصلت على براءة بقرار قضائي مُكتسِب الدرجة القطعية».
في اليوم التالي عاد وسام إلى عمله ليجد قرار «كف يده». قدم ما يثبت أنه كان موقوفاً، وأبلغته المديرية أنها سترفع كتاباً إلى مكتب الأمن الوطني للحصول على الموافقة الأمنية. وجاء الرد بالرفض.
التعميم الذي يفرض الموافقة الأمنية لعودة العامل يخالف المادة 51، فقرة (2)، من الدستور السوري التي تنص على أنّ «كل مُتهم بريء حتى يدان بحكم قضائي مُبرم في محاكمة عادلة». وفضلاً عن مخالفة التعميم للدستور فإنه حسب هذا التعميم لا تستدعي حالة وسام الحصول على الموافقة الأمنية كونه أُوقف أقل من 15 يوماً.
ومع ذلك، تمسكت المديرية بقرار «كف اليد» في مخالفة للتعميم المذكور، وللفقرة الثالثة من المادة 135 من قانون العاملين الذي يشترط مرور 15 يوماً على تغيب العامل قبل أن يُتخذ بحقه إجراء إداري. ونظراً إلى أن وسام برّأته المحكمة، فالإبقاء على كف اليد يخالف أيضاً المادة (26) من قانون المحاكم المسلكية التي تؤكّد في الفقرة (ب) أنه «إذا أصدر القضاء الجزائي قراراً بالبراءة أو عدم المسؤولية أو منع المحاكمة، أو الحكم بإحدى المخالفات فيُعتبر قرار كف اليد مُلغىً حُكماً وترسل المحكمة ملف القضية إلى الإدارة التي يعمل لديها العامل، عن طريق النيابة العامة».
ويقول حسام الصواف أمين سر لجنة القرار رقم (1) في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل التي تختص بتفسير قانون العاملين الأساسي رقم 50 لسنة 2004 الناظم للوظيفة العامة، إن اللجنة صدرت رأياً لرئاسة الحكومة في 2014 يطلب استثناء مبنزالحالات التي تحصل على براءة أو عفو رئاسي أو قرار قضائي بمنع المحاكمة أو عدم المسؤولية من شرط الحاجة لموافقة أمنية تجنباً لضياع حق العامل. لكن جميع الحالات التي شملها هذا التحقيق (11 حالة) رُفضت طلباتها كلها للحصول على الموافقة الأمنية رغم احتجازهم دون جرم.

قاتلْ... ترجعْ إلى عملك
شادي إبراهيم (اسم مستعار) الموظف في محافظة دمشق وجد طريقاً مختصراً لإنهاء «كف يده» بعد اعتقاله عشرة أيام في 2013 ثم إخلاء سبيله. فقد رفع الموظف الثلاثيني كتاباً لمحافظة دمشق وإلى رئاسة الوزراء يطلب العودة إلى عمله لكن دون جدوى.
وبعد ثلاث سنوات من المعاناة دون عمل، عرف شادي أن من يتطوع في اللواء الطوعي التابع لمحافظة دمشق، المؤلف من عاملين بالمحافظة، تتم إعادته للعمل. قدّم طلب التطوّع إلى ذاتية محافظة دمشق في يناير (كانون الثاني) 2016، وبعدها حصل على وثيقة بأنّه بات على رأس عمله منذ تاريخ 6 فبراير 2016. وعلى مدى سبعة أشهر من التقاضي، عرف صالح من خلال التعامل مع المحامين والمحاكم، المتاهة القانونية التي دخل فيها بسبب «كف اليد».
يحكم عملية «كف اليد» قانون المحاكم المسلكية رقم 7 (1990)، وقانون العاملين الأساسي رقم 50 (2004)، الناظم للوظيفة العامة، إضافة إلى آراء (لجنة القرار رقم واحد) في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وهي لجنة تختص بالنظر في إبداء الآراء حول القانون رقم 50.
وقال المحامي عدنان الربيع المختص بالقضاء الإداري، إن القانونين لا يحتويان على أي توصيف قانوني لعملية كف اليد جراء الاعتقال الأمني فلم تنص القوانين على المدّة التي يجب أن يعاد خلالها العامل إلى عمله، ولا طريقة العودة. وأضاف أن قانون المحاكم المسلكية لم يلزم الجهات التي يعمل بها الموظفون بإعادتهم بعد إخلاء سبيلهم وإنما أعطاها سلطة تقديرية في إعادة العامل من عدمه.
ويُرجع الدكتور عقبة الرضا، الخبير بالموارد البشرية وعميد سابق للمعهد الوطني للإدارة العامة، السبب في غياب التوصيف القانوني لعملية كف اليد نتيجة التوقيف الأمني، إلى كون العقوبات سابقاً كانت مسلكية (مخالفات داخل العمل) فقط ويبتّ القضاء بحالة العامل فإمّا أن يجرّمه أو يبرّئه.
ولكن عقب النزاع السوري ظهرت حالات الاعتقال الأمني بكثافة، وأصبحت جهات العمل تعطي الأولوية لتطبيق التعميم الصادر عن رئاسة الحكومة في 2013.

ضياع التعويض
ولا تقف معاناة «مكفوفي الأيدي» عند صعوبة العودة للعمل وإنما تمتد إلى ضياع الأجور ومكافآت نهاية الخدمة والتعويضات في ظل تضارب المرجعيات القانونية.
فالمادة 79 من قانون العاملين في الدولة رقم 50 تقول إنه «لا يجوز للعامل أن يتقاضى أجره ما لم يكن شاغلاً للوظيفة». وتقول الفقرة (أ) في المادة 89 من القانون ذاته إنه «يوقف أجر العامل مكفوف اليد اعتباراً من أول الشهر الذي يلي تاريخ كف يده». لكن الفقرة (ب) تقول إنه «إذا أُعيد العامل المكفوف اليد إلى وظيفته فإنه يتقاضى اعتباراً من تاريخ وقف أجره كامل أجوره الموقوفة في حال براءته أو عدم مسؤوليته أو منع محاكمته».
المحكمة الإدارية العليا أدلت بدلوها في الموضوع، وقال قرارها رقم (278) في الطعن 935 لسنة 1994 إنه «من حق العامل الدائم الذي توقفه السلطة ثم تخلي سبيله دون أنّ يحال إلى القضاء، أو دون أنّ يدان بشيء، أن يعود إلى وظيفته ما لم يكن قد صُرف منها أو تجاوز السن القانونية، وأن يتقاضى كامل أجوره الموقوفة عن مدة التوقيف مهما طالت وأنّ يسبغ عن مدة توقيفه صفة الخدمة الفعلية».
لكن جهات العمل تستند في رفض صرف أجور مكفوف اليد إلى ما جاء في محضر جلسة المجلس الأعلى للرقابة المالية رقم 7 لعام 1993 من أنّه «لا تعتبر الفترة الواقعة بين تاريخ إخلاء السبيل للعامل ووضعه نفسه تحت تصرف الإدارة وتاريخ صدور الصك بإعادته (فترة) خدمة فعلية، وبالتالي لا يستحق أجوره عن هذه الفترة».
وإذا قطع صالح الأمل في العودة إلى عمله، فهو لا يعرف مع اقترابه من سن التقاعد كيف يمكن أن يصرف التأمينات والمستحقات، التي يفترض أن يحصل عليها العامل في نهاية خدمته، أو في حال قدّم استقالته أو تم صرفه من الخدمة.
وحسب وثيقة صادرة عن وزارة العمل في أواخر 2017، فإن وزارة العمل ممثّلة بلجنة القرار رقم 1 رفضت تصفية حقوق العاملين «مكفوفي الأيدي» استناداً إلى أن الموافقة الأمنية لم ترد ضمن حالات انتهاء الخدمة حسب المادة 131 من قانون العاملين، التي حصرت حالات انتهاء الخدمة بـ«إتمام العامل الستين من العمر، والاستقالة أو ما في حكمها، والتسريح لأسباب صحية، وثبوت عدم صلاحية العامل المتمرن، والتسريح بسبب ضعف أداء العامل، والتسريح التأديبي، والطرد، والصرف من الخدمة، والوفاة».
وبما أن «مكفوفي الأيدي» لا تنطبق عليهم أيٌّ من الحالات التسع السابقة فإنّهم خسروا تعويضات التأمينات أيضاً، التي تبلغ 21% من قيمة الراتب مضروباً بعدد سنوات الخدمة، وذلك وفقاً لقانون التأمينات الاجتماعية رقم 28 لعام 2014.

التعميم أقوى من القانون
يقول الدكتور عقبة الرضا العميد السابق للمعهد الوطني للإدارة العامة، إن عدم تنفيذ القرارات القضائية بعودة موظفين «يعود إلى ضعف في عملية الإدارة بحد ذاتها، أو خوفها من أن يكون هذا الشخص متورطاً بعمل معين».
واعتبر أمين شؤون العمل بالاتحاد العام لنقابات العمال حيدر حسن أن «قضية الموظفين الذين لم تثبت عليهم التهم تشكل هاجساً للاتحاد، ولا سيما أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته».
وقال إن الاتحاد طالب عبر مؤتمره السنوي في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2017، رئيس الحكومة والجهات العامة بإعادة العامل في حال إخلاء سبيله، لكن ذلك لم يحدث في كل الحالات.
معاون وزير الشؤون الاجتماعية والعمل راكان إبراهيم، قال إن «كف اليد عارض وليس حالة دائمة، وبمجرد زوال العارض أو السبب الذي كان وراء التوقيف ينتهي كف اليد وفق الأصول والإجراءات المحددة بالقانون». لكنه أشار إلى تعميم رئاسة الحكومة أنه إلى جانب القوانين هناك أنظمة تحكم عمل الجهات العامة وتشترط الحصول على الموافقة الأمنية للعودة إلى العمل.
ولم يتسنَّ الحصول على رد من رئاسة الحكومة وما إن كانت لديها حل لأوضاع الموظفين المتضررين من التعميم. ورفض المكتب الصحافي توثيق تقديم طلب للحصول على رد. ولدى استخدام البريد الإلكتروني الموجود على موقع الحكومة على الإنترنت لم يتم تسليم الرسالة وجاء رد يوم الأحد السادس من يناير بوجود عطل فني.
عالج المحامي السوري المتخصّص بالقضاء الإداري عدنان الربيع منذ عام 2012 نحو 100 دعوى رفعها موظفون «مكفوفي الأيدي» بهدف العودة إلى عملهم، ويؤكّد أن البعض منهم حصل على أحكام قضائية ولم يعد بسبب الموافقة الأمنية، في حين عاد البعض الآخر بعد حصوله على هذه الموافقة.
ويؤكّد الربيع أن الجهة التي تمتنع عن تنفيذ القرار القضائي تُعاقَب بالحبس بين شهرين وسنتين، وذلك بموجب المادة رقم 364 من قانون العقوبات العام.
وفي ما يخص تعميم رئاسة الحكومة بفرض موافقة أمنية، يرى الربيع أنّه أحياناً تصدر تعاميم بظروف القوة القاهرة، مثل قانون الطوارئ ويكون القانون بنهج والتعميم بنهج آخر، مؤكّداً أنه «إذا لم تأتِ الموافقة الأمنية فلن يعود العامل لعمله».
أصبح صالح يدرك هذا الواقع لكنه ما زال غير قادر على استيعابه. في لحظات راحته في سوق الخضراوات يلتقط أنفاسه مردداً: «هل يعقل أن أتحوّل من أستاذ مدرسة إلى عتّال؟». وأضاف أن طلبه الوحيد هو العودة لعمله الأساسي في التعليم الذي أمضى به 22 عاماً.

- أُنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة «إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية» (أريج)، وإشراف الزميل مختار الإبراهيم، وبالشراكة مع «الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية» (سراج).



طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».