رواية متوحشة عن واقع أكثر توحشاً

«الاسم على الأخمص» للعراقي ضياء الجبيلي

رواية متوحشة عن واقع أكثر توحشاً
TT

رواية متوحشة عن واقع أكثر توحشاً

رواية متوحشة عن واقع أكثر توحشاً

ينهي جبيلي روايته بمشاهد تفجير قاسية، ليعيد طرح أسئلة الرواية الأساسية: كيف أصبح الإنسان يقتل أخاه باسم الدين؟ كيف تحولنا الأفكار إلى أعداء وقتلة؟
من المعروف أن الشخصية والحدث في الرواية يتتابعان ويتولدان من بعضهما البعض، وأن لكل شخصية القدرة على خلق حدثها الخاص، وأن كل حدث هو ثوب يليق بشخصية دون أخرى ليصيرا واحداً.
نجد هذا التماهي بين الحدث والشخصية في رواية الكاتب العراقي ضياء جبيلي «الاسم على الأخمص»، وهي سادس إصداراته الروائية - دار «سطور» (2018)، حيث اعتمد الكاتب على الشخصيات في توليد الحدث وصناعة الثيمة الأساسية للرواية، كأنه يقول إننا صناع حياة وإننا مسؤولون عن أفعالنا وإن حياتنا يمكن اختزالها في حكاية أو مجموعة حكايات، وبأننا كتاب تفاصيلها. ولقد اعتمد على المضادات سواء من خلال أوصاف الشخوص أو الحدث (الجريمة - العقاب، الحلال -الحرام، اليمين - اليسار...).
يستهل ضياء جبيلي روايته بجملة تصديرية لباسكال كينيارد: «إما أن العالم صغير جدا وإما أن الصدفة شيء غريب»، الجملة التي سيستحضرها القارئ وهو يتنقل بين أقسام الرواية، وتحديدا حين ينتقل من القسم الثاني للقسم الثالث ليجمع بين حكايات نعيم عبد الحميد و«السيد النائب». تنقسم الرواية إلى أربعة أقسام، تنتقل فيها الأحداث بين مدن عدة مثل البصرة العراقية ونيو أورليانز الأميركية وموسكو الروسية، فيما يجعل جبيلي من الشخصيات خالقة للحدث وإن كان هذا الخلق يأتي بدرجات متفاوتة.
تبدأ الرواية مع عبد الحميد وعبد المجيد، التوأمان العميان المتشابهان في كل شيء ما عدا ميولهما، فعبد الحميد يحفظ القرآن ويقرأه، صنعة أجداده، أما عبد المجيد فيتمرد على صنعة الأجداد ويتجه للاتجاه المعاكس ليصير موسيقياً ثم يتزوج هند أو هنودة الغجرية ليعيشا مبعدين عن بيت العائلة.
عوالم عبد المجيد جذبت نعيم، ابن الأخ المراهق الذي يخالف ما يحاول والده عبد الحميد ترسيخه فيه. عند هذا المنعرج يقذف الكاتب بقارئه في متاهة الخطيئة والعقاب، الخطيئة التي كان مفتاحها إغواء هند لنعيم ومن ثم قتل نعيم لعمه، وأيضاً قتل ابنته «آشلي» الأميركية، ليعود إلى العراق مختفيا ويلتحق بالتنظيمات الإرهابية.
بهذه الشخصية، والأحداث التي صنعتها، يريد المؤلف، كما يبدو، أن يطرح سؤاله الجوهري: من أين جاء هؤلاء؟ أو كيف يصبح الإنسان إرهابياً؟
تشدّ الرواية أيضاً الخيوط بين حكاية نعيم عبد الحميد، الذي يحاول أن يكفّر عن ذنوبه بتبني أفكار متشددة، وحكاية السيد النائب. وهذا الأخير كان قد تبنى في شبابه أفكار الشيوعية بالصدفة، ليصير فيما بعد لاجئاً سياسياً في روسيا أين يتزوج وينجب ابنه كوليا ومن ثم يتخلى عنه في أحد ملاجئ الأيتام من أجل أفكاره التي سرعان ما يتخلى هو الآخر عنها، وبعدها ينتقل إلى إيران منتقلاً أيضاً من أقصى اليسار لأقصى اليمين.
هنا لا بد من الإشارة إلى أن جبيلي تعمد ترك «السيد النائب» بلا اسم، في إحالة إلى مسألة التلوّن في الحياة السياسية، كأحد مظاهر الفساد في العراق، وأن السيد النائب ليس واحداً بل هو شريحة بأكملها تغير الأفكار كما تغير ثيابها.
على أرض العراق مرة أخرى، تتفجر أحداث الرواية، حين يجتمع كوليا الذي يُصبح أسد الشيشان بعوف عبد الحميد (ابن عبد الحميد وابن نعيم)، الجندي العراقي - الأميركي، والجامع بينهما هو الانتقام وإن كانت أسبابه مختلفة. كل مرة تتولد حكاية جديدة داخل الرواية فارضة السؤال: لماذا قررت الحروب أن تسكن أرض العراق؟
ينهى جبيلي روايته بمشاهد تفجير قاسية، ليعيد طرح أسئلة الرواية الأساسية: كيف أصبح الإنسان يقتل أخاه باسم الدين؟ كيف تحولنا الأفكار إلى أعداء وقتلة؟


مقالات ذات صلة

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

ثقافة وفنون «في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

ثمة خصوصية للنقد الأدبي التطبيقي حين يصدر عن مبدع عموماً وشاعر بشكل خاص، إذ تتحول الممارسة النقدية في تلك الحالة إلى غوص رهيف في أعماق النص بعين خبيرة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب الكاتبة والناشرة رنا الصيفي

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

رغم كل ما يقال عن فاعلية «تيك توك»، دون غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج للكتب،فإن المؤثرين الذين ينشرون مساهماتهم، ولهم باع على هذه المنصة...

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب أندريه سبونفيل

لماذا ترعب الأصولية الظلامية الفيلسوف الفرنسي سبونفيل؟

يُعتبر الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل أحد فلاسفة فرنسا الكبار حالياً. وقد كان أستاذاً في السوربون ومحاضراً لامعاً في أهم الجامعات الأوروبية والعالمية.

هاشم صالح
ثقافة وفنون سعيد حمدان الطنيجي

قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى القرن الـ19

يصدر قريباً عن مركز أبوظبي للغة العربية، كتاب «مائة قصيدة وقصيدة مغناة» من الشعر العربي، والذي يحتوي على قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى نهايات القرن التاسع

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
يوميات الشرق زينة صالح كيالي تسلط الضوء على موسيقيات من لبنان (المؤلفة)

زينة صالح كيالي لـ«الشرق الأوسط»: الجمهور اللبناني لا يعترف بموسيقييه الكلاسيكيين

هجرتُها إلى فرنسا عام 1987 وفَّرت لها اكتشاف أهمية الموسيقى في تكوين شخصية الناس. وهناك اطّلعت من كثب على الهوية الوطنية للتراث الموسيقي اللبناني...

فيفيان حداد (بيروت)

الروائية الكندية مرغريت آتوود تطرح أسئلة الساعة

مارغريت أتوود
مارغريت أتوود
TT

الروائية الكندية مرغريت آتوود تطرح أسئلة الساعة

مارغريت أتوود
مارغريت أتوود

يعرفها الكثيرون من خلال المسلسل التلفزيوني المأخوذ من روايتها المسماة «حكاية الخادمة» (1985). ويعرفها قراء الأدب كاتبة غزيرة الإنتاج لها أكثر من خمسين كتاباً ما بين روايات ومجموعات قصصية ودواوين شعرية وأدب أطفال وكتابات نقدية.

من هذا النوع الأخير كتاب مرجريت آتوود المسمى «أسئلة الساعة: مقالات ونصوص من وحي مناسبات 2004-2022»

Margaret Atwood، Burning Questions: 2004-2022 وهو صادر عن دار «فينتاج» للنشر في 2023.

ما أسئلة الساعة التي تطرحها آتوود هنا؟ إنها حقوق الإنسان، والحركة النسوية، والأدب والبيئة، وصعود نجم دونالد ترمب، والقصة القوطية، والصراعات على مصادر الطاقة، وكوارث العصر من مجاعات وحرائق وفيضانات. ثم هي تخرج عن هذا النطاق لتكتب عن عدد من الأدباء: وليم شكسبير، وتشارلز ديكنز، ودوريس ليسنج، وأليس مونرو، وراي براد بري، وستفن كنج وغيرهم.

وتتساءل آتوود في مقدمة الكتاب: «لماذا اخترت أن أسميه (أسئلة الساعة)؟». وتجيب: «لأنه يعالج قضايا ملحة في اللحظة الراهنة، جذورها ضاربة في الماضي ولكنها ستؤثر في المستقبل». وأول هذه الأسئلة هي مستقبل كوكبنا الأرضي. وهناك مشكلات الديمقراطية، وتوزيع الثروة، وثورة الاتصالات في العصر الرقمي، ووظيفة الكاتب في القرن الحادي والعشرين، وجائحة الكوفيد.

من مقالات الكتاب مقالة مؤرخة في 2014 موضوعها الروائي وكاتب اليوميات التشيكي فرانز كافكا. تسجل آتوود ثلاث لحظات في تاريخ علاقتها بهذا الأديب المعذب صاحب «المحاكمة» و«القلعة» و«أميركا» و«المسخ». كانت المحطة الأولى كتابتها في سن الـ19 مقالة عن كافكا أبرزت فيها علاقته برموز السلطة (وأولها أبوه في البيت)، وشعوره بالضعف والذنب وانعدام الحيلة إزاء لغز الوجود، وغربته العرقية واللغوية؛ إذ كان يهودياً يكتب باللغة الألمانية في مدينة براغ الناطقة باللغة التشيكية.

والمحطة الثانية هي زيارة آتوود - مع أسرتها - لمدينة براغ في 1984، ووقوفها أمام قلعة المدينة القائمة على تل عالٍ، فتتذكر قلعة كافكا وقلاعاً أخرى كتلك التي نلتقي بها في أقصوصة «قناع الموت الأحمر» لإدجار آلان بو، ورواية «آيفانهو» للسير ولتر سكوت، ورواية «دراكيولا» لبرام ستوكر.

والمحطة الثالثة كانت في تسعينات القرن الماضي، بعد سقوط النظام الشيوعي، حين زارت براغ مرة أخرى فوجدتها مدينة مرحة تلمع بالأضواء وقد تحولت قلعتها المرهوبة إلى مزار سياحي، وراحت فرقة موسيقية تنشد أغنية «سنوهوايت والأقزام السبعة» من فيلم ولت دزني، والمحال تزخر بالهدايا والتذكارات. وراحت آتوود تتجول مع زوجها في كل الشوارع والأماكن التي عاش فيها كافكا أو تردد عليها.

وثمة مقالة مؤرخة في 2020 عن رواية «نحن» (1921-1920) للروائي الروسي يفجيني زامياتين وهي من أهم روايات القرن العشرين التي ترسم صورة مخيفة لعالم كابوسي في المستقبل، شأنها في ذلك شان رواية «عالم جديد جميل» لأولدس هكسلي، ورواية «ألف وتسعمائة وأربع وثمانون» لجورج أورويل، ورواية «حكاية الخادمة» لآتوود ذاتها. لقد تعرفت آتوود على رواية الكاتب الروسي في وقت متأخر - في أواخر تسعينات القرن الماضي - قبل أن تكتب روايتها الخاصة.

وحين قرأتها دهشت لقدرة زامياتين على التنبؤ فقد كتب عن معسكرات الاعتقال، والتجسس على أخفى أفكار الناس ومشاعرهم، وسحق الفرد، وإقامة الحواجز والأسوار، والمحاكمات الصورية قبل أن يجعل هتلر وستالين من هذه الأمور حقائق على الأرض. ورواية زامياتين رد على الطوباويات المتفائلة كتلك التي كتبها في القرن التاسع عشر الأديب الإنجليزي وليم موريس وآخرون ممن انبهروا بالتقدم العلمي والتكنولوجي فظنوه قادراً، بعصاً سحرية، على إسعاد البشرية وحل مشكلاتها والتخفيف من آلامها.

ليس هذا الكتاب أول عمل لآتوود في مجال النقد الأدبي

وفي 2020 تكتب آتوود عن رواية للأديبة الفرنسية سيمون دي بوفوار كتبت في 1954، ولكنها لم تظهر إلا بعد وفاة بوفوار وذلك جزئياً لأن جان بول سارتر - شريك دي بوفوار في الفكر والحياة - لم يجدها جديرة بالنشر. عنوان الرواية «دون انفصال» وهي عن صداقة لا تنفصم عراها بين شابتين متمردتين. وتتخذ آتوود من صدور هذه الرواية مناسبة للتعبير عن رأيها في دي بوفوار والوجوديين عموماً. لقد وجدت في كتاب الأديبة الفرنسية المعنون «الجنس الثاني» ما ترتضيه وما ترفضه. وكانت على وعي بفارق السن والظروف بين دي بوفوار وبينها. هناك فارق الأجيال (دي بوفوار ولدت في 1908 بينما ولدت آتوود في 1939). وعلى حين عاصرت دي بوفوار حربين عالميتين، ورأت وطنها يقع تحت الاحتلال الألماني، فإن آتوود عاشت في كندا التي لم تُحتل ولم تُقصف بالقنابل.

وترى آتوود أن رواية «دون انفصال» جديرة بالقراءة، خلافاً لما ارتآه سارتر، وعندها أن خير كتابات دي بوفوار هي التي تسجل طفولتها وصباها وشبابها والحياة الفكرية في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها.

ليس هذا الكتاب أول عمل لآتوود في مجال النقد الأدبي، فقد سبق لها أن حررت كتاب مختارات من الشعر الكندي المكتوب باللغة الإنجليزية (1983)، وأخرجت كتاباً مثيراً للجدل عن الأدب الكندي، عنوانه «البقاء» (1972)، وكتاباً آخر عنوانه «تفاوض مع الموتى: كاتبة تتحدث عن الكتابة» (2002). وهي بصدور هذا الكتاب الجديد تؤكد مكانتها واحدة من ألمع الناقدات النساء في عصرنا، شأنها في ذلك شأن كويني ليفيس (زوجة الناقد الإنجليزي ف. ر. ليفيس)، وديانا تريلنج (زوجة الناقد الأمريكي لايونل تريلنج)، وماري مكارثي (زوجة الناقد الأمريكي إدموند ويلسون)، وسوزان سونتاج.

وقد جمعت هاتان الأخيرتان - مثل آتوود - بين الإبداع الروائي وكتابة النقد الأدبي ومراجعات الكتب. ولهذا النوع من كتابات المبدعات الناقدات أهمية مزدوجة؛ فهي من ناحية تلقي الضوء على الأدباء الذين تكتب آتوود عنهم. ومن ناحية أخرى تلقي الضوء على آتوود ذاتها؛ إذ توضح همومها الفكرية، ومشكلاتها التكنيكية، وتطور فنها، والمؤثرات التي دخلت في تكوينها الذهني والوجداني.