معارض الكتب بين الثقافة والتسويق والفولكلور

الجانب الوردي منها يجب ألا يحجب الكثير من الجوانب السلبية

جانب من معرض بيروت للكتاب في دورته الأخيرة 2018
جانب من معرض بيروت للكتاب في دورته الأخيرة 2018
TT

معارض الكتب بين الثقافة والتسويق والفولكلور

جانب من معرض بيروت للكتاب في دورته الأخيرة 2018
جانب من معرض بيروت للكتاب في دورته الأخيرة 2018

ليس أمراً بلا دلالة أن تحتفظ معارض الكتب بكل هذا القدر من الاهتمام، وأن تحتضن بين جنباتها وافدين كثراً من مختلف الأعمار والانتماءات السياسية والشرائح الاجتماعية. وسواء كان أولئك الوافدون مدفوعين إلى المكان بسبب تعطشهم إلى المعرفة والاطلاع، أو رغبة في تزجية الوقت، أو بغية التواصل الاجتماعي والإنساني، فإن الأمر في الحالين يؤشر إلى المكانة المرموقة التي لا يزال يحتلها الكتاب في أذهان الناس ووجدانهم العميق، رغم كل العثرات والمعوقات التي تعترض هذه المكانة، ورغم المنافسة غير المتكافئة بينه وبين وسائل التواصل الاجتماعي ومحركات البحث العملاقة. ولعل تلك الحشود الغفيرة التي تتقاطر باتجاه المعارض ما هي إلا الشهادة الدامغة على مكانة الكتاب الورقي المطبوع في دواخل الناس، وعلى الطمأنينة الروحية التي يصعب أن توفرها لهؤلاء شاشات الكومبيوتر والوسائط المعرفية الأخرى. فلا شيء يمكن للتكنولوجيا أن تفعله إزاء ذلك الدفء الرحمي الحميم الذي تغمرنا به قاعات المعارض المختلفة ما إن نطأ عتبات أبوابها ونغوص في بهوها الواسع. ولا غبطة توازي تلك الغبطة التي يوفرها لنا التجول البطيء في ردهات المعارض ومتاهاتها المحيرة. ولا بريق يضاهي بريق تلك الأغلفة المتراصفة التي تلمع كبطاقات المعايدة قبالة أعيننا المترعة بالنهم والفضول.
قد يكون للحشود المتقاطرة إلى معارض الكتب دور فعال في منح الأماكن التي تشغلها المعارض ألفتها وبهجتها ونكهتها المميزة. ذلك أن المعارض الخاوية أو شبه الفارغة من الزائرين تمنحنا شعوراً معاكساً بالضيق والتبرم والوحشة، أو تشعرنا بنوع من الفوبيا الخاصة الناجمة عن التفاوت الجلي بين الجسد الفردي المحدود وبين الفضاء غير المحدود للردهات الشاسعة، كما أن خلو المعارض من الزائرين يضعنا، عن وعي أو غير وعي، إزاء نوع آخر من التفاوت القائم بين محدودية الحياة وبين لا نهائية الكتب، التي تحتاج قراءتها إلى أعمار كثيرة لا قبل لنا بامتلاكها. وإذا كان الشعور بقصر الحياة مقابل وفرة الكتب يمكن له أن يتولد من وقوفنا أمام مكتبات بيوتنا الخاصة، فإنه في المعارض عرضة للتنامي والتفاقم دون شك. فمكتبات البيوت، على ما يقول أحد الكتاب، تشبه الحدائق المنزلية التي لا يتصل التجول فيها بغير البهجة والاستمتاع، فيما أن المعارض الكبرى تشبه الغابات التي تخلف متاهاتها الشائكة شعوراً بمتعة الاكتشاف من جهة، وشعوراً بالرهبة والضياع، من جهة أخرى. ولعل المعارض في بعدها الدلالي الأعمق هي نوع من القيامات الرمزية لآلاف الكتّاب والمبدعين الذين تركوا لنا، على شكل كتب ومصنفات، عصارات تجاربهم وثمار عقولهم وخلاصات أعمارهم، قبل أن توارى أجسادهم في غيابة التراب. إلا أن ما ينتابنا لدى تصفح الكتب من أحاسيس ليس الحزن على رحيل المؤلفين، بل الفرح بما خلفوه لنا من هدايا وعطاءات، والرغبة في إعادتهم إلى الحياة عبر قراءة أعمالهم ونتاجاتهم الإبداعية.
على أن شراء الكتب واقتناءها ليس هدف الناس الوحيد من زيارة المعارض، إذ ثمة من يأتي بهدف الهروب من واقعه البائس أو نمط حياته المضجر، مكتفياً بالتفرج على الواجهات المزدانة بمئات العناوين التي يحول غلاء الأسعار بينه وبين اقتناء أي منها. وثمة من يأتي للقاء بأصدقاء له لا يكاد يلتقي بهم إلا مرة كل عام. وثمة من يأتي بحثاً عن صدفة غريبة ونادرة تجمعه بحب قديم أضاعه على غفلة من الزمن. تكتسب كافتيريا المعارض من هذه الزاوية أهمية قصوى تذكّرنا بتلك التي يلتقي فيها طلاب الجامعات، بحثاً عن فسحة زمنية للتخفف من عناء الدراسة، أو رغبة في التواصل الإنساني وتشاكي الهموم السياسية والاجتماعية والعاطفية. ففي تلك الأماكن الغائصة في أحشاء المعارض تتلقف الأحاديث والحوارات المختلفة كل ما يدور في الخارج من وقائع ومجريات، وما يُعده القيمون على العالم من خرائط وهندسات للهيمنة والاستحواذ. وتنعقد في الوقت ذاته جلسات طويلة للمسامرة وإطلاق النكات وتذكّر الأزمنة المنقضية. وقد تشرع قصص غرامية في التكون، أو تتجدد قصص أخرى ظن أطرافها أنها قد دُفنت إلى غير رجعة. هكذا يتحول كل معرض إلى كرنفال بشري متنوع الأهداف والمقاصد، أو إلى فرصة سنوية دورية للإشاحة بالوجه عن بؤس الحياة اليومية، كما عن فساد الواقع المعيش واهترائه، حيث لا يبقى أمام الكثيرين بالتالي سوى البحث عن بقعة أخيرة للأمان، أو عن مكان نظيف لا تؤثثه سوى عقول المفكرين وأقلامهم وإبداعاتهم المتنوعة.
لا يعني ذلك بأي حال أن الجانب الوردي من معارض الكتب يمكن أن يحجب عن أعيننا الكثير من الجوانب السلبية المقابلة، ومن الهنات والآفات التي تشهدها المعارض العربية على نحو خاص. وإذا كان بعض هذه الآفات متصلاً بعزوف الجمهور العربي الملحوظ عن القراءة، فإن بعضها الآخر يتصل بالانحدار المطرد لمستويات الكتب والإصدارات التي لا تكف معظم دور النشر عن طباعتها وضخها في الأسواق لغايات تجارية بحتة، وبمعزل عن المستوى الفكري والإبداعي لهذه الإصدارات. فالقلة من الناشرين هي التي لم تزل تأبه لمستوى العمل المقدم إليها، أو تعنى بتكليف لجان متخصصة في قراءة الأعمال وإجازة نشرها، فيما الكثرة الكاثرة لا تهتم إلا باستعادة تكاليف الطباعة وجني الأرباح عن طريق حفلات التوقيع التي تنتشر كالفطر في كل زاوية، وتستهلك وحدها معظم المبالغ التي يخصصها الرواد لتلك المناسبة السنوية المنتظرة. ولم يعد بالأمر المتعذر أن تتصدر أعمال الكثير من الكتاب الرديئين قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، طالما يستطيع هؤلاء أن يحولوا حفلات توقيعهم إلى تظاهرات حاشدة تشارك فيها «جحافل» المبايعين من أبناء العشيرة أو الطائفة أو الحزب. وفي ظل هذه الحفلات التي تشبه الفخاخ المنصوبة للعابرين أشار علينا أحد الظرفاء، ذات معرض منصرم، بأن نستعين ببعض المرشدين ومستطلعي «الكمائن» المنتشرة بين الأروقة، بغية استطلاع الطرق الآمنة التي تجنبنا الوقوع في الأشراك وتكبد الخسائر الفادحة. وفي ظل غياب المتابعات النقدية والانكفاء شبه التام للصحافة الثقافية، كما في ظل الاستسهال غير المسبوق لتأليف الكتب وتلفيقها، لم تعد للكلمة المطبوعة تلك الهالة من «القداسة» التي طالما أحيطت بها قبل عقود من الزمن. هكذا باتت حفلات التوقيع ظاهرة اجتماعية وتسويقية أكثر من كونها ظاهرة ثقافية للاحتفال بالقيمة الإبداعية المضافة التي ينبغي أن يمثلها كل إصدار جديد. كما باتت معظم الندوات والأنشطة الثقافية الموازية نوعاً من الردح الزجلي والمجاملات المتبادلة بين المعنيين.
على أن هذه الهنات والثغرات، على أهميتها، لا يمكن لها أن تصرفنا عن حقيقة ما توفره لنا المعارض من فرصة نادرة للالتقاء بذواتنا المغيبة خلف قشور العيش وسطوحه الخلبية. فنحن هنا في ضيافة الكتّاب الموتى والأحياء الذين وأدوا حيواتهم الوحيدة والقصيرة ليقدّموا لنا على أطباق من كلمات كل ما ابتكرته مخيلاتهم من ثمار المعرفة وورود المجاز.
وليس غريباً والحالة هذه أن يرى الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس الفردوس بوصفه مكتبة كونية هائلة تضم بين جنباتها ملايين الكتب والمؤلفات، وتوفر للفائزين بها كل ما يتوقون إليه من نشوة الروح وثمل الحواس. أما نحن المدمنين منذ يفاعتنا المبكرة على حضور المعارض، فقد بتنا ننتظر عودتها بفارغ الصبر، ونقيس بواسطتها أعمارنا المتسارعة، حتى ليسأل أحدنا الآخر: «كم بلغتَ من العمر؟»، فيجيبه الآخر قائلاً: «خمسين معرضاً للكتاب!».


مقالات ذات صلة

«البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور... رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

ثقافة وفنون «البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور... رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

«البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور... رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

فاز الروائي الفرنسي لوران موفينييه بجائزة الغونكور إحدى أرفع الجوائز الأدبية في فرنسا عن روايته «البيت الفارغ» (دار نشر مينوي).

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

يتناول دكتور حمدي النورج، أستاذ النقد وتحليل الخطاب بأكاديمية الفنون المصرية، في كتابه «الخطاب العرفاني – مقاربات حضارية»، سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق محمد سلماوي يلقي كلمته في معرض الشارقة للكتاب (إدارة المعرض)

محمد سلماوي: المثقفون العرب قادرون على التأثير

قال الكاتب المصري محمد سلماوي إن «الهوية القومية العربية شرط لوجودنا، والثقافة كانت وستظل دوماً عنوان هويتنا العربية».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب «انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

بعد خمسة عشر عاماً من طرحه نظرية «صراع العواطف» في كتابه المؤثر «الجغرافيا السياسية للعواطف»، يعود دومينيك مويسي ليطلق حكماً قاطعاً في عمله الجديد.

ندى حطيط
كتب «سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة

«سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة

تطرح رواية «سقوط جنتلمان» للكاتب الأميركي هربرت كلايد لويس سؤالاً عن اختبار الإنسان حين يُنتزع فجأةً من سياقه، فيجد نفسه وجهاً لوجهٍ مع الفراغ

منى أبو النصر (القاهرة)

عائشة الأصفر: تناول المقموعين والمهمشين من همومي الجوهرية

عائشة الأصفر
عائشة الأصفر
TT

عائشة الأصفر: تناول المقموعين والمهمشين من همومي الجوهرية

عائشة الأصفر
عائشة الأصفر

برز اسم عائشة الأصفر في المشهد السردي الليبي، عبر مجموعة من الروايات التي توالى إصدارها على مدار سنوات طويلة، بدأتها برواية «اللي قتلوا الكلب»، ثم تتابعت بقية الأعمال، ومنها «خريجات قاريونس» و«اغتصاب محظية»، و«النص الناقص» و«علاقات حرجة»، ولكل رواية عالمها المختلف عن الآخر، وإن اشتركت جميعها في التعبير عن واقع الحياة الليبية وتشابكاتها وتحولاتها وفي القلب منها المرأة الليبية. فازت أحدث أعمالها رواية «إيشي» أخيراً بجائزة القدس لإبداع المرأة العربية في الرواية، من بين نحو مائتي رواية تنافست على الفوز بالجائزة، التي تمنحها وزارة الثقافة الفلسطينية. عن الجائزة ومشروعها الروائي كان لنا معها هذا الحوار.

> ما الذي تمثله الجائزة لك على المستوى الشخصي؟ وما الذي تضيفه للأدب والرواية في ليبيا؟

- سيبقى هذا الفوز محطة استثنائية في مسيرتي الإبداعية، ليس فقط لأنه فوز بجدارة جاء بإجماع كل لجنة التحكيم التي هي من أساتذة الأدب والنقد المختصين من مختلف الدول العربية، وليس لأنه وسط منافسة قوية لما يقارب المائتي رواية لمبدعات متميزات، ولكن لأنه فوز بالجائزة المفعمة بقدسية المكان وأهميته التاريخية والدينية. وهذه الجائزة إضافة نوعية مهمة لرصيد الأدب الروائي الليبي، وخصوصاً الرواية المنشورة للمرأة الليبية، وهي تتوج بالجائزة.

> رواية «إيشي» تعيد تقديم الجنوب الليبي... فما تأثير المكان وأهميته في الرواية؟ ولماذا اخترت هذا الفضاء المكاني تحديداً؟

- الجنوب الليبي يمثل لي خصوصية شديدة، نشأت وكبرت في أزقته الدافئة، بين طقوسه المدهشة وبيوته المسنودة بالحب والمؤازرة، لا تكترث بالتباين الطبقي أو العرقي، يتجاور فيها الفقر والغنى، الشقاء والسعادة، الفضيلة وضدها، كبرت في هذا الفضاء وعشت آثار التغيرات الثقافية والسياسية والديموغرافية وتبعات كل ذلك، فلكل قدمين في أزقتها وميادينها سيرة مشحونة، ولكل جمجمة قصة، ووراء كل باب حكاية، ولأنني ابنة هذه البيوت والشوارع أحببتها وحكاياتها التي هي حكاية كل الشوارع فاقدة العنوان. المكان هو حاضنة الرواية وتأثيثها، وهو الفضاء الذي تدور فيه أحداثها، ويعكس بيئة هذه الأحداث ومناخها النفسي، وليس بالضرورة أن يؤطر هذا الفضاء بمكان مرجعي.

> البطلة تخفّت في هوية أخرى مدعية أنها خادمة إثيوبية... كيف ترين تمثيل أزمة الهوية في الرواية؟

- الهوية تيمة جوهرية في هذه الرواية، تنكّر البطلة الليبية «بإيشي» وتحولها من أستاذة تاريخ تبجله لطلبتها وتفخر بعراقته وملكاته وكنوزه، إلى خادمة في بيوت الليبيين الذين من المفترض أنها تنتمي لهم، لتتعرض للاعتقال مع المهجّرين الأفارقة، وللجوع، وللتحرش، والتنمر، ما جعلها تدخل في حالة انفصام نفسي حاد وتهذي طوال الرواية في انقسام ذاتي مع صورتها الحقيقية على شاشة هاتفها، تلومها على التمسك بوطن لا يستحق، كافرة بالانتماء وتعدّه كذبة، كل هذا يضع رواية «إيشي» أمام أزمة هوية.

> تنحازين لقضايا الهامش ومعاناة المهمشين والمقموعين... وكأنك تكتبين لنصرة هؤلاء المهمشين؟

- الرواية تنتصر للإنسان بوصفه قيمة وتثير فيه الوعي، لكنها لا تنصره في الواقع المادي فهذا ليس من مهمتها. الرواية تقدم الشخصية المهمشة والمقموعة وتمنحها مساحتها التي تعري فيها لنا قبح معاناتها. وسأعيد دائماً، إن الرواية إنسان يمشي عارياً، وحياة بلا خجل، وإن الشخصية هي حُمّى الرواية وهذيانها. وسيظل تناول المقموعين والمهمشين من الهموم الجوهرية في رواياتي.

> الرواية تسلط الضوء على مآسي الحرب والفساد والواقع المأزوم... فكيف ترين العلاقة بين الرواية فناً والواقع السياسي؟

- على الرواية أن تحافظ على فنيّتها الجمالية والإبداعية، وألا تتحول إلى نشر فج للواقع السياسي، فهذا اختصاص المقالة الصحافية والقنوات الإعلامية المستقلة، أما الرواية فإنها تعرّي السياسة بطريقتها، وتستفز وعي القارئ للمعاناة تجاه تغول السلطة، والقمع السياسي، وخنق الحريات، وثمة حيل فنية إبداعية تتكفل بذلك لتتجنب الرقابة السياسية.

>«إيشي» عنوان الرواية هو اسم بطلتها المستعار... كيف عالجت الرواية أزمة المرأة في المجتمع؟

- الرواية طرحت عدة صور بأصوات متنوعة لنساء مختلفات، تتناول البطلة «إيشي» بصفتها شخصيةً وإنسانةً تعاني التهميش والارتباك والتشظي، مثلها مثل صديقها «احبيّب» تماماً، وليست كونها امرأة، وتنوعت صور المرأة في الرواية، المثقفة، والخادمة، والناشطة الحقوقية، والنازحة، والأمية البسيطة، ومعلمة الأطفال، والمعنّٓفة، والمنحرفة، والمنفصمة.

> الرواية بها جانب تاريخي عن الاستعمار وما أعقبه وآثاره... فما حدود العلاقة بين الأدب والتاريخ؟

- العلاقة جد وثيقة بينهما، كل رواية تستقي مادتها من التاريخ بأي شكل من أشكاله، فالتاريخ ليس فقط استعماراً ومعارك وسير بطولة وهزائم، فالواقع الاجتماعي والاقتصادي والفكري يحمل تبعات كل ذلك، كما أنه ليس ماضياً فقط، هو أيضاً الحاضر والواقع المعيش، الذي هو جزء منه وامتداد له، والرواية سواء تاريخية أو واقعية أو اجتماعية، ومهما تعددت الأسماء، ستستقي منه مادتها التي تهمها، لكنها تنقله لنا بطريقتها المتخيلة، وبلغتها الأدبية الخاصة التي تؤدي وظيفتها اللغوية فيها، الرواية هي التي تمنح التاريخ اللمسات الجمالية، وتقدمه للقارئ بصورة فنية جديدة، تختصره له في قصة تخييلية موازية، الرواية لا تؤرخ لكنها تعيد رسم المشهد بطريقتها.

> كيف تنظرين إلى تطور مشروعك الروائي منذ الرواية الأولى وحتى «إيشي»؟

- البداية 2005 بكتابة روايتين نشرتا 2007، هما «اللي قتل الكلب» وهي رمزية وتوظيف للحكاية الشعبية العربية (اقتلوا اللي قتل الكلب) تتناول الهوية والاستلاب والعولمة، وكل شخصياتها مشتقة في أثناء السرد، ورواية «خريجات قاريونس» تناقش العلاقات بين الشباب وطموحاتهم في السبعينات والثمانينات وبداية التوجهات الدينية والظلال السياسية، وذلك ضمن فضاءات محلية واجتماعية. أما الثالثة فهي رواية «اغتصاب محظية»، وهي شخصية الإنسان المهزوز في ظل التوترات السياسية وظهور المجموعات المتطرفة، وهي من فصلين؛ الأول فانتازيا، فيه الشخصية التي تروي عبارة عن أصبع زائد في خنصر سيده، والفصل الثاني الواقعي المطابق للفانتازيا. الرواية هي مزج الجغرافيا بالتاريخ بالبعد النفسي الإنساني، والبحث عن الذات، في أجواء من الترميز والدلالات. وزمن الرواية بضع ساعات صباح الدوام الوظيفي. وأعدّ «اغتصاب محظية» أهم رواياتي. الرواية الرابعة «النص الناقص» هي رواية المكان، العنف النفسي والجسدي والهوية والشخصية الضحية والمضطربة، وقصص عبور الأفارقة إلى أوروبا عبر ليبيا في رحلة تبدأ من قرى النيجر ومعيشتها.

الرواية الخامسة «علاقة حرجة» هي أزمة الفكر، وفشل المشروع العربي، وقنبلة الفوضى الخلاقة، فبطلها شاب ليبي ابتلي بذاكرة شخصية عالمة الذرة المصرية «سميرة موسى» في 2017، لتدخل الشخصية في صراع نفسي وفكري ومعقد وهي مندهشة من تحول جسدها، وتستغرب البيئة المحيطة، وتطلب التواصل مع القنصل المصري فهي لا تزال تعتقد أنها في عام 1952. أما السادسة فهي «إيشي» رواية الهوية والتهميش والنزوح والتغييب، وصراع الديكة، والتغير الديموغرافي في الجنوب الليبي. وهي المتوجة «بجائزة القدس».

> كيف ترين المشهد الروائي الليبي مقارنة بنظيره في الدول العربية الأخرى؟

- الرواية الليبية وإن تأخرت نسبياً في الظهور كمّاً، لكنها واكبت الرواية العربية سريعاً؛ من حيث الخطاب والنشر والمشاركة في المعارض، ومكانتها في جوائز الرواية.

> عادة ما يشار إلى إبراهيم الكوني وأحمد إبراهيم الفقيه عند الحديث عن الرواية الليبية... بصفتك واحدة من جيل تال لهما هل ترين في هذا هضماً لحق الأجيال الأحدث؟ وما الإضافة التي تقدمونها؟

- أعتز جداً بصفتي كاتبة ليبية بالأديبين الكبيرين «الفقيه» و«الكوني»، إنهما يصنعان فارقاً كبيراً من ناحية الثراء الأدبي، كمّاً ونوعاً، مما لا يسمح لنا هنا بالمقارنة، بالإضافة إلى عنصر سبق الظهور الإبداعي، لكن يبقى في الأدب لكل مجايلةٍ خصوصيتها، ولكل كاتب بصمته التي يتميز فيها وحده، الإبداع ظاهرة فردية وإن تقاطعت خطوطه. أما الإضافة للأدب فهو بطبيعته متجدد، وفي حركة تغيير ذاتية، والإبداع روح حية في حالة تحدٍ مستمرة، والنص الإبداعي رهين كل ذلك، بل هو كل ذلك، وليس رهين الماضي.

> أخيراً، ما حكاية أنك أول امرأة ليبية تقود طائرة، والتي تذكرها عنك كل صفحات البحث؟

- ما تطالعه هو كوني أول امرأة ليبية تقود طائرة عام 1974 وحصولي على رخصة إجازة طيار خاص من نادي طيران سبها.


حسام الدين محمد يبحث في «رسالة اللاغفران» علاقات الثقافة الخفية

حسام الدين محمد يبحث في «رسالة اللاغفران» علاقات الثقافة الخفية
TT

حسام الدين محمد يبحث في «رسالة اللاغفران» علاقات الثقافة الخفية

حسام الدين محمد يبحث في «رسالة اللاغفران» علاقات الثقافة الخفية

صدر عن منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت وعمّان، كتاب «رسالة اللاغفران: نقد ثقافي على تخوم مضطربة» للكاتب السوري حسام الدين محمد.

يتناول الكتاب بالنقد ظواهر تتداخل فيها الحدود بين قضايا الجغرافيا والاجتماع والثقافة والعلمانية والدين والجندر والسياسة عبر مقالات تنتظمها خيوط خفية بين هذه المسائل الشائكة.

يتابع الكاتب آثار هذه الظواهر الفاعلة في الحاضرة العربية كاشفاً العلاقات بين التاريخ القديم والحيثيات الحاضرة، وتناقضات الشخصيّ والعام، وأعطاب العمل الثقافي والسياسي، والإشكالات المريرة التي تحيط بكل ذلك.

ويشغل موضوع فهم وتفكيك ظواهر الاستبداد مكاناً رئيسياً في الكتاب، لكن الكاتب يبحث أيضاً في مجالات تفيض عن المجال السياسي، وتعود إليه، من اللغة والثقافة وصولاً إلى تطرّقه لمناطق لا يتطرّق إليها النقاد عادة، مثل علاقات الكتاب والشعوب والحيوانات، إلى تلقّيه رسائل من شاعر وكاتب ميتين، إلى تورّط الزعماء السياسيين بكتابة الرواية والشعر، ورذائل الفلاسفة وغيرها.

يفسّر محمد عنوان الكتاب الفرعي بالقول إن جغرافيته تقع ضمن اشتباك تخوم العالم الإسلامي الواسع، اجتماعاً وسياسة وثقافة وعلوم نفس وأحياء... إلخ، بتخوم الغرب (الواسع بدوره).

ويسعى الكاتب لتلمّس العلاقات الثقافية الاجتماعية الخفية، من «المحكمة الباطنية» الفرعونية الأصل، التي يرفع لها المصريون شكواهم، إلى خلاف المظلوميات الثقافية بين فلسطينيي محمود درويش وكرد سليم بركات، ومن صراع العلم والدين بين «قنديل أم هاشم» و«هدهد ماركس»، إلى الجذور الطائفية لانحيازات المثقفين، ومن نزاع فهم الحجاب بين فاطمة المرنيسي وفراس سواح إلى رئاسة تحرير محمد الماغوط لمجلة «الشرطة» السورية.

ويتناول الكتاب أيضاً، كما يدل عنوانه، الاستقطابات الثقافية - السياسية العنيفة التي تؤدي لأعطاب هائلة في المجتمعات وضمن مثقفيها ونخبها بشكل يقضي على التسامح والتواد والعلاقات الطبيعية كما يؤدي لظواهر ثقافية عميقة.

يرى الكاتب أن مهمة النقد الكبرى هي الاشتباك مع الإشكالات على الحدود الحقيقية والمتخيّلة للعالم، وأنه عمل شخصي بقدر ما هو عام.

تتقصى المواضيع، كما يقول الكاتب في مقدمته، معمار دمشق كثير التفرعات والدهاليز والمشربيات والحدائق الداخلية المخبأة، لكنها كما يقول، «تستهدي أيضاً بالخطوط السريعة العريضة التي تربط المدن والقارات وتنقل شاحنات البضائع والبشر والأفكار»، وبذلك يتنقل الكتاب «بين أسئلة محيّرة وإجابات تحاول مجابهة غيلان الواقع ومخاتلات الآيديولوجيا».


شهادات إبداعية... يقدّمها الفائزون بـ«جائزة سلطان العويس الثقافية»

الفائزون بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
الفائزون بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
TT

شهادات إبداعية... يقدّمها الفائزون بـ«جائزة سلطان العويس الثقافية»

الفائزون بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
الفائزون بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

ضمن احتفاليتها، بالفائزين بجائزتها في الدورة الـ19، نظمت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، في مقرها بدبي، جلسة حوارية للناقد المغربي حميد لحمداني عرض فيها لمفاهيم نقدية في نظرية الأدب ومتلقيه، بحضور عشرات الأدباء والمثقفين والإعلاميين العرب.

الندوة التي أدارها الدكتور أحمد المنصوري، تناولت «النظرية القصدية»، وتحدث خلالها الناقد المغربي عن الأدب بعدّه «جزءاً من أحلام اليقظة... فنحن نحلمُ كي نعزز وجودنا»، ولقيت تفاعلاً واسعاً من الحضور.

الناقد والأكاديمي والروائي المغربي الدكتور حميد لحمداني يتحدث عن مفاهيم نقدية في نظرية الأدب (الشرق الأوسط)

الناقد والأكاديمي والروائي المغربي الدكتور حميد لحمداني (1950)، قدّم عدة مؤلفات في النقد السردي، ويعدّ خبيراً في المناهج النقدية والدراسات السردية والترجمة، وأصدر في عام 1979 أول رواية له بعنوان: «دهاليز الحبس القديم».

وكانت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية قد أعلنت في مطلع يونيو (حزيران) الماضي عن الفائزين بالدورة التاسعة عشرة لعام 2025، وهم الشاعر العراقي حميد سعيد (الشعر)، والروائية العراقية إنعام كجه جي (القصة والرواية والمسرحية)، والناقد المغربي الدكتور حميد لحمداني (الدراسات الأدبية والنقدية)، والمؤرخ التونسي الدكتور عبد الجليل التميمي (الدراسات الإنسانية والمستقبلية).

وضمن البرنامج الثقافي، يقدّم الفائزون بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، شهادات عن مسيرتهم الإبداعية، كما يوقعون كتبهم الصادرة حديثاً عن المؤسسة، وتُعرض لوحات بورتريه لكل فائز في المعرض الدائم بقاعة المعارض.

كما تنظم جلسة أدبية بعنوان «حياة في الكتابة» (مساء الأربعاء) تتحدث فيها الروائية العراقية إنعام كجه جي لجمهور معرض الشارقة للكتاب، في قاعة الفكر في مركز إكسبو الشارقة، وذلك في جلسة أدبية تديرها الروائية الإماراتية صالحة عبيد.

الدكتور علي جعفر العلاق يُغني الندوة بمداخلة نقدية في الجلسة الحوارية للناقد المغربي حميد لحمداني (الشرق الأوسط)

يذكر أن إنعام كجه جي كاتبة وروائية عراقية بارزة، تعمل مراسلة من باريس وكاتبة عمود في صحيفة «الشرق الأوسط»، وكاتبة مقال أسبوعي في مجلة «كل الأسرة» في الشارقة، ولها العديد من المؤلفات، بما في ذلك «لورنا، سنواتها مع جواد سليم»، و«المأساة العراقية بأقلام النساء»، و«سواقي القلوب»، و«الحفيدة الأميركية»، و«طشاري»، و«النبيذة»، و«صيف سويسري».

وعملاً بالتقاليد المتبعة في جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، تُصدر المؤسسة كتاباً لكل فائز أو تعيد طباعة أحد الكتب النافدة، حيث تمت طباعة مجموعة الأعمال الشعرية للشاعر حميد سعيد الفائز بجائزة الشعر، وكتاب «لورنا، سنواتها مع جواد سليم» للروائية إنعام كجه جي، التي فازت بجائزة القصة والرواية والمسرحية، وكتاب «النقد الأدبي المعاصر... واقع وآفاق» للناقد الدكتور حميد لحمداني، الذي فاز بجائزة الدراسات الأدبية، وكتاب «دراسات في التاريخ العثماني المغاربي خلال القرن السادس عشر» للمؤرخ التونسي عبد الجليل التميمي، الذي فاز بجائزة الدراسات الإنسانية والمستقبلية.

وعلى هامش هذه الفعالية تُعرض لوحات بورتريه لكل فائز بريشة رسامين مرموقين، حيث رسم الفنان علي المعمار صورة الشاعر حميد سعيد، ورسم الفنان فواز أرناؤوط صورة الروائية إنعام كجه جي، ورسم الفنان محمد حسين صورة الناقد الدكتور حميد لحمداني، ورسم الفنان بابو رام شاندرا صورة المؤرخ الدكتور عبد الجليل التميمي.

وسيتم تكريم الفائزين بالجائزة (مساء الخميس) في فندق إنتركونتننتال، كما تقدم على هامش التكريم أوركسترا أكاديمية الفجيرة للفنون الجميلة حفلاً موسيقياً ساهراً يشارك فيه 45 مغنياً وعازفاً، يقدمون ألواناً من الموسيقى العربية الأصلية.

يذكر أن هذه الدورة من جائزة العويس الثقافية، تحتّل أهمية خاصة لكونها تتزامن مع مئوية الشاعر سلطان بن علي العويس، وتم فيها رفع قيمة الجائزة لكل فائز إلى 150 ألف دولار، كما تم خلال هذه السنة تنفيذ العديد من الفعاليات الثقافية المرتبطة باسم الشاعر الراحل سلطان بن علي العويس (1925 - 2000)، أبرزها حفل موسيقي ضخم للموسيقار محمد القحوم أقيم بدار أوبرا دبي، وكذلك الندوة الدولية التي أقيمت في العاصمة الفرنسية باريس، بالتعاون مع منظمة اليونيسكو بعنوان (سلطان العويس... رحلة الشعر... رحلة العطاء)، وطباعة كتب ومسكوكات تذكارية وطوابع بريدية وتنظيم حفلات موسيقية ومعارض تشكيلية وغيرها من الفعاليات التي ميزت عام 2025.

وتهدف جوائز العويس الثقافية إلى تكريم المبدعين الذين حصلوا عليها في مختلف الحقول الثقافية والعلمية، وتُسهم في تشجيع الإبداع والابتكار في العالم العربي، وتعزيز دور الثقافة في التنمية والتقدم.