«داعش» يتمدد في جنوب ليبيا

تربة صالحة لاستقطاب المتطرفين من جماعات الإرهاب المختلفة

أعلن {داعش} الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف مبنى وزارة الخارجية الليبية بطرابلس الأسبوع الماضي وأسفر عن مقتل 4 أشخاص على الأقل وإصابة 5 آخرين (أ.ب)
أعلن {داعش} الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف مبنى وزارة الخارجية الليبية بطرابلس الأسبوع الماضي وأسفر عن مقتل 4 أشخاص على الأقل وإصابة 5 آخرين (أ.ب)
TT

«داعش» يتمدد في جنوب ليبيا

أعلن {داعش} الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف مبنى وزارة الخارجية الليبية بطرابلس الأسبوع الماضي وأسفر عن مقتل 4 أشخاص على الأقل وإصابة 5 آخرين (أ.ب)
أعلن {داعش} الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف مبنى وزارة الخارجية الليبية بطرابلس الأسبوع الماضي وأسفر عن مقتل 4 أشخاص على الأقل وإصابة 5 آخرين (أ.ب)

هل أضحى جنوب ليبيا مرتعاً جديداً لتنظيم «داعش» ومنه ينطلق إلى قلب القارة الأفريقية؟ تساؤل ارتفع في الأفق في الأشهر الأخيرة لا سيما في ظل الضربات الإرهابية التي وجهها التنظيم إلى عدد من المدن والقرى في الجنوب الغني بالثورات والفقير بالخطط اللازمة لإدارته، ما يجعل منه حاضنة متميزة للغاية لمثل تلك الجماعات الظلامية.
في أواخر شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي كثف التنظيم الإرهابي من هجماته على جنوب ليبيا، ذاك الذي يعاني من حالة انفلات أمني غير مسبوق، عطفاً على التهميش السياسي والصراعات القبلية على النفوذ والمصالح، وقد كانت بلدة «تازربو» شمالي الكفرة موضوع الهجوم الأخير الذي أسفر عن قتل وإصابة نحو ثلاثين فرداً، وقد سيطروا على نقطة شرطة البلدة، قبل أن يتمكن السكان من طردهم لاحقاً.
ولعل الهجوم الأخير يطرح عدداً من الأسئلة المهمة عن الجنوب الليبي وما يجري فيه، وهل الأمر مقصور على ليبيا فقط أم أن هناك خططاً إرهابية أوسع وأعمق تتصل باختراق «داعش» للقارة الأفريقية، وبناء هياكل تنظيمية له على الأرض في عدد من الدول المعروفة بضعف بنيتها الأمنية والاجتماعية؟
في بدايات العام الماضي كان الحديث عن انتشار الدواعش في شمال ليبيا، لا سيما في مدينة سرت الليبية، غير أنه مع الانكسار الذي حدث لهم هناك والقضاء على عناصرهم عام 2016 بدا كأن «داعش» يبحث عن أماكن أخرى في ليبيا تتوافر فيها عوامل البقاء، وأهمها أن تكون مناطق ذات كثافة سكانية ضعيفة، وأن تكون طرقها وعرة مما يصعب الوصول إليها، عطفاً على الانفلات الأمني فيها وضعف سيطرة الدولة عليها.
في هذا الإطار يمكن القول إن الجنوب الليبي هو أفضل الأماكن المتاحة للجماعات المتشددة بسبب الوضع الأمني الهش، وقربه من حدود الدول الأخرى، ما يسمح له بالمناورة والتحرك ووصول الإمدادات البرية والتمويل.
يشكل الجنوب الليبي جزءاً أساسياً في مسيرة «الدواعش»، خصوصاً أن تنظيم الدولة الإسلامية أعلن عن تأسيس «ولاية فزان»، وإن كان لم يتمكن من التوطين وحيازة نطاق جغرافي بعينه كما حدث في سرت، وهو ما يُرجعه البعض إلى صعوبة تقبل العامل القبلي للتوطين جغرافياً، وإن سمح له باختبار عناصره.
المؤكد أنه ليس «داعش» فقط الذي بدأ يحط رحاله في الجنوب الليبي، فهناك عصابات أجنبية عديدة تقوم بعمليات الخطف والتهريب والحرابة والسطو والتعدي على الممتلكات الخاصة في هذه المنطقة، التي تعرف عدم استقرار أمني وانتشار الفوضى فيها.
يستفيد «الدواعش» من حالة الانقسام السياسي القائمة في الداخل الليبي، وبالتبعية اختلال الأوضاع الأمنية، ولهذا يقيمون معسكرات لتدريب مقاتليهم في جبال «الهروج» البعيدة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن رقعة الجنوب واسعة والاختلافات فيه متكاثرة، لذا فإن حجم التحديات أكبر من قدرة الجيش الذي يعاني من النقص في الإمكانيات والتسليح. في هذا السياق يمكننا أن نشير إلى ما صرح به المهدي بركة الضابط بقوات الجيش ضمن كتيبة «خالد بن الوليد»، من أن حكومة الوفاق قد «تخلت عن الجنوب، ولا تزال تراوغ في دعم الجيش بسبب خلافات سياسية، بينما يعاني الجنوب الإهمال الكامل».
كيف يعمل «داعش» في جنوب ليبيا؟ بلا شك يعتمد مقاتلو التنظيم على استراتيجيات جديدة أبرزها التخفي والسرية، وتنفيذ عمليات مفاجئة، الأمر الذي يعتبره البعض دليلاً على ضعفه، غير أن السؤال المستقبلي المثير: ماذا عن جنوب ليبيا وبقية العمق الأفريقي، ودول الجوار التي يُرشَّح مدها بإرهابيين يدعمون خطط الدواعش لا سيما من ناحيتي تشاد والسودان؟

جنوب ليبيا مناخ جاذب
لا يمكن تقديم جواب عن السؤال المتقدم من دون التطلع إلى الأسباب الحقيقية التي جعلت من جنوب ليبيا تربة صالحة لاستقطاب الإرهابيين، دواعش كانوا أو غيرهم من جماعات الإرهاب المنتشرة هناك.
لم ينل الجنوب الليبي أهمية كافية من قبل، حتى في أيام القذافي، ومع الأخذ في الاعتبار أن إقليم فزان في الجنوب، وهو أحد الأقاليم الثلاثة الليبية الكبرى، والذي تبلغ مساحته نحو 550 ألف كم مربع، لا يقطنه سوى أقل من نصف مليون نسمة، على الرغم من أنه يضم معظم حقول النفط في ليبيا، وتنتج فزان قرابة نصف مليون برميل يومياً، كما يزود النهر الصناعي الذي ينبع من الجنوب الليبي مدن الساحل بقرابة نصف مليون برميل ماء يومياً... فإن التهميش والتجاهل من قبل السلطات الليبية لمطالب أهل الجنوب، سمح للميليشيات بملء الفراغ، وممارسة أنشطة غير شرعية مثل الاتجار بالبشر، وتهريبهم من أقصى الجنوب الليبي إلى سواحل أوروبا، عبر مدن شمالي ليبيا. والثابت أن الإهمال الحكومي الجسيم لجنوب ليبيا لا يتصل فقط بالأوضاع الأمنية، ولكنه ينسحب كذلك على الأوضاع الاقتصادية، وهي بلا شك مدخل جيد للإرهابيين الذين يجدون قنوات تمويل واضحة في الحل والترحال لا سيما من قبل قطر وتركيا بنوع خاص.
وتبدو العلاقة الليبية مع القارة الأفريقية من اتجاهين تستورد منها وتصدر إليها... كيف ذلك؟ قبل فترة نقلت صحيفة «التليغراف» البريطانية عن مصادر استخبارية أن «داعش» يسعى لتأسيس ما يطلق عليه «جيش الفقراء»، ويتكون هذا الجيش بالدرجة الأولى من مقاتلين يتحدرون من دول فقيرة قريبة من ليبيا مثل تشاد ومالي والسودان ونيجيريا، وأنه بحكم وقوع ليبيا على طريق المهاجرين غير الشرعيين الحالمين بـ«الفردوس الأوروبي»، يستغل فرع «داعش» ظروف فقراء قَدِموا إلى هذا البلد لعبور البحر، ويعرض عليهم مئات الدولارات للقتال في صفوفه... هل من إحصائيات رسمية حول الأعداد التي استقطبها الدواعش في جنوب ليبيا؟
ما تقدم هو الاتجاه الأول، أما الثاني فيتمثل في كون جنوب ليبيا هو المعبر الرئيسي إلى العمق الأفريقي، إذ تشير قراءات عديدة قدمتها الاستخبارات الأميركية إلى صناع القرار السياسي، إلى وجود نيات معمقة من قبل القائمين على «داعش» لاكتشاف حواضن بشرية جديدة تفيد على صعيدين، الأول كمورد للعناصر الإنسانية والمقاتلين الجدد، وهناك في عمق أفريقيا عشرات الآلاف الذين يمكن أن يضحوا رافداً خطيراً لـ«داعش»، والصعيد الثاني التمتع بملاجئ آمنة جغرافياً، سيما أن تضاريس العديد من دول أفريقيا الصحراوية تعد البيئة الأكثر ملاءمة لانطلاقة جديدة للدواعش، بعد أن تقطعت بهم السبل في العراق وسوريا، ووجدوا من الدعم الاستخباراتي القطري والتركي بنوع خاص، ما يسّر لهم الانتقال إلى ليبيا ومنها إلى عمق أعماق أفريقيا.
ولعل ما يساعد «الدواعش» وبقية الجماعات المتطرفة في تحقيق أهدافهم هناك.

الطريق إلى صومال جديدة
قبل بضعة أيام تساءل الباحث الإيطالي أرتورو فارفيلي رئيس مركز أفريقيا والشرق الأوسط في المعهد الإيطالي للدراسات الدولية، عن جنوب ليبيا بنوع خاص، وهل هي منطقة في طريقها للتحول إلى صومال ثانية؟
من المعروف للجميع أن الصومال قد عاشت ولا تزال عقوداً طويلة من الانفلات الأمني والسيولة غير المسبوقة، الأمر الذي جعلها مرتعاً جديداً لحركات أصولية من نوعية «حركة الشباب» أو «حزب الشباب»، وهي حركة قتالية تتبع فكرياً تنظيم «القاعدة»، لكنها أيضاً على صلة بدرجة أو بأخرى بـ«داعش»، سيما وأن الانقسامات في تلك الجماعات سهلة الحدوث في أي وقت. يقول فارفيلي إن الدواعش وبعد الغارات الأميركية في 2016 فرّوا إلى الجنوب، وإن «داعش» قد دخل مرحلة جديدة في ليبيا، حيث انتقل من التوسع الميداني إلى حرب العصابات، مشيراً إلى أن تنظيم «داعش» بصدد إعادة تنظيم نفسه، بقدرته على الضرب في أي مكان من البلاد، بما في ذلك العاصمة طرابلس.
ومع الإمكانية الكبرى للتواصل بين المتطرفين في جنوب ليبيا ونظرائهم في الصومال وغيرها من دول أفريقيا المعروفة بوجود جماعات متشددة على أراضيها، فإن ليبيا مهددة بشكل كبير بأن تتحول إلى صومال ثانية، حسب تعبيره. منوهاً إلى أنه من دون تقديم دعم للمجموعات المحلية التي يمكنها فعلياً مواجهة «داعش»، فإنه لن يكون للضربات الموجّهة ضد قيادات التنظيم أي تأثير على المدى البعيد.
وفي كل الأحوال يمكن القطع بأن الجنوب الليبي وفي ظل صراع القوى السياسية الليبية في الشمال، قد بات منطقة توسع طبيعية باتجاه أفريقيا جنوب الصحراء لتنظيم «داعش»، وهو في طريقه إلى تحويله كذلك إلى منطقة انكفاء في حال حصول تدخل دولي مكثف ضد حضوره في الشمال وعلى الساحل، والموقع والموضع يمكّنان تنظيم «داعش» من الاقتراب من شبكات أصولية وإرهابية في السودان، وتشاد، والنيجر، ومصر، بل وإقامة علاقة تنافسية مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، من دون أن نهمل القرب الجغرافي لجنوب ليبيا من منطقة دارفور، التي تمثل برميل البارود، والذي تخلت عنه الأسرة الدولية، ولهذا يبقى من الطبيعي أن تملأه قوى أخرى، حتى وإن كانت إرهابية.
ولم يكن الحديث المتقدم عن «الدواعش» في جنوب ليبيا تنظيراً فكرياً، بل بات حقيقة واقعة أكدها الاعتداء الذي حصل في بلدة «الفقهاء» التابعة لبلدية الجفرة في النصف الأول من شهر ديسمبر (كانون الأول)، حيث أدى إلى مقتل أربعة مدنيين، واختطاف عشرة آخرين من سكان البلدة، بالإضافة إلى شرطيين، ما يعني أن «داعش» قد نجح ولو بشكل جزئي في إعادة ترتيب صفوفه وأوراقه في الجنوب الليبي.
إلى ذلك تؤكد مصادر في الجيش والاستخبارات الليبية أن عناصر «داعش» قد تمكنت من التمركز في مناطق نائية في صحراء البلاد، ما يشير إلى إنهاء الخلافات التي كانت تدب بين قادة التنظيم، وأكدت المصادر عينها أن تمركزات التنظيم بدت أكثر قوة في مناطق محيطة بجبال الهروج والسوداء، جنوب ووسط جنوب البلاد، وهي مناطق محصنة طبيعياً وتتصل بالحدود الجنوبية المفتوحة، بالإضافة إلى ارتباطها بشبكة صحراوية تصل إلى أودية جنوب شرقي بني وليد جنوب شرقي طرابلس.
والتساؤل يفرض نفسه: هل تلعب العناصر المتطرفة في تشاد دوراً بعينه في أزمة جنوب ليبيا؟ يبدو أن ذلك كذلك بالفعل، إذ تتواصل تحركات العناصر الأجنبية في الجنوب الليبي، وعلى رأسها قوات المعارضة التشادية، التي تتخذ من أراضي الجنوب مسرحاً لتنفيذ أنشطتها داخل ليبيا وخارجها، وتتهم ليبيا العناصر التشادية بالمشاركة في عمليات خطف وابتزاز المواطنين والأجانب، وبتهريب الأسلحة إلى العناصر المقاتلة وفي المقدمة منها «داعش» ومقاتلوها، والذين تتعدد أسماء جماعاتهم، وبعضهم لم يكن من الدواعش في الأصل وإن أعلنوا لاحقاً التبعية الآيديولوجية مثل جماعة «مجلس شورى شباب الإسلام» الذي يعد من أبرز التنظيمات التي أعلنت انتماءها لتنظيم «داعش»، عبر إنشاء محكمة إسلامية وشرطة إسلامية، والتي قادت عمليات إعدام وجلد علنية، كما واصلت ارتكاب جرائم قتل جرت غالبيتها في بنغاري ودرنة.
وتبقى الإشارة إلى أن الجنوب الليبي يضحى نقطة ارتكاز مالية لـ«داعش» الذي فقد غالبية مصادره في العراق وسوريا، وذلك من خلال تهريب البشر، عبر الحدود، وكذا تهريب الأسلحة والسلع والبضائع، وأنواع الدخان المختلفة، وحتى المشتقات الطبية والمخدرات، لكي يتمكن من الإنفاق على نشاطه الإرهابي، وقطع الطريق على مناصري «القاعدة» من جهة ثانية.
الطريق إلى المواجهة
ويبقى التساؤل مطروحاً: كيف السبيل إلى مواجهة خلايا «داعش» في جنوب ليبيا، سيما وأن إمكانيات الجيش الليبي ضعيفة، وهناك حصار مضروب عليه من قوى خارجية، تمنعه من استيراد الأسلحة اللازمة، رغم تشدق تلك الأبواق الأممية بحتمية محاربة الإرهاب، في حين يقوم رجالاته بمقاتلة الإرهاب بالنيابة عن دول الجوار والمجتمع الدولي كله، الذي ينظر إليه ولا يدعمه، وتالياً يتهمه بالقصور؟
المؤكد أن الجواب يمضي في اتجاهين متشابكين، فهناك دور واجب على الليبيين أنفسهم في الداخل، وهناك كذلك واجب ملقًى على كاهل المجتمع الدولي انطلاقاً من أن مجابهة الإرهاب ليست شأناً مناطقياً، بل مهمة أممية، وبخاصة أن الجميع بات يكتوي بنيران الإرهاب في قارات الأرض الست.
بالقطع يبقى تردي الأوضاع الأمنية رجع صدى للأوضاع والأحوال المعيشية، ولهذا سيبقى الاستقرار في الجنوب بعيد المنال، في ظل استمرار غياب الأمن، وعدم إعادة الاعتبار للجنوب، الذي لم يشهد اهتماماً أو نهضة عمرانية تنموية ملموسة مستمرة عبر حقب متلاحقة.
هذا من جانب، أما الجانب الآخر داخلياً فهو توحيد الجهود الأمنية من خلال مؤسسة عسكرية واحدة، وخطط مواجهة موحدة، تمكِّنها من القضاء على الحضور الإرهابي على الأراضي الليبية. لكن يبقى هناك دور دولي خارجي لا بد منه، القسم الأول منه يتصل بدول الجوار الكبرى لا سيما مصر والجزائر، وكلتاهما قد عانت من نيران الإرهاب المدمر ولا تزال، ومعروف أنهما تبذلان جهوداً كبيرة معلنة وخفية في مساعدة ليبيا من أجل مواجهة جميع التيارات الأصولية على أراضيها. أما القسم الثاني فيثير كثيراً من التساؤلات وهو المتصل بأوروبا وبالولايات المتحدة الأميركية، اللتين تمنعان وصول الأسلحة المطلوبة للجيش الليبي لمطاردة فلول «داعش»، وهناك كثير جداً من علامات الاستفهام على قيادة «أفريكوم» في مناطق قريبة من ليبيا، ما يطرح تساؤلات عن جدية مطاردة الأميركيين تحديداً للإرهاب في أفريقيا عموماً. وفي كل الأحوال يبقى الرهان على الداخل الليبي، وعلى أن وحدة كلمة الليبيين هي الحل الأفضل، فلا أفضل من ظفرك لحك جلدك.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.