أربيل.. من عاصمة للسياحة إلى مدينة للنازحين

تحتضن نحو نصف مليون نازح عراقي.. وانهيار الأمن أدى إلى هروب نصف مليون سائح

أربيل.. من عاصمة للسياحة إلى مدينة للنازحين
TT

أربيل.. من عاصمة للسياحة إلى مدينة للنازحين

أربيل.. من عاصمة للسياحة إلى مدينة للنازحين

بعد أن اختيرت أربيل عاصمة للسياحة العربية من قبل رئاسة المكتب التنفيذي لمجلس وزراء السياحة العرب لعام 2014 - تحولت اليوم بعد أحداث الموصل في يونيو (حزيران) الماضي إلى عاصمة للنازحين العراقيين الذين تركوا مناطقهم خوفا من تنظيم «داعش» والمعارك التي تدور فيها.
زائر أربيل يلاحظ يوميا المئات من هؤلاء النازحين، سواء كانوا في المخيمات التي أسستها حكومة الإقليم في مداخل المدينة والتي تؤوي آلاف النازحين العرب من الموصل والأنبار وديالى وصلاح الدين، إضافة إلى أعداد كبيرة من نازحي بغداد. الكثير من هؤلاء استقروا داخل المدينة والأقضية والنواحي التابعة لها كقضاء شقلاوة وسؤران وراوندز وخبات وكويسنجق وناحية عينكاوا وبحركة. مناطق سياحية برمتها تحولت اليوم إلى ملاذ للنازحين العراقيين الفارين من بطش «داعش».
المصادر الرسمية في المدينة أكدت لـ«الشرق الأوسط» أن الانهيار الأمني الذي شهدته الموصل وما آلت إليه الأوضاع من سقوط متتال للمحافظات السنية المجاورة لإقليم كردستان أديا إلى توقف السياحة الرئيسة في الإقليم والمتمثلة بالسياحة الداخلية وتوقف قدوم السياح من وسط العراق وجنوبه إلى كردستان.
يقول نوزاد هادي، محافظ أربيل، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إن «عدد النازحين العراقيين كافة إلى أربيل وحدها بلغ أكثر من 400 ألف نازح من مختلف مناطق العراق، يتوزعون في داخل أربيل وخارجها في الأقضية والنواحي التابعة للمحافظة، إضافة إلى المخيمات الموجودة التي تؤوي النازحين الذين لا يملكون القدرة المالية على العيش داخل المدينة».
وتابع هادي: «كواجب إنساني، استقبلتهم حكومة الإقليم، لكن من ناحية الخدمات كان لوجودهم تأثير كبير على الإقليم بشكل عام وأربيل خاصة، ويثقلون كاهلنا، فهؤلاء يحتاجون إلى خدمات من ماء وكهرباء وخدمات صحية والوقود، وهناك مشكلة في هذه الخدمات لدى الإقليم نفسه، بسبب الحصار الذي تفرضه بغداد على الإقليم منذ أكثر من ستة أشهر والمتمثل بقطع ميزانية الإقليم وقطع رواتب موظفيه والمستحقات المالية كافة للإقليم».
وأضاف هادي: «بعد أحداث الموصل، دخل العراق مرحلة جديدة. حدود الإقليم من ربيعة إلى نفطخانة في خانقين هي الآن في قبضة (داعش)، ولم يبق لنا مع بغداد سوى طريق يبلغ طوله نحو 15 كلم عند نفطخانة، لذا توقف التبادل الاقتصادي القوي بين إقليم كردستان ومناطق العراق الأخرى، فأثرت الأوضاع سلبا على الاقتصاد والسياحة في المنطقة. في هذا الوقت من الأعوام الماضية، كنا نشهد مجيء أكثر من مليون سائح إلى أربيل وحدها، لكن كيف يأتي هؤلاء الآن إلى هنا، فالمناطق كلها أصبحت تحت سيطرة (داعش)، فالقسم الأكبر الذي كان يأتي إلى أربيل سائحا فيما مضى جاء اليوم إليها نازحا بسبب الانهيارات الأمنية».
أربيل، المدينة التاريخية التي تمتد بجذورها إلى نحو سبعة آلاف عام قبل ميلاد المسيح، تمتاز بجمال الطبيعة واعتدال الجو، الأمر الذي ساهم في كثرة المصايف والمنتجعات السياحية فيها، وإقبال السياح من مناطق العراق والعالم كافة إليها لتمتع بأجواء ساحرة وخلابة، لكنها اليوم فقدت النسبة الأكبر من سياحتها بسبب أوضاع العراق، فالإقليم الكردي الذي يتمتع إلى حد ما بشبه الاستقلال، ما زال مرتبطا بالعراق من عدة نواح، خاصة الاقتصادية منها، فرغم أن كردستان العراق تعد منطقة مستقرة أمنيا فإن حدودها تشهد عنفا دائما بين الجماعات المسلحة والحكومة العراقية، الأمر الذي أثر بشكل فاعل في نسبة السياح العراقيين بالإقليم.
مصدر في وزارة البلديات والسياحة بحكومة إقليم كردستان، فضل عدم الكشف عن اسمه، أكد لـ«الشرق الأوسط»، أن سياحة الإقليم شهدت انخفاضا كبيرا بعد أحداث الموصل، حيث انخفضت بنسبة 60 في المائة عما كانت عليه قبل تلك الأحداث الأخيرة، مشيرا إلى أن السياحة الداخلية للإقليم التي كانت تعتمد على سياح عراقيين قادمين من جنوب العراق ووسطه تضررت بفعل انقطاع الطرق بين بغداد وأربيل وأصبحت شبه مشلولة حاليا، مؤكدا أن الإقليم لا يستطيع فعل شيء وهم في انتظار انفراج الوضع الأمني بالعراق.
قضاء شقلاوة الذي يقع على بعد 50 كلم شمال مدينة أربيل، يعد واحدا من أكثر أقضية أربيل التي تؤوي أعدادا كبيرة من النازحين خاصة نازحي الفلوجة والأنبار، عشرات العوائل العراقية تقطن هذا القضاء وتزاول أعمالا يومية لسد حاجاته، منتظرة انفراج الوضع للعودة إلى مدنها التي حرمت منها بسبب الوضع الأمني المتردي وانعدام الخدمات.
شقلاوة التي كانت بالأمس أهم المصايف في العراق وكردستان كانت هذا العيد خالية من السياح الذين كانوا يملأون شارعها وسوقها كل صيف، فزائرها الآن لا يرى سوى نازحين يعيشون في بيوتها وفنادقها ومنتجعاتها.
عائلة ضياء جميل واحدة من العوائل العربية التي نزحت من قضاء الفلوجة إلى إقليم كردستان واستقرت وسط شقلاوة، لتبدأ حياة جديدة في ظل الأمن والاستقرار الذي حرمت منه في الأنبار. يقول ضياء، (30 سنة): «أنا متزوج منذ عشر سنين وأعيش في بيت والدي الذي يعمل شرطيا بالفلوجة، قبل أن تبدأ الأحداث الأخيرة تركنا الفلوجة وجئنا إلى هنا خوفا من سيطرة المسلحين على المدينة، لأن أبي شرطي والمسلحون يبحثون عن منتسبي الشرطة».
وأشار جميل إلى أنه يعمل في أحد المقاهي وسط شقلاوة، ليعيل عائلته، وأضاف: «أعمل في هذا المقهى منذ أن قدمنا إلى شقلاوة، أتلقى أجرا يوميا يبلغ 30 ألف دينار عراقي، لأعيل عائلتي التي تتكون من تسعة أشخاص. أجرنا بيتا بنحو 500 دولار ونعيش فيه كلنا مع أنه يتكون من غرفتين وصالة ضيوف، إلا أننا تأقلمنا مع الوضع الراهن». ويشير جميل: «أهالي أربيل بشكل عام، وشقلاوة خاصة، يعاملوننا بشكل جيد فهم طيبون ويساعدون الغرباء والمحتاجين وكريمون كل الكرم، حتى محلات المنطقة تتعامل معنا بشكل مختلف؛ رخصوا لنا بضائعهم، وحتى إيجاراتهم رخصوها لنا نحن النازحين، نحن مرتاحون في كردستان، لكننا نريد العودة إلى مدننا».
شيماء كاظم مواطنة عراقية شيعية من بغداد، تسكن منذ سنوات وسط أربيل في أحد أحياء هذه المدينة المكتظة بالنازحين العرب، وهو حي الجامعة 99، تقول: «أنا في منزل أجرته بـ700 دولار، زوجي يعمل محاسبا في إحدى شركات السياحة بأربيل، أوضاعنا المادية جيدة، لكن قدوم عدد كبير من النازحين في الأيام الماضية أثر في الوضع الاقتصادي هنا، وأدى إلى غلاء في أسواقها وإيجارات المنازل، نتمنى أن تصبح الأوضاع جيدة، أنا لا أعود إلى بغداد لأن وضعنا المعيشي هنا جيد».
الفنادق والمنتجعات وقاعات المناسبات والكنائس والمساجد والمراكز الثقافية والحدائق العامة وحتى بعض المدارس مشغولة الآن بالنازحين، الذين تقول هيئة السياحة في الإقليم إنهم يقطنون في كل الأماكن، لكنها أشارت إلى أن فنادق النجمة الواحدة والنجمتين كانت الأماكن الأكثر استقطابا للنازحين.
الهيئة العامة للسياحة في إقليم كردستان، الجهة المشرفة بشكل مباشر لى السياحة في كردستان، مع أنها أكدت انخفاض النسبة، إلا أنها امتنعت عن الإفصاح عن أي أرقام.
وقال مولوي جبار، رئيس هيئة السياحة في كردستان، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الأوضاع الأخيرة أثرت بشكل سلبي في السياحة بالإقليم، نسبة السياح الداخلين من مناطق العراق الأخرى تأثرت بالأوضاع الأخيرة في الموصل، أما السياحة الخارجية فلم تتأثر بشكل كبير، لكن حقيقة نحن كنا نعتمد على السياحة الداخلية أكثر من الخارجية، قبل أحداث الموصل كان هناك ارتفاع في نسبة السياحة في الإقليم بمستوى ثمانية في المائة عن العام الماضي، وسجلنا خلال الأشهر الأولى من عام 2014 الحالي أكثر من مليون سائح في أربيل، لكن خلال شهر يوليو (تموز) الماضي كان هناك انخفاض في نسبة السياحة الداخلية، لكن أتحدث عن نسبة الانخفاض».
وأشار جبار إلى أن الإقليم استقبل بعد أحداث الموصل النازحين بدلا من السياح، مبينا أن هؤلاء النازحين يسكنون في الشقق والموتيلات والفنادق السياحية، وأثر هذا تأثيرا كبيرا في السياحة بكردستان، مشددا بالقول: «نحن إزاء واقع لا يمكن الهرب منه قط».
وأضاف أن الوزارة والهيئة تخططان للنهوض بالواقع السياحي الحالي وتعويض النقص الحاصل بسبب أوضاع العراق عن طريق تشجيع السياحة من إيران وتركيا إلى مناطق إقليم كردستان، وقال: «نحن بصدد تنظيم عدة مؤتمرات سياحية كبيرة في تركيا وإيران لتشجيع الشركات السياحية في البلدين لتنظم رحلات سياحية إلى الإقليم وجذب السياح إلى كردستان، وخططنا لذلك فعليا، لكن ننتظر الوقت المناسب لتنظيمها».
وحول نشاطات أربيل عاصمة السياحة العربية لعام 2014، أكد رئيس هيئة السياحة في إقليم كردستان أن النشاطات كافة متوقفة حاليا بسبب الحصار المفروض من قبل بغداد على الإقليم، مشيرا إلى أن أربيل ستستأنف نشاطاتها السياحية مع انفراج الوضعين الأمني والسياسي في العراق.
بدوره، يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة صلاح الدين في أربيل، إن مجيء هذه الأعداد الهائلة من النازحين إلى أربيل تسبب في ضغط اقتصادي كبير على الإقليم. وقال الدكتور صباح خوشناو، أستاذ الاقتصاد بجامعة صلاح الدين، في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «أثر مجيء هذا العدد الهائل من النازحين على الناحية الاقتصادية والمالية للإقليم»، وأضاف: «في الوقت ذاته، لها إيجابيات من الناحية الاقتصادية، لأن هؤلاء يحركون السوق ويزيدون الحركة الشرائية في الإقليم وتدخل مبالغ مالية كبيرة إلى الإقليم، ومن ثم تدور هذه المبالغ داخل الإقليم، ويزداد الطلب، لكن من جهة أخرى هؤلاء بحاجة إلى خدمات ومساعدة، خاصة الذين لا يملكون الإمكانية المالية الكافية والذين جرى إيواءهم في المخيمات من نازحي الموصل وصلاح الدين وديالى». وتابع: «هذا يشكل ضغطا إضافيا على إقليم كردستان الذي يجب أن يؤسس لهم المخيمات ويزودها بالخدمات اللازمة والوقود، خاصة ونحن مقبلون بعد شهور على الشتاء، وخاصة في الوقت الذي يشهد الإقليم حصارا اقتصاديا من قبل بغداد».
وأضاف خوشناو أن أربيل تحولت بفضل هذه الظروف ومع الأسف من عاصمة للسياحة إلى عاصمة للنازحين: «في ظل الظروف غير المتوقعة التي يشهدها العراق من الناحية السياسية والعسكرية وسيطرة (داعش) على عدد من المدن العراقية، إذن هذه الظروف أدت إلى أن تتحول أربيل من مدينة يقصدها السياح من المناطق كافة في العالم إلى منطقة تستقبل النازحين، وهذا ما نلاحظه يوميا، حيث نرى المئات من هؤلاء القادمين إلى أربيل خوفا من (داعش)، بالإضافة إلى زيادة ظاهرة التسول من قبل اللاجئين السوريين في المدينة، كل هذا أثر على السياحة في أربيل، وكان هذا من سوء حظها، ففي حين اختيرت عاصمة للسياحة العربية واجهت المنطقة هذه الأزمات الكبيرة».
واستبعد هذا الخبير الاقتصادي أن ينهض الإقليم بسرعة من الأزمة الحالية، خاصة أنه يئن تحت وطأة الحصار، وأضاف: «حكومة الإقليم تواجه أزمة اقتصادية وضغطا كبيرا بسبب قطع ميزانيتها من بغداد، فهي توزع شهريا نحو 850 مليار دينار رواتب للموظفين فقط، وهذا المبلغ يعتمد الإقليم في تحصيله على الموارد الداخلية، الأمر الذي أدى إلى تأخير توزيع هذه الرواتب في أوقاتها المحددة، وهذا يشكل ضغطا هائلا على نواحي الحياة الأخرى في الإقليم، وأكثر المشاريع الخدمية في الإقليم توقفت الآن، فالميزانية الاستثمارية توقفت تماما، ومن ناحية الميزانية التشغيلية هناك حالة التقشف التي أعلنتها حكومة الإقليم للخروج من الأزمة الحالية، إذن حكومة الإقليم لا تمتلك أي بديل أو خيار لحل هذه الأزمة التي تواجهها، والحل الوحيد هو انتظار الانفراج الذي من المحتمل أن يستغرق ستة أشهر أخرى، اعتمادا على التنبؤات الاقتصادية بزيادة تصدير النفط مع بدء عام 2015 وكذلك انفراج الأوضاع في العراق».



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.