«لعنة جيش فاغنر» تلاحق الساعين إلى فتح ملفات المرتزقة في سوريا

معطيات عن «تمدد» نشاط الجيش الروسي الخاص إلى السودان وليبيا

صورة نشرها موقع روسي لعناصر من {جيش فاغنر} في دير الزور
صورة نشرها موقع روسي لعناصر من {جيش فاغنر} في دير الزور
TT

«لعنة جيش فاغنر» تلاحق الساعين إلى فتح ملفات المرتزقة في سوريا

صورة نشرها موقع روسي لعناصر من {جيش فاغنر} في دير الزور
صورة نشرها موقع روسي لعناصر من {جيش فاغنر} في دير الزور

أشعل تعليق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أخيراً، حول نشاط التشكيلات الخاصة الروسية التي قاتلت في سوريا منذ عام 2015، وباتت معروفة باسم «جيش فاغنر»، النقاشات مجدداً حول مدى سطوة وقوة وحدات المرتزقة التي عكس نشاطها تغلغل الأصابع الخفية الروسية في أزمات وحروب خارجية، على مدى السنوات الست الأخيرة.
ومع حروب الكرملين المعلنة في أوكرانيا وسوريا، فإن خريطة انتشار «الجيش السري» كانت أوسع بكثير وشملت بلداناً لا وجود عسكرياً مباشراً لروسيا فيها، مثل جمهورية أفريقيا الوسطى. وهذه الخريطة تتجه إلى أن تتسع أكثر، إذ تبدو بلدان جديدة تعاني أزمات وحروباً، وفيها ثروات تسيل اللعاب مرشحة لأن تكون الوجهات الجديدة للمرتزقة الذين تقترب مهمتهم في سوريا من الانتهاء، مع استكمال المرحلة الأخيرة لفرض القبضة الروسية في شمال البلاد وشرقها، في حال نفذت الولايات المتحدة قرارها بالانسحاب من المنطقة.
بوتين أشعل النقاشات بتعليق صغير رداً على سؤال في مؤتمره الصحافي السنوي، حول نشاط «جيش فاغنر» خارج الحدود. قال الرئيس إنه لا يمكن أن يحظر «الشركات الأمنية الخاصة» في البلاد، لأن ثمة مليون شخص يعملون فيها. أما بالنسبة إلى نشاطها «خارج روسيا» فهذا أمر يتعلق بمصالحها. و«إذا كانت لا تخالف القوانين الروسية، فمن حقها أن تعمل في أي مكان في العالم». وزاد أنه يمكن أن تحقق النيابة العامة الروسية في نشاط الشركات الخاصة إذا برزت مخالفات لديها.لم يمر وقت طويل بعد ذلك، حتى أعلنت النيابة العامة الروسية أنها «لا يمكن أن تفتح تحقيقاً في نشاط هذه الشركات بسبب عدم وجود أي جهة مشتكية».
هكذا حُسِم الملف. لا توجد جهة ادعاء، وبالتالي لا مبرر لفتح تحقيق في نشاط جيش فاغنر في سوريا أو غيرها. لكن سرعان ما أثارت هذه العبارات غضب معارضين ومعلقين رأوا أنه «لا توجد جهة ادعاء، لأن كل من يحاول فتح هذا الملف تصيبه لعنة فاغنر، من الصحافيين الذين قُتلوا أو لوحقوا في مناطق مختلفة إلى الباحثين والدارسين الذين وجدوا أنفسهم في السجن بتهمة محاولة إفشاء أسرار الدولة».

موت صحافيين بظروف غامضة
على مدى العامين الأخيرين تعرض عشرات الصحافيين إلى ملاحقات أو مضايقات وصلت إلى موت بعضهم في ظروف غامضة. الجامع بينهم أنهم حاولوا الاقتراب من هذه المنطقة الغامضة والمخيفة: دور ونشاط التشكيلات العسكرية الخاصة في الحروب الخارجية.
هذا ما حدث مع الصحافي الروسي مكسيم بورودين، الذي «انتحر» فجأة في مدينته يكاتيرنبورغ في أبريل (نيسان) الماضي، بعدما قفز من شرفة منزله في الطابق الخامس. وكان يمكن للحادث أن يمر سريعاً ولا يلفت الأنظار، لولا أن اسم «المنتحر» برز بقوة في قضية نشاط «فاغنر» في سوريا؛ فقد كان أول من كشف تفاصيل كاملة عن حادثة تعرض وحدات من المرتزقة الروس، الذين كانوا يقاتلون قرب تدمر، لقصف أميركي مركّز يوم السابع في فبراير (شباط) الماضي، على قافلة ضمن 3 وحدات من هذا الجيش كانت تقترب من موقع نفطي قرب دير الزور. وأسفر القصف عن مقتل 217 منهم، وفقاً لتأكيدات صدرت لاحقاً.
وأثار الموت الغامض لبورودين شكوكاً كثيرة لدى الأوساط القريبة منه، ولدى منظمة «مراسلون بلا حدود» التي طالبت بتحقيق جاد وشفاف. بينما قالت رئيسة تحرير «نوفي دين»، بالينا رومانتسيفا، إن مكسيم الذي عمل للصحيفة «كان نشطاً ومحباً للحياة، ولا دوافع لديه كي ينتحر»، وأعربت عن شكوك بسير التحقيقات، ونبّهت إلى أن «موته ليس مجرد حادث، ثمة من ساعد في إظهاره كأنه انتحار»، علماً بأن بورودين الذي تبنى موقفاً مناهضاً للتدخل الروسي في سوريا منذ بدايته، تعرض لوابل من التهديدات في السابق بسبب مواقفه، ونجا بأعجوبة من موت محقق في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بعدما اعتدى مجهولون عليه مستخدمين قضباناً حديدية، بعد مرور وقت قصير على إجرائه مقابلة تلفزيونية مع محطة «دوجد» المعارضة تحدّث فيها عن الوضع في سوريا.
اللافت أن مواقع روسية كانت قد أشارت بعد حادثة «جيش فاغنر» إلى تعرض عدد من الصحافيين الذين تابعوا الموضوع لمضايقات متنوعة. ووجه بعض ناشطي «الجيش» تهديدات مباشرة عبر مواقع إلكترونية إلى «مَن يحاولون الإساءة إلى المقاتلين الذين سقطوا في معركة»، في إشارة إلى ضحايا الهجوم الأميركي قرب دير الزور.
هكذا تعرضت شبكة «فانتانكا» في سان بطرسبورغ التي تابعت ملف قتلى «فاغنر» وأجرت مقابلات مع ذويهم في روسيا، لوابل من التهديدات، وأضيفت إلى «لائحة سوداء»، ظهرت على شبكة الإنترنت تضم «عملاء» و«طابوراً خامساً».
وفي أكتوبر الماضي، تعرضت صحيفة «نوفاي غازيتا» إلى سيل من التهديدات، بينها وضع أكاليل جنائزية على باب المؤسسة المعارضة، مع أقفاص فيها خراف وبطاقات كُتبت عليها أسماء صحافيين فتحوا ملف «جيش فاغنر». وتعرض لتهديد مماثل في الفترة ذاتها، الصحافي دينيس كوروتكوف الذي وُصف في بطاقة أرسلت إلى مقر عمله في تلفزيون «الجديد»، بأنه «خائن»، قبل أن يقوم مجهولون بإرسال باقة تحتوي على عدد زوجي من الزهور (في إشارة إلى الموت) إلى منزله، حيث تم تسليمها إلى زوجته مرفقة ببطاقة عليها عبارة «لن ننساك». وكوروتكوف هو صاحب تحقيقات رنانة، درس لفترة طويلة إمبراطورية رجل الأعمال يفغيني بريغوجين المقرب من بوتين، الذي يدير أنشطة الشركات العسكرية الخاصة الروسية.

وللباحثين نصيب
لكن تلك الملاحقات والتهديدات الخفية لم تقتصر على صحافيين تابعوا نشاط «جيش فاغنر» في سوريا، بل وصلت إلى باحثين في مراكز مرموقة للدراسات الاستراتيجية، مثل فلاديمير نيلوف الذي يقبع حالياً في السجن بعد توجيه تهمة إفشاء أسرار الدولة والتخابر مع جهات أجنبية ضده، بداية الشهر الماضي. ونيلوف هو خبير عسكري كان يظهر على شبكات التلفزة الحكومية ويقدم تعليقات على الأحداث لمؤسسات إعلامية كثيرة داخل روسيا وخارجها، وعمل في «مركز البحث الاستراتيجي» كمتخصص في دراسة الشركات العسكرية الخاصة، وخصائص الحروب الحديثة، والعقائد والاستراتيجيات العسكرية، والثورات المسلحة وظاهرة «خصخصة المجال العسكري». وهو مؤلف كثير من الأعمال في مجال البحث الاستراتيجي والتحليل العسكري السياسي، لكن الخطأ «الاستراتيجي» الذي أوقعه أنه كرس جزءاً من دراساته المنشورة لمتابعة نشاط «جيش فاغنر».
قبل ذلك، وتحديداً في أغسطس (آب)، لقي ثلاثة صحافيين روس مصرعهم في أفريقيا الوسطى خلال محاولتهم إجراء تحقيق حول نشاط الشركات العسكرية الروسية الخاصة في هذا البلد. قتل الصحافيون على أيدي مجموعة مسلحة قطعت طريق موكبهم وفتحت نيراناً عليهم. وأعلنت الأجهزة الخاصة الأوكرانية في وقت لاحق أن لديها لائحة تضم عشرة أسماء من مقاتلي «فاغنر» دخلوا إلى أفريقيا الوسطى ونفذوا «عملية الاغتيال»، لكن الكرملين اعتبر الاتهامات «سخيفة» وقال إنه لا يوجد دليل على تورط المجموعات الخاصة الروسية بهذه الجريمة.
مهما كانت الحقيقة في مقتل الصحافيين في هذا البلد الأفريقي؛ فهي فتحت الباب للحديث عن انتشار نشاط «جيش فاغنر» في مناطق جديدة، وبعدما كان الجيش يرسل مقاتليه إلى سوريا للمساعدة في السيطرة على مواقع ومنشآت نفطية في مقابل عقود مجزية وقّعها مقربون من الكرملين مع السلطات السورية للحصول على النفط السوري، فإن تقارير أشارت إلى أن نشاط هذه الشركات الخاصة في القارة الأفريقية مرتبط بالسيطرة على مناجم الماس وتوقيع عقود مماثلة هناك.

تمدد «جيش فاغنر» في السودان وليبيا
منذ بداية الحملة العسكرية في سوريا، لم تعترف السلطات الروسية بوجود الشركات العسكرية الخاصة الروسية في هذه الحرب، ولا بوجود مثل هذه الشركات في روسيا من حيث المبدأ. وقال ديمتري بيسكوف، السكرتير الصحافي للرئيس الروسي في حينها: «بحكم القانون، ليس لدينا كيانات قانونية مثل الشركات العسكرية الخاصة». وكان معروفاً عن هذه الشركات أنها شاركت في العمليات العسكرية في أوكرانيا في إطار ما عُرِف بـ«الفيلق السلافي» الذي أسهم في السيطرة على القرم وعلى مناطق في شرق البلاد. ومنذ 2015 تم زجّ آلاف من مقاتليه في سوريا عبر إعلانات مغرية برزت على شبكات التواصل الاجتماعي، ودفعت إلى تطوع كثيرين من مشاركي الحرب الشيشانية والحرب الجورجية في السابق في هذه التشكيلات طمعاً بالمكافآت المجزية. ونشرت وسائل إعلام غربية تفاصيل واسعة ومقابلات مع عدد من ذوي القتلى في سوريا توضح جوانب من هذه التفاصيل، بعد مقتل 217 من المرتزقة في هجوم أميركي على قافلتهم قرب دير الزور في فبراير الماضي التي فجّرت النقاش حول الموضوع بعدما كان محرماً.
في أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ذكرت «نوفاي غازيتا» أن رجل الأعمال يفغيني بريغوجين المعروف باسم «طباخ الكرملين» (كونه كان متعهد حفلات في الكرملين قبل أن يفتح نشاطاً واسعاً باستخدام الشركات العسكرية الخاصة منذ عام 2012)، كان حاضراً في المحادثات بين وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو وقائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر. وفسر حضور الرجل الذي لا يتولى منصباً عسكرياً أو رسمياً في الدولة، بأن جانباً من النقاشات تعلق بإرسال وحدات روسية خاصة إلى ليبيا.
قبل ذلك مباشرة ترددت معطيات عن وجود عدة وحدات من «جيش فاغنر» في السودان.
ولا تستبعد مصادر روسية أن يكون النشاط القائم حالياً، يهدف إلى تحويل جزء من المتعاقدين في الجيش الروسي الخاص من سوريا بعد تراجع الحاجة إلى نشاطهم في هذا البلد، ما يعني أن التمدد سيكون أوسع خلال المرحلة المقبلة في كل من ليبيا والسودان، فضلاً عن بلدان أفريقية أخرى تتطلع روسيا إلى توسيع وجودها فيها عبر الشركات الخاصة، للحصول على استثمارات وعقود مجزية.



السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
TT

السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)

لا يُعدّ دوي المدافع ولا انفجارات القذائف أو البراميل الناسفة القادمة، أو حتى الرصاصات العمياء، شيئاً جديداً في السودان، الجديد أنه انتقل من «الهوامش» إلى العاصمة الخرطوم، فاضطرت الحكومة وقيادة الجيش للانتقال إلى عاصمة بديلة تبعد نحو ألف كيلومتر على ساحل البحر الأحمر عند بورتسودان.

كان يُنظر للحروب السابقة على أنها تمرد ضد الدولة، لكن أسبابها تكمن في الصراع بين «المركز» الذي يحتكر كل شيء، و«الهامش» الذي لا يحصل على شيء، وأنها «حرب مطالب وحقوق».

لكن الحرب، خلال حكم الإسلاميين بقيادة الرئيس السابق عمر البشير البلاد، تحولت من حرب مطلبية إلى «حرب دينية» بين الشمال «المسلم»، والجنوب «المسيحي» أو «اللاديني»، وانتهت بـ«فصل جنوب السودان»، وإعلان ميلاد دولة جديدة انضمت للأمم المتحدة، فمن أين تأتي الحروب والعواصف لتدمر السودان؟

يرجع المحللون جذور الحروب السودانية إلى الافتقار لـ«مشروع وطني»، وإلى عدم الاعتراف بالتنوع الإثني والثقافي الناتج عن عدم وجود منظومة سياسية ثقافية اقتصادية موحدة تعترف بهذا التنوع.

ورغم أن الحرب الحالية هي حرب بين جيشين «نظاميين»، لكن جذورها تتصل «بمتلازمة التهميش وعدم الاعتراف بالتنوع»، التي أدت للتمرد الأول قبيل إعلان الاستقلال 1955 بقيادة قوات «أنانيا 1»؛ وهي تسمية محلية لثعبان الكوبرا.

الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ملوحاً بعصاه إثناء إلقائه خطاباً في نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور في سبتمبر 2017 (أ.ف.ب)

اتفاق «نيفاشا»

انطفأت الحرب الأولى باتفاق أديس أبابا 1972، لكنها اشتعلت مرة أخرى في عام 1983، تحت راية «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة الزعيم الجنوب سوداني الراحل جونق قرنق دمبيور، على أثر إعلان الرئيس الأسبق جعفر النميري «أحكام الشريعة الإسلامية».

وانتقلت من كونها ضد متمردين إلى حرب «جهادية»، جيش الإسلاميين المقاتلين على أساس ديني، ورفعوا رايات الجهاد ضد مَن وُصفوا بـ«أعداء الدين»، فاستمرت الحرب سنوات، وراح ضحيتها أكثر من مليونيْ مواطن.

لم يحقق الجيش ومؤيدوه «المجاهدون» انتصاراً حاسماً، فاضطروا إلى الرضوخ للضغوط الدولية، ووقَّعوا اتفاق سلام في ضاحية نيفاشا الكينية؛ «اتفاق السلام الشامل أو اتفاق نيفاشا».

قضى «نيفاشا» بمنح جنوب السودان «حق تقرير المصير»، وخيّره بين البقاء في السودان الموحد أو الانفصال، وحدد فترة انتقالية قدرها خمس سنوات.

خلال الفترة الانتقالية، شغل زعيم الحركة الشعبية الراحل جونق قرنق دمبيور منصب النائب الأول للرئيس لأيام قلائل، قبل أن يلقى مصرعه في حادثة تفجر المروحية الرئاسية الأوغندية الغامض، ليخلفه نائبه رئيس جنوب السودان الحالي سلفاكير ميارديت.

استفتي شعب جنوب السودان 2010 على الوحدة أو الانفصال، وجاءت النتيجة لصالح الانفصال، فولدت من رحِم الحروب جمهورية جنوب السودان، وخسر السودان ثلث مساحته الجغرافية، وربع عدد سكانه، و75 في المائة من ثرواته وموارده.

انتقلت النيران إلى إقليم دارفور غرب البلاد، وتمردت مجموعات جديدة تحت مزاعم التهميش والاضطهاد باسم «حركة تحرير السودان» في عام 2003.

وأخذت طابعاً «عِرقياً»، بعدما استعانت الحكومة في حربها ضد الحركات المتمردة ذات الأصول الأفريقية، بمجموعات قبلية عُرفت وقتها بمجموعة «الجنجويد» ذات الأصول العربية، ومِن قادتها، للمفارقة، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الذي أصبح قائد ما يُعرف بقوات «الدعم السريع».

راح ضحية حرب دارفور نحو 300 ألف، واتهمت الحكومة، برئاسة عمر البشير، بجرائم تطهير عِرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أصدرت بموجبها المحكمة الجنائية الدولية مذكرات قبض ضد الرئيس السابق عمر البشير، و3 من معاونيه الكبار وهم في الحكم، لا تزال سارية.

مقاتلون من «حركة تحرير السودان» في دارفور في مارس 2024 (أ.ف.ب)

تبضع بين العواصم

في مايو (أيار) 2006، وقّعت الحكومة الإسلامية اتفاق سلام في مدينة أبوجا مع «حركة تحرير السودان»، لكن الحركة انشقت إلى حركتين، يقود التي وقَّعت اتفاق أبوجا حاكم إقليم دارفور الحالي مني أركو مناوي.

رفض تيار عبد الواحد محمد النور الاتفاق، واعتصم بجبل مرة في وسط دارفور، وواصل الحرب ولا يزال، بينما حصل مناوي على منصب مساعد الرئيس عمر البشير، ثم عاد للتمرد زاعماً أنه كان مجرد «مساعد حلّة»، وليس مساعد رئيس، ومساعد الحلة هو معاون سائقي الشاحنات الذي يُعِدّ الطعام للسائق.

تنقلت المفاوضات مع الحركات الدارفورية المتشظية بين عدة عواصم، ففي يوليو (تموز) 2011 وقَّعت مع بعضها في قطر «وثيقة سلام الدوحة»، ونصت على تقاسم الثروة والسلطة، لكن الحرب لم تتوقف.

ثم وقَّعت حركات مسلَّحة مع الحكومة الانتقالية، في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 اتفاق سلام السودان في جوبا، أبرزها «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، ونصَّ الاتفاق على تقاسم السلطة والثروة، وبموجبها تولَّى جبريل إبراهيم وزارة المالية، ومني أركو مناوي منصب حاكم إقليم دارفور.

جنود سودانيون من «قوات الدعم السريع» في ولاية شرق النيل بالسودان، يونيو 2019 (أ.ب)

الجنوب الجديد

كأنما لا بد من جنوب ليحاربه الشمال، اشتعلت حرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وهما منطقتان منحهما اتفاق نيفاشا حق المشورة الشعبية، للبقاء في السودان أو الانضمام للجنوب، وعادت إلى الحرب «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال».

انشقت الحركة الشعبية الشمالية، التي تُعدّ امتداداً للجنوبية، وتضم مقاتلين سودانيين انحازوا للجنوب إبان الحرب الأهلية، إلى حركتين بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الحالي مالك عقار، الموقِّع على اتفاق سلام جوبا، بينما بقيت الأخرى، بقيادة عبد العزيز، تسيطر على منطقة كاودا بجنوب كردفان، وتَعُدّها «منطقة محرَّرة»، وتخوض معارك متفرقة ضد الجيش السوداني، ولا تزال.

لم يَسلم شرق السودان من متلازمة الحروب السودانية، فقد كان مرتعاً لحروب المعارضة المسلَّحة ضد حكم البشير في تسعينات القرن الماضي، ونشأت فيه مجموعات مسلَّحة مثل «مؤتمر البجا»، و«الأسود الحرة»، قاتلت هي الأخرى ضد المركز في الخرطوم، قبل أن تُوقِّع اتفاقاً في العاصمة الإريترية عُرف بـ«أسمرا لسلام شرق السودان»، ونال هو الآخر حصة في السلطة والثروة.

أطاح السودانيون بنظام حكم الإسلاميين، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، عبر احتجاجات شعبية استمرت أشهراً عدة، وأجبروا قيادة الجيش على تنحية البشير.

ومع ذلك، تواصلت الاحتجاجات والاعتصامات، حتى قرر «المجلس العسكري الانتقالي»، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، فض الاعتصام باستخدام القوة، ما أسفر عن مقتل المئات من المعتصمين، ما عده كثيرون من «أفظع الجرائم» بحق المدنيين.

واستمر الضغط المدني السلمي، فاضطر العسكريون لتوقيع «وثيقة دستورية» نصّت على شراكة مدنية عسكرية، في أغسطس (آب) 2019، وجرى تشكيل حكومة برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتكوين مجلس سيادة انتقالي برئاسة البرهان، ونائبه حميدتي.

البرهان وحميدتي يحضران حفل تخريج عسكري للقوات الخاصة، في الخرطوم في 22 سبتمبر2021 (غيتي)

حرب الجنرالات

في 25 أكتوبر 2021، أطاح قائد الجيش بحكومة حمدوك المدنية، بانقلاب عسكري، واضطر تحت الضغط الشعبي السلمي مرة أخرى، لتوقيع ما عُرف بـ«الاتفاق الإطاري» مع المدنيين، ونص على «حكم مدني» يعود بموجبه الجيش إلى ثكناته، وإزالة أي فرصة لـ«تمكين نظام الإسلاميين».

لكن أنصار النظام السابق أحبطوا «الاتفاق الإطاري»، واستخدموا آليات «الدولة العميقة» في تأجيج الخلافات بين الجيش و«الدعم السريع»، فاشتعلت الحرب.

لم تفلح جهود إزالة التوتر والتحشيد العسكري، وفي صبيحة السبت، منتصف أبريل 2023، فوجئ السودانيون بالرصاص «يلعلع» في جنوب الخرطوم عند «المدينة الرياضية»، معلناً الحرب المستمرة حتى اليوم.

يتهم «الدعم السريع» الجيش بمهاجمة معسكراته على حين غِرة، ويقول إن الجيش حاصر مطار مروي شمال البلاد، وإنه كان يخطط للانقضاض على السلطة، بينما «تسود رواية أخرى» بأن «خلايا الإسلاميين» داخل الجيش هاجمت «الدعم السريع»، ووضعت قيادته أمام الأمر الواقع؛ «الاستسلام أو الحرب».

حسابات خاطئة

كان مخططاً للحرب أن تنتهي في ساعات، أو على أسوأ تقدير أيام معدودات، بحساب التفوق التسليحي للجيش على «الدعم السريع»، لكن الأخير فاجأ الجيش وخاض حرب مدن كان قد تمرَّس عليها، ففرض سيطرته على معظم الوحدات العسكرية للجيش، وأحكم الحصار على البرهان في القيادة العامة، بل سيطر على المقرات الحكومية؛ بما فيها القصر الرئاسي والوزارات.

اضطرت الحكومة للانتقال إلى بورتسودان، واتخاذها عاصمة بديلة بعد سيطرة «الدعم السريع» على الخرطوم، بينما ظل قائد الجيش محاصَراً داخل قيادته لأكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن يفلح في الخروج منها وينتقل إلى بورتسودان ليتخذها عاصمة له.

اتسعت سيطرة قوات «الدعم السريع» لتشمل إقليم دارفور، باستثناء مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، ومعظم ولايات الغرب باستثناء بعض حواضرها، ثم استسلمت له ولاية الجزيرة بوسط البلاد، وشملت عملياته ولايات أخرى، وسيطر تقريباً على نحو 70 في المائة من البلاد.

بعد نحو عامين من القتال، استعاد الجيش زمام المبادرة، وحقق تقدماً في بعض المناطق؛ الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، وسنار، لكن «الدعم السريع» لا يزال مسيطراً على مساحات واسعة من البلاد، ويقاتل بشراسة في عدد من محاور القتال، وما زالت الحرب سجالاً.

جنوب الخرطوم مسرحاً دموياً للمعارك بين البرهان وحميدتي (أ.ف.ب)

أسوأ كارثة إنسانية

قتلت الحرب عشرات الآلاف وخلقت «أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ»، وفقاً للأمم المتحدة، ونزح أكثر من 11 مليون شخص داخلياً، ولجأ نحو 3 ملايين لبلدان الجوار، ويواجه نحو 25 مليون شخص أكثر من نصف سكان البلاد، البالغ عددهم 45 مليوناً، حالة من «انعدام الأمن الغذائي الحاد».

أطراف الحرب لا يزالون يرفضون العودة للتفاوض، فمنذ فشل «إعلان جدة الإنساني»، فشلت محاولات إعادة الطرفين للتفاوض؛ لتعنُّت الجيش وأنصاره.

سيناريوهات

يرجع عضو مجلس السيادة السابق، ونائب رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» الهادي إدريس، اندلاع الحروب في السودان إلى عدم الاتفاق على «مشروع وطني نهضوي» لحكم البلاد منذ الاستقلال.

ويقول إدريس، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأسباب الرئيسية لحروب السودان هي الفشل في إنفاذ برامج تنمية متوازنة، وتحقيق العدالة، وسيادة ثقافة الإفلات من العقاب، وعدم حسم القضايا الاستراتيجية مثل علاقة الدين بالدولة، والهوية الوطنية، وقضية الجيش الواحد وابتعاده عن السياسة.

ويرى إدريس أن العودة إلى «جذور الأزمة» مدخل صحيح لجعل «الحرب الحالية» آخِر الحروب. ويضيف: «علينا معالجة أسباب وجذور الحروب، في الاتفاق المقبل لإيقاف وإنهاء الحروب».

أما القيادي في «التجمع الاتحادي» محمد عبد الحكم فيرى أن جذور الحروب تتمحور حول «التنمية المتوازنة والمواطنة المتوازنة». ويضيف: «يظل عدم معالجة التهميش والتنمية المتوازنة وحفظ حقوق الشعوب، وتغيير الأنظمة الاستبدادية المتسلطة، بحكم ديمقراطي تعددي، أُسّاً لنشوبِ أعتى وأطول الحروب السودانية».

ويرهن عبد الحكم إنهاء الأزمات المتتالية في السودان بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، عن طريق تكوين جيش مهني قومي موحد بـ«عقيدة قتالية» تُلزمه بحماية الدستور والنظام المدني، وتُخضعه للسلطة التشريعية والتنفيذية، وتُعلي قيم المحاسبة وردع محاولات تسييس الجيش.