سكان «نقادة» يتمسكون بإحياء نسيج «الفركة» في جنوب مصر

منتجاتهم من السجاد تحظى بسمعة عالمية

المصحح: أحمدحسن
المصحح: أحمدحسن
TT

سكان «نقادة» يتمسكون بإحياء نسيج «الفركة» في جنوب مصر

المصحح: أحمدحسن
المصحح: أحمدحسن

تعتبر مدينة نقادة، التابعة لمحافظة قنا (جنوب القاهرة)، واحدة من أهم مراكز صناعة النسيج اليدوي في صعيد مصر، فمنذ عشرات السنين، كان يقام سوقها صباح كل سبت، كأنه عيد لأصحاب الأنوال، وفي موعده يأتي تاجر «الفركة» بميزانه ودفتره لحساب ما تم إنتاجه من شيلان وأقمشة حريرية، ويبدلهم مكانها خيوطاً جديدة لإنتاج المطلوب، بعد أن يدفع لهم أجر العمل، ثم يرسل ما تحصل عليه من منسوجات إلى السودان حيث تشهد رواجاً كبيراً هناك.
ويقول الفنان برسوم الحلبي، أحد أبناء هذه الصناعة التراثية لـ«الشرق الأوسط»: «التحقت بهذه الحرفة منذ عشر سنوات، وكان لا بد من التطوير لإخراجها من حالة الكساد التي تمر بها، وحاولت إدخال تصميمات جديدة لا تتوقف عند حدود العمل النسجي».
وذكر الحلبي أنه بعد أن قطع شوطاً في مجال صناعة الفركة ونسجها، عمل لدى تاجر كان يشتري من النساجين إنتاجهم، لكنه منذ سبع سنوات قرر أن يكون له مشروعه الخاص، ليستفيد من موهبته في التصميم وقدراته على تطوير خطوط الأقمشة وأشكالها، وألوانها، مع عدم الاكتفاء بإنتاج «الفركة السوداني» و«الحبرة الإسناوي» السوداء التي كانت ترتديها أغلب نساء قنا والأقصر.
ولفت حلبى، الذي درس الفن في إحدى كليات التربية بجنوب مصر، إلى أنه يجمع حالياً بين الإنتاج والتسويق مستفيداً من صلته الوثيقة مع عدد من التجار الأجانب بعد أن صار خبيراً بما يفضلونه من أقمشة ومنتجات يدوية، «لم أتوقف عند حدود الدراسة فقط، لكنني استفدت كثيراً من زملائي الفنانين نساجي الفركة، كان هدفي منذ البداية أن أقدم شيئاً جديداً يتجاوز فكرة الشال، والتوب الإسناوي».
أما جميان دوس، الذي يتجاوز عمره اثنين وثمانين عاماً فيعمل في صناعة الفركة منذ أكثر من سبعين حولا، فقد بدأ تعلمها وهو في الثانية عشرة، ولم ينس أن يتحدث عن معلمه، ما زال يتذكر حتى الآن، أستاذه الأول لبيب حبيب، الذي عرف أسرار الفركة على يديه، يصفه بأنه عمه في المهنة. اشتغل دوس في معية أربعة من كبار صناع نقادة، واستمر يعمل لدى أحدهم ثلاثين عاما متواصلة، كانوا يقدمون أنواعاً متعددة من الفركة مثل «أبو صفيحة» و«النملة»، و«مكاكي»، وجميعها من الحرير الطبيعي، يرسلونها عن طريق المراكب النيلية القريبة من منازل المدينة الضاربة بجذورها في عمق التاريخ إلى أم درمان السودانية، عبر مسافة تزيد على ألف و300 كيلومتر، كانت تقطعها السفن في عدة أيام.
من جهتها، قالت منى مكين لـ«الشرق الأوسط» إنها تعلمت فن الفركة منذ أربعين عاما تقريباً من جارتها (حياة) التي تسكن بالقرب من شاطئ النيل، كان عمرها في ذلك الوقت لم يتجاوز الخامسة عشرة، بعدها عملت لدى ستة من التجار الكبار الذين كانوا يأتونها بالخيوط لتتولى هي تحويلها إلى شيلان، لكنها لم تبدأ في صناعة الأثواب إلا منذ ثماني سنوات، بعدما طلب منها المهندس برسوم حلبي ذلك، هو يقوم بإعطائها التصميمات، لتقوم بتنفيذها، حيث تصنع أربعة «أتواب» في الأسبوع، يتراوح الواحد منها بين خمسة عشر إلى عشرين مترا.
وذكرت مكين، بابتسامة تغزو شفتيها، أنها كانت تحصل على ثمانين قرشاً في الشال حين تعلمت الصناعة، لكنها الآن تتحصل في الثوب على ما يرضيها، وتعمل على نقل فنون الفركة لغيرها من سيدات نقادة، حتى لا تندثر مهنة أجدادها، وحتى تكتسب جاراتها وقريباتها مهنة توفر لهن مورد رزق، ويستفدن أيضاً من أوقات فراغهن ولا يعانين من البطالة التي وصلت بين النساء حسب التعداد الذي أجراه الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في عام 2017 إلى 75 في المائة من حجم البطالة في مصر، حسب ما صرح رئيس الجهاز في مايو (أيار) من العام قبل الماضي.
من جهته، قال حازم توفيق مدير «مركز الفركة والسجاد»، الذي أُنشئ في نقادة منذ 12 سنة، بغرض الحفاظ على الحرفة التراثية من الاندثار، وتوفير فرص عمل للفتيات ليكون مصدر دخل دائم لهن، وذكر توفيق أن «المركز يضم 40 فتاة تعمل على الأنوال، وفي الأعمال المساعدة مثل تجهيز الخيوط».
وذكر توفيق أن أسعار الشيلان تبدأ من 35 جنيها، (نحو دولارين أميركيين)، أما السجاجيد فتبدأ من 170 جنيها، وربما يشجع هذا الرواج الذي تشهده «منسوجات الفركة» الأهالي في نقادة للعودة إلى الإنتاج، وبث الروح في أنوالهم من جديد، فقد كان كل منزل يضم في القديم أكثر من نول، وكان معظم أفراد الأسرة يعملون منذ الصباح المبكر وحتى قبيل غروب الشمس، لكن توفيق يكشف عن أنه لم يعد في المدينة كلها التي يسكنها 25 ألف شخص، سوى 250 نولا فقط، والسبب عدم تطوير المهنة وتدني أجر الصنَّاع.
وذكر توفيق أن منتجات الفركة تصدر إلى كل من ألمانيا، وأميركا، وسويسرا، ولندن، كما تذهب إلى القاهرة وعدد من المدن السياحية التي تروج فيها الحرف اليدوية مثل الأقصر والغردقة وأسوان ودهب والإسكندرية.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».