أدى الأعضاء الجدد في الكونغرس اليمين الأميركي بالأمس اليمين الدستورية لتولي مناصبهم. وكان بينهم توليفة من الوجوه التي شكل وصولها إلى مجلس النواب، خاصة، رداً على التيار المحافظ الذي حقق انتصاره الأكبر عبر فوز دونالد ترمب بالرئاسة قبل سنتين. وضمت هذه التوليفة أعداداً متزايدة من النساء والمثليين وممثلي الأقليات العرقية والدينية، ناهيك من الجماعات الراديكالية التي ضمت ناشطين يصفون أنفسهم علانية بـ«اليساريين» أو «التقدميين» أو «الاشتراكيين». وكانت حظوظ هؤلاء قد انتعشت، فخرجوا من «الظل» عبر تحدّي السيناتور اليساري بيرني ساندرز الوزيرة والسيناتورة السابقة هيلاري كلينتون على ترشيح الحزب الديمقراطي ضد ترمب في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 2016. هذا التطور تزامن مع إعلان أول شخصية قيادية في الحزب الديمقراطي نيتها خوض معركة الرئاسة المقبلة في نوفمبر 2020. وبالفعل، كانت هذه الشخصية السيناتورة إليزابيث وارين، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية ماساتشوستس، وهي بجانب كونها امرأة، فإنها تعد اليوم ضمن التيار الليبرالي «التقدمي» المتشدد في عدائه السياسي لترمب ولحزبه الجمهوري، مع أنها أصلاً كانت عضواً في الحزب الجمهوري وظلت فيه حتى العام، كما أنها أصلاً من ولاية أوكلاهوما المحافظة التي تعد حاليا من معاقل الجمهوريين الانتخابية.
يجمع راصدو المشهد السياسي في الولايات المتحدة على أن «المعسكر الديمقراطي» لا يفتقر إلى الكفاءات المؤهلة لخوض الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة المتوقعة عام 2020. ولعل الانتخابات النصفية التي أجريت في نوفمبر (تشرين الثاني) قد زادت حدة التنافس بين الحزبين الكبيرين، أي الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي. إذ استطاع الجمهوريين، رغم توقع كثيرين أن تؤدي سياسات الرئيس دونالد ترمب الراديكالية لنفور كثرة من الناخبين المعتدلين منهم، ليس فقط الاحتفاظ بغالبيتهم في مجلس الشيوخ، بل تعزيز غالبيتهم فيه. وبالتالي، خاب أمل أولئك الذين توقعوا «انقلاباً» داخل «المؤسسة الحزبية» على خط ترمب وتياره اليميني المتشدد.
وفي المقابل، تمكّن الديمقراطيون من تحقيق انتصارات كاسحة في مجلس النواب، مستعيدين السيطرة عليه بعد سنوات كثيرة. ومن ثم، أطلقوا لأنفسهم «قوة دفع» مهمة عبر وجوه جديدة وتيارات شابة ديناميكية تعكس التبدّلات الحاصلة في المجتمع الأميركي يساراً ويميناً. وكان لافتاً أن عدداً من الوجوه الجديدة التي برزت، سواء في مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، تمثل أساساً المكوّنات والكتل التي استهدفتها وتستهدفها ظاهرة ترمب. وهذا ما فسّره الراصدون والمحللّون بأنه بدايات رد فعل قد يرسم ملامح المرحلة المقبلة على الساحة السياسية الأميركية.
استقطاب آيديولوجي
ردّ الفعل هذا «آيديولوجي» لا لبس فيه ولا تقاطعات. وحقاً، ثمة قناعة باتت الآن أثبت أكثر من أي وقت مضى، بأنه ما عاد هناك سياسي جمهوري واحد على «يسار» الديمقراطيين... ولا ديمقراطي واحد على «يمين» الجمهوريين. وبناءً عليه، مع افتتاح السيناتورة إليزابيث وارين (ولاية ماساتشوستس) ترشيحات الديمقراطيين لمعركة 2020، يغدو «السيناريو» المرتقب للمنافسة على تمثيل الحزب الديمقراطي محصوراً بأمرين اثنين: الأول هو اختلاف المزاج والطبع الشخصي بين المرشحين. والثاني هو الأسلوب الأمثل - أو حتى المقاربة المثلى - الذي ينوي كل مرشح اعتماده في الصراع مع حزب جمهوري تقوده الطروحات الشعبوية الراديكالية المتشدّدة.
السيناتورة وارين تُعدّ في طليعة مرشحي ما يمكن اعتباره تيار المواجهة والصدام «اليساري» مع ظاهرة دونالد ترمب. وهي أكاديمية ومحامية وسياسية نشطة لم تتردد لحظة منذ بروزها اللافت في مجلس الشيوخ، بل حتى قبل ذلك، في تبني خطّ صريح لا مواربة فيه، تحت شعارات العدالة الاجتماعية والتسامح والانفتاح والنزاهة المالية والمساواة العرقية. ومن أهم بصماتها على الصعيد المطلبي دفعها النشيط والدؤوب لتأسيس «مكتب الحماية المالية للمستهلك».
بطاقة هوية
ولدت إليزابيت هيرينغ، وهذا هو اسمها الأصلي قبل الزواج، يوم 22 يونيو (حزيران) 1949 في مدينة أوكلاهوما سيتي عاصمة ولاية أوكلاهوما وكبرى مدنها. وهي الولد الرابع الأصغر والبنت الوحيدة لعائلة بروتستانتية تتبع الكنيسة النظامية من الطبقة المتوسطة. وكان أبوها (توفي عام 1997) يعمل في قسم المبيعات في سلسلة متاجر مونتغمري وارد. وحسب ابنته، يتصل نسبه بأصول أميركية أصلية (هندية حمراء)، مع العلم أن ولاية أوكلاهوما تعد من أهم مواطن الأميركيين الأصليين بين الولايات الأميركية، وأسست خصيصاً من أجلهم.
عاشت إليزابيث في مدينة نورمان الجامعية الصغيرة القريبة من أوكلاهوما سيتي حتى سن الـ11 من عمرها، قبل أن تنتقل العائلة إلى العاصمة القريبة. وبسبب معاناة أبيها من أزمة قلبية اضطرت لدخول سوق العمل باكراً لمساعدة عائلتها ماديا، بالتوازي مع متابعتها دراستها، حيث تفوقت خصوصاً في المناظرات. بل أدى هذا التفوق الذي توّج بفوزها ببطولة المدارس في المناظرات، ولاحقاً إلى ظفرها - وهي في سن السادسة عشرة - بمنحة جامعية إلى جامعة جورج واشنطن الخاصة المرموقة في العاصمة واشنطن. في تلك المرحلة كان حلم إليزابيث أن تغدو مدرّسة، بيد أنها بعدما أنهت سنتين من الدراسة الجامعية في واشنطن تزوّجت من زميل الدراسة الثانوية جيم وارين، وانتقل الزوجان الشابان إلى مدينة هيوستن بولاية تكساس حيث عملت في شركة آي بي إم. وفي تكساس، التحقت إليزابيث بجامعة هيوستن وتخرّجت فيها بدرجة البكالوريوس في العلاج النطقي والسمعي، ولمدة سنة عملت في تعليم الأطفال من ذوي الحاجات التعليمية الخاصة بإحدى المدارس الحكومية. بعدها انتقل الزوجان إلى ولاية نيوجيرسي المتاخمة لمدينة نيويورك، بسبب ظروف عمل الزوج. وفي هذه الفترة تفرّغت للأمومة بعدما رزقت ببنت سمتها إميليا، غير أن طموحها العلمي دفعها لمتابعة دراساتها العليا بعد بلوغ طفلتها السنتين. وبالفعل التحقت بكلية الحقوق في جامعة رتغرز (جامعة نيوجيرسي الحكومية) بفرعها في مدينة نيوآرك.
تخرّجت بشهادة القانون عام 1976. وقبل ذلك رزقت بمولودها الثاني ألكسندر. لكن الطلاق وقع بين إليزابيث وجيم في عام 1978، ولم تلبث أن تزوجت للمرة الثانية مع أستاذ القانون بروس مان، لكنها احتفظت - وهي اليوم جدة - باسمها من زواجها الأول حتى اليوم.
الأكاديمية والسياسية
انطلقت إليزابيث وارين في المرحلة التالية من حياتها في المجال الأكاديمي أولاً، ثم المجال السياسي. وتنقلت بين جامعة تكساس وجامعة بنسلفانيا وجامعة هارفارد أستاذة ثم أستاذة كرسي للحقوق، متخصصة في القانون التجاري والمالي، وخاصة، الإفلاسات.
وفي عام 1996، تحوّلت قناعاتها السياسية وتركت الحزب الجمهوري لتغدو ناشطة ديمقراطية. ولمع نجمها بصفتها أستاذة قانون متميزة ومرجعا كبيرا في تخصصها، كما نشطت من واقع اهتمامها المهني وخلفيتها الأكاديمية بحماية حقوق المستهلكين، والاقتصاد الأميركي، والتمويل.
وبعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 اختيرت رئيسة للجنة الكونغرس الرقابية المكلفة الإشراف والرقابة على «برنامج إغاثة الموجودات» (تارب). ولاحقاً عينت مساعدا لرئيس الجمهورية ومستشاراً خاصة لوزير الخزانة لشؤون «مكتب الحماية المالية للمستهلكين» في عهد الرئيس السابق باراك أوباما.
دخول مجلس الشيوخ
في عام 2011 أعلنت إليزابيث وارين ترشحها لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية ماساتشوستس عن الحزب الديمقراطي ضد السيناتور الجمهوري سكوت براون، الذي فاز بانتخابات لملء المقعد الشاغر بوفاة السيناتور المخضرم إدوارد كنيدي.
وفي انتخابات نوفمبر 2012، التي حصلت قبلها على ترشيح الديمقراطيين بالتزكية من دون منافسة، فازت بالانتخابات متغلبة على براون، جامعة ما نسبته 53.7 في المائة من الأصوات لتغدو أول امرأة تمثل ماساتشوستس في مجلس الشيوخ. وبعد دخولها، انضمت لعدد من اللجان المؤثرة وذات الصلة باهتماماتها الإنسانية والقانونية والمالية، ولا سيما تلك التي تتعلق بالمعوزين والمسنّين والصحة والتعليم والطبقة العاملة.
وبفضل نجاحاتها، وقوة أدائها، جدّدت فوزها بفارق مريح يزيد على 60 في المائة في انتخابات مجلس الشيوخ في خريف 2018، وباتت من شخصيات الحزب الديمقراطي التي يُحسب حسابها، لا سيما، في مواجهة الرئيس دونالد ترمب.
عن تحوّلها السياسي في عام 1996، مع أنها صوّتت لأول مرة للديمقراطيين قبل سنة في عام 1995، قالت وارين في حديث صحافي «كنت جمهورية لأنني كنت أظن أن الجمهوريين هم أفضل من يدعمون الأسواق». وحسب قولها فإن هذا الأمر ما عاد صحيحاً باعتقادها، بل إن الحزب الجمهوري «ما عاد حزباً ملتزماً ومبدئياً في نهجه المحافظ للاقتصاد والأسواق، إذ بات - كما ترى - ميالاً لاسترضاء المؤسسات المالية الكبرى على حساب أبناء العائلات الأميركية من الطبقة المتوسطة». لكنها، مع هذا، ومع تسارع ميلها إلى مواقع اليسار الصريح، ترى أنه لا يجوز أن يسيطر أي من الحزبين على المشهد السياسي بالكامل.
الانتخابات الرئاسية الأخيرة
قبيل الانتخابات الرئاسية، أعلنت وارين أنها لا تنوي خوض الانتخابات التمهيدية للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي، على الرغم من أن بعض مناصريها طرحوا اسمها. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2013 كانت واحدة من 15 امرأة من أعضاء مجلس الشيوخ وقعن بياناً دعمن فيها ترشح وزيرة الخارجية والسيناتورة السابقة هيلاري كلينتون، زوجة الرئيس الأسبق بيل كلينتون. وبعد كلام كثير عن احتمال اختيارها لتكون المرشحة لمنصب نائب الرئيس، أعلنت وارين رسمياً دعمها الكامل لهيلاري كلينتون. وشاركت بقوة وهمّة في حملات كلينتون الانتخابية.
خوض انتخابات 2020
وهكذا، لدى النظر إلى مسيرة هذه السياسية اللامعة، والطموح أيضاً، كان كثيرون يتوقعون أن يكون اسمها بين الأسماء التي تفرض نفسها على ترشيحات الديمقراطيين لمعركتهم التالية الكبرى ضد الجمهوريين... وسياسات دونالد ترمب.
كان أول الغيث في تلميح لها في أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي ببلدة هوليوك في ماساتشوستس، عندما قالت إنها «ستنظر جدياً» في احتمال الترشح. ولكن الانتظار لم يطل كثيراً. إذ في آخر أيام 2018، يوم 31 ديسمبر (كانون الأول)، أعلنت وارين أنها بصدد تشكيل «لجنة استكشافية» حول ترشحها للانتخابات الرئاسية... وهي الخطوة العملية الحقيقية لافتتاح أي حملة انتخابية على هذا المستوى. وبذا، باتت أول شخصية ديمقراطية تعلن دخولها الحلبة.