منذ أكثر من مائتي عام، باءت جميع محاولات هروبه من منفاه بالفشل. واليوم، تحول هذا السجن الكبير، ذو الطبيعة البركانيّة السّاحرة، مقصداً سياحياً مهماً لعاشقي التاريخ والتواقين للتعرف على المكان الأخير الذي سكنه القائد الفرنسي الشهير نابليون بونابرت رغماً عنه، بعدما نفاه البريطانيون، وشددوا الحراسة عليه.
إنها جزيرة سانت هيلانة التي تقع في وسط المحيط الأطلسي. واحدة من الجزر الأكثر عزلة في العالم، ولهذا السبب اختيرت كمكان مناسب لنفي بونابرت في أكتوبر (تشرين الأول) 1815، وفيها يقبع المنزل الذي لفظ فيه آخر أنفاسه في 5 مايو (أيار) 1821. ولا بد من الإشارة إلى أن قصة هذا القائد هي السبب الأهم وراء زيارة كثير من السياح للجزيرة، خصوصاً أن بنيتها التحتية لا تزال في أولها.
إلى العام الماضي فقط، شكل البحر الطريق الوحيد للوصول إليها، وكانت سفينة البريد البريطانية «آر إم إس» هي التي تُستخدم لربط الجزيرة ببريطانيا وبالعالم الأوسع منذ عام 1990، مُبحرة من مرفأ مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا.
في 2017 فقط، انطلقت أول رحلة جوية تجارية، بعد 5 سنوات من التأجيلات في افتتاح مطار سانت هيلانة، بسبب التحديات البيئية والجغرافية في الجزيرة؛ تحديات تبدأ حتى قبل هبوط الطائرة ناحية قمم بركانية وهي تقترب فوق المحيط. كل من جربها أكد أنه هبوط صعب قد يسبب كثيراً من الإزعاج لمن لا يتمتعون بقلب قوي. بيد أنه ثمن بسيط مقابل الربط السريع بين الجزيرة الواقعة في جنوب المحيط الأطلسي والعالم الخارجي، ومقابل الاستمتاع بطبيعة لم تُخربها يد الإنسان بعد.
أكثر ما يجذب السياح إلى هذه الوجهة غير العادية، إلى جانب ارتباطها بنابليون بونابرت، انعزالها عن العالم الخارجي. فهي مكان مناسب لكل من يرغب حقاً بالانفصال عن هذا العالم، وعن جميع وسائل التواصل الاجتماعي، ليختلي بنفسه ويعانق الطبيعة. فلا شبكة للهاتف المحمول فيها، والاتصالات الهاتفية فيها غالية الثمن، بحيث لا يتوقع السائح أنه يستطيع استخدام شبكة الإنترنت لفترات طويلة من الزمن. وهناك «واي فاي» في بعض المناطق المحدودة. ومع ذلك، يزورها نحو 80 سائحاً أسبوعياً منذ افتتاح المطار في أكتوبر من العام الماضي، وذلك على متن رحلة أسبوعية واحدة، تنطلق من جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا، وتستغرق 6 ساعات، عن طريق العاصمة الناميبية وندهوك، وهو وقت قصير بالمقارنة مع الرحلات البحرية التي كانت تستغرق أياماً في السابق.
تبدو سانت هيلانة للوهلة الأولى مقفرة للغاية، حيث تهيمن عليها الجبال شديدة الانحدار، بصخورها البركانية المظلمة، وتكثر فيها أشجار الصفصاف، والحور، والصنوبر سكوتش، وأشجار البلوط، والأرز، واليوكالبتوس، والخيزران، والموز. بيد أن الانطباعات الأولى خادعة، فالجزيرة توفر نشاطات متنوعة، مثل: رياضة السير لمسافات طويلة، ورحلات القوارب السياحية، والغوص وصيد السمك، بالإضافة إلى تمتعها بطقس دافئ (حيث تتراوح درجة الحرارة بين 20 و24 درجة مئوية). كما يوجد بها أماكن إقامة مريحة، ووتيرة حياة لطيفة. ويستطيع السائح التمتع برحلته هذه سيراً على الأقدام، حيث يمكنه الذهاب من المرفأ إلى وسط المدينة سيراً. وفي طريقه، سيشاهد المكان الذي قضى فيه بونابرت ليلته الأولى، وهو دار «ويلنغتون هاوس» للضيافة، واسمه نسبة لاسم القائد الإنجليزي الذي دحره في معركة واترلو.
العملة والخدمات
يُستخدم جنيه سانت هيلانة المحلي (المرتبط بالجنيه الإسترليني) في أغلب عمليات الدفع في المنتجع. وتتبع إدارة الجزيرة مكتب الخارجية والكومنولث في العاصمة لندن بشكل مباشر. وقيادة السيارات، القليلة هناك، إلى ناحية اليسار. كما أن اللغة الرسمية هي الإنجليزية، وذلك رغم أن سكان الجزيرة، البالغ عددهم 4500 نسمة، يتحدثون بلكنة مختلفة فريدة. للإقامة، تقدم جزيرة سانت هيلانة اليوم خيارات متعددة، من استئجار بيوت ريفية صغيرة، ودور ضيافة، ولكن كثيراً منها لا يوجد على الإنترنت، ويمكن الاتصال بها فقط من خلال مكتب سياحي، إلى الإقامة في فندق «فارم لودج» الريفي، أو فندق «مانتيس سانت هيلانة» الفخم، في العاصمة جيمستاون، ويتكون من 40 غرفة نوم، وقد افتُتح العام الماضي. تمتعت الجزيرة التي يعتبرها البعض «المكان الأكثر عزلة في العالم» منذ قرون بروابط مع أوروبا. ومن جانبهم، استخدم البرتغاليون بعد اكتشافها في عام 1502 الأرض غير المأهولة، التي تبلغ مساحتها 121 كيلومتراً مربعاً، كمحطة تموين. فأدخلوا الماشية، وزرعوا أشجار الفاكهة، وخزنوا مياه الشرب.
وفي الوقت نفسه، طمعت قوى أوروبية أخرى في الحصول على الموقع الاستراتيجي، لدرجة وصلت إلى حد تقاتل الهولنديين والبريطانيين على الجزيرة. وفي عام 1657، منح التاج البريطاني حقوق إدارة سانت هيلانة إلى «شركة الهند الشرقية» البريطانية، التي بدأت بتحصينها واستعمارها بالمزارعين.