فرنسا للبريطانيين: النظام الجزائري سيسقط... استعدوا لحكومة الإسلاميين

وثائق سرية كشفت عنها لندن قدّمت صورة قاتمة للصراع مع الجماعات المسلحة عام 1994

صورة أرشيفية لأعضاء في جبهة للأنقاذ الإسلامية أثناء أحد تجمعاتها في الجزائر (غيتي)
صورة أرشيفية لأعضاء في جبهة للأنقاذ الإسلامية أثناء أحد تجمعاتها في الجزائر (غيتي)
TT

فرنسا للبريطانيين: النظام الجزائري سيسقط... استعدوا لحكومة الإسلاميين

صورة أرشيفية لأعضاء في جبهة للأنقاذ الإسلامية أثناء أحد تجمعاتها في الجزائر (غيتي)
صورة أرشيفية لأعضاء في جبهة للأنقاذ الإسلامية أثناء أحد تجمعاتها في الجزائر (غيتي)

هل كان الحكم الجزائري فعلاً على وشك السقوط عام 1994؟ هذا ما تُظهره وثائق سرية تتضمن معلومات منسوبة إلى وزراء ومسؤولين فرنسيين كانوا معنيين بالأزمة الدامية التي كانت تشهدها الجزائر آنذاك. النظام سيسقط. الإسلاميون سيسيطرون على السلطة. مئات آلاف اللاجئين سيتدفقون من الجزائر إلى جنوب فرنسا. أحجار «الدومينو» ستبدأ في التساقط، واحدة تلو الأخرى. إذا سقطت الجزائر في أيدي الجماعات المسلحة فإن تونس ستكون مهددة أيضاً. وكذلك المغرب. حتى مصر نفسها لن تنجو من تداعيات الجزائر.
لكن هذه الصورة السوداوية سيتبيّن أنها كانت خاطئة. النظام الجزائري لم يسقط. الجماعات الإسلامية المسلحة مُنيت بهزيمة منكرة. لم يتدفق اللاجئون إلى فرنسا، ولم تتساقط أحجار «الدومينو».
هذه قصة التقديرات الفرنسية الخاطئة للأوضاع في الجزائر في تسعينات القرن الماضي...
رسمت تقارير بريطانية سرية، نقلاً عن مسؤولين فرنسيين كبار، صورة قاتمة جداً للأوضاع في الجزائر خلال العام 1994؛ حيث كانت تدور مواجهات واسعة بين قوات الأمن وخليط من الجماعات الإسلامية المسلحة. وكشفت هذه التقارير التي تُرفع عنها السرية في الأرشيف الوطني البريطاني، اليوم (الجمعة)، 28 ديسمبر (كانون الأول)، أن الفرنسيين أبلغوا البريطانيين بأنهم يتوقعون انهيار الحكم الجزائري ووصول الإسلاميين إلى السلطة، وأنهم يعدون خططاً لاستقبال 500 ألف لاجئ جزائري يُتوقع أن يفروا من بلادهم عقب تغيير النظام.
وهذه المرة الأولى، كما يُعتقد، التي يُنقل فيها عن مسؤولين فرنسيين كلام بمثل هذا التشاؤم إزاء الأوضاع في الجزائر ومآلات القتال الذي كان يدور آنذاك بين القوات الحكومية والجماعات المسلحة. وقال المسؤولون الفرنسيون، وفق الوثائق الحكومية البريطانية، إن تقديرهم هو أن حكومة الرئيس اليمين زروال لن تستطيع الصمود طويلاً في مواجهة الإسلاميين المسلحين، وستحل محلها في سدة الحكم «الجبهة الإسلامية للإنقاذ». وكانت هذه الجبهة قد فازت في الدورة الأولى للانتخابات التشريعية في ديسمبر لعام 1991، لكن الجيش الجزائري ألغى نتائجها في مطلع 1992 وحل «الإنقاذ»، ما أدخل البلاد في صراع دموي استمر سنوات وأوقع عشرات آلاف الضحايا. وكان مبرر تحرك الجيش أن «الإنقاذ» التي كان عدد من قادتها يكفر علناً بالديمقراطية، تستغل الانتخابات للوصول إلى السلطة ولن تتخلى عنها إذا وصلت إليها، وهي اتهامات نفتها الجبهة آنذاك. وبعد وقف المسار الانتخابي وسجن القيادة السياسية لـ«الإنقاذ»، انخرط الآلاف من مناصريها في جماعات مسلحة مختلفة.
وتتحدث الوثائق البريطانية، في هذا الإطار، عن شكوى الفرنسيين من نشاط الإسلاميين الجزائريين على الأراضي البريطانية. في إشارة إلى ما اعتبره الفرنسيون تساهلاً من جيرانهم في التعامل مع الظاهرة التي باتت لاحقاً تُعرف بـ«لندنستان». وقاد الشكوى آنذاك وزير الداخلية الفرنسي شارل باسكوا الذي عُرف بموقفه المتشدد إزاء التعامل مع التهديد الأمني المرتبط بالإسلاميين الجزائريين، علما بأنه كان وزيراً في حكومة يمينية بقيادة إدوار بالادور (التجمع من أجل الجمهورية)، في حين كان رئيس الجمهورية فرنسوا ميتران اشتراكياً يسارياً. وتشرح الوثائق البريطانية أن أخذ موقف صارم في التعامل مع التهديد الإرهابي يُكسب صاحبه شعبية في فرنسا التي كانت تستعد لانتخابات رئاسية في العام المقبل، وهي انتخابات أسفرت فعلاً عن وصول اليمين إلى السلطة، لكن عبر جاك شيراك، وليس باسكوا أو بالادور.
وكُتبت التقارير البريطانية في وقت كانت فرنسا تعيش حالة غليان بسبب تهديدات وجهتها «الجماعة الإسلامية المسلحة»، أكثر جماعات العنف تطرفاً في الجزائر، والتي كانت قد قتلت 5 فرنسيين، بينهم اثنان من موظفي القنصلية، في هجوم على ضاحية عين الله غرب العاصمة الجزائرية.
وتنقل الوثائق البريطانية أيضاً عن الفرنسيين، أن الرئيس اليمين زروال لم يلبِّ دعوة ميتران لحضور احتفالات في ذكرى إنزال الحلفاء في جنوب فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، بسبب خشيته من حصول انقلاب عسكري ضده خلال غيابه عن الجزائر. ويبدو أن الوثائق تشير، في هذا الإطار، إلى مزاعم عن وجود صراع داخل نظام الحكم الجزائري في شأن طريقة التعامل مع ظاهرة العنف المسلح. ففي حين كان زروال يقود تياراً يدعو إلى الحوار مع الإسلاميين بما في ذلك قادة «الإنقاذ» الذين أفرج عن بعضهم، ونقل آخرين إلى الإقامة الجبرية، كان هناك تيار آخر يوصف بأنه «استئصالي» يرفض أي مساومة مع الجماعات المسلحة.
في أي حال، أثبت الحكم الجزائري، في النهاية، خطأ تقديرات الفرنسيين. فقد نجحت قواته الأمنية في إلحاق هزيمة ماحقة بالجماعات المسلحة، بحلول العام 1997. لكن خوف الفرنسيين من أعمال إرهابية تستهدفهم سرعان ما تحقق، إذ خطف مسلحون تابعون لـ«الجماعة المسلحة» طائرة لـ«إير فرانس» في مطار هواري بومدين بالعاصمة الجزائرية يوم 24 ديسمبر 1994، وأرادوا الطيران بها إلى باريس لتدميرها في برج إيفل، كما زُعم آنذاك، لكن عمليتهم فشلت، وقتلهم فريق كوماندوز فرنسي خلال توقف طائرتهم في مرسيليا للتزود بالوقود. ولا تغطي الوثائق البريطانية هذه الحادثة.

تفاصيل الوثائق
كتب كريستوفر مالابي، السفير البريطاني في باريس، تقريراً إلى وزارة الخارجية في لندن بتاريخ أغسطس (آب) 1994، جاء فيه...

ملخص
1 - باسكوا راضٍ عن التعاون البريطاني - الفرنسي في شأن الجزائريين في لندن. السياسيون (الفرنسيون) تتملكهم الكآبة، يتوقعون نظاماً لـ«الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في الجزائر، وهو أمر سيثير مشكلات في النظام العام في فرنسا.

التفاصيل
2 - واجهتُ وزير الداخلية باسكوا خلال إحدى المناسبات في جنوب فرنسا لإحياء ذكرى 50 سنة على إنزال الحلفاء هناك. قلت له إنني لاحظت تعليقاته بخصوص موقف حكومة صاحبة الجلالة من الجزائريين في بريطانيا. أعربت عن أملي أن يكون على معرفة بأن هناك اتصالات وثيقة بين الخبراء الفرنسيين وجهاز الأمن لدينا (المخابرات الداخلية). إننا مستعدون للمساعدة، وفق الحدود التي يسمح بها القانون البريطاني. (قلت له) إنني أعتقد أن الأجهزة الفرنسية راضية عن مستوى التعاون.
3 - قال باسكوا إنه أيضاً راضٍ. كان سلوكه ودوداً ومنشرحاً. أعتقد أنه أدلى بتعليقاته المهينة من أجل حرف الانتقاد عن السلطات الفرنسية بعد قتل مسؤولين فرنسيين في الجزائر (عملية عين الله). كنا قد لفتنا انتباه حكومته إلى التعاون الموجود بيننا بعدما أدلى للمرة الأولى بتعليقاته، وآمل أنه الآن في الصورة بشكل صحيح.
4 - قدّم لي عدد من الوزراء الفرنسيين إيجازاً بشأن المناقشة عن الجزائر خلال لقاء وزاري استدعاه ميتران، على ارتجال، على ظهر حاملة طائرات خلال احتفالات 14 أغسطس. الخلاصة (التي انتهى لها الاجتماع) أن «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ستسيطر على الوضع، ربما خلال شهور. الحكومة الحالية ليست قادرة على مواجهة التحدي ولن تتمكن من البقاء. رئيس الجمعية الوطنية (فيليب) سيغان (حزب التجمع من أجل الجمهورية) قال لي إن نظام «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» سيستخدم الجالية الجزائرية في فرنسا من أجل الإخلال بالنظام العام، مثلاً من خلال إثارة أعمال عنف، في ضواحي المدن الكبرى حيث النظام العام هش أصلاً؛ نتيجة البطالة والتوتر العرقي المستفحلين. هذا الأمر سيسبب ردة فعل من «الفرنسيين» البيض، ويمكن أن تواجه فرنسا فترة غير سعيدة إطلاقاً. هذا الأمر قد يحصل فعلاً حتى قبل الانتخابات الرئاسية في الربيع المقبل. علّق سيغان بالقول إن اليمين يسجّل نقاطاً في العادة على حساب اليسار بخصوص التعامل مع مشكلات النظام العام والهجرة.

تعليق
5 - هناك شعور بالعجز اليائس بخصوص آفاق «الوضع» في الجزائر، وتداعيات ذلك على فرنسا. باسكوا، بوصفه وزيراً للداخلية، صارم ومحارب، وسيكون شخصاً قوياً، وبالتالي صاحب شعبية، في محاولته التعامل مع تدفق اللاجئين ومشكلات النظام العام. طبيعة بالادور معتدلة وبراغماتية ويمكن أن يتقدم عليه شيراك في هذا الموضوع.
التوقيع... مالابي
وفي تقرير آخر من مالابي، بتاريخ أغسطس 1994، تحت عنوان «الجزائر... وجهات النظر الفرنسية»، جاء ما يأتي...

مختصر
1 - يتوقع الفرنسيون «صراعاً» يستمر على المدى الطويل، لكنهم يزدادون اقتناعاً بأن الإسلاميين سيسيطرون «على السلطة». الوزراء يعيدون تقييم خطهم بخصوص الدعم للنظام الحالي.

تفاصيل
2 - الاغتيال الأخير لـ5 فرنسيين في العاصمة الجزائرية، ورد الفعل الفرنسي الشديد، والتهديدات اللاحقة ضد فرنسا من جماعات إسلامية، كل ذلك، ضمن بقاء الجزائر في قلب اهتمام الحكومة الفرنسية، الإعلام والرأي العام. لقد ناقشنا التحليلات والسياسة الفرنسية بالتفصيل مع الوزراء الأساسيين والوكالات المعنية في الأيام الأخيرة. فيما يلي نتيجة الجمع بين الآراء الفرنسية المختلفة (الطرح ونقيضه)، وهي آراء متناسقة في شكل معقول.

الوضع الجزائري الداخلي
3 - قلة هنا توقعوا النجاح لحملة القمع التي شنّتها أجهزة الأمن الجزائرية في وقت سابق هذه السنة. وهي لم تكن ناجحة، ومستوى عمليات القتل عاد مجدداً للارتفاع كثيراً (التقديرات تتراوح بين 200 و400 قتيل أسبوعياً). الخاسرون الأساسيون هم الإسلاميون المعتدلون، الذين تم إسكاتهم أو صاروا متشددين. والمسار السياسي؛ «عرض» زروال الأخير للمعارضة يتم النظر إليه بكثير من التشكيك. يُنظر إليه (زروال) على نطاق واسع بوصفه دمية لا أكثر في أيدي العسكريين المتشددين. الفرنسيون الذين لدينا اتصال بهم يخبروننا أنه امتنع عن قبول دعوة ميتران إلى حضور احتفالات الذكرى الخمسين لإنزال الحلفاء في إقليم بروفانس في 14 و15 أغسطس، لأنه كان يخشى حصول انقلاب في غيابه.
4 - في ظل هذه الظروف، هناك إجماع واسع على أن النظام الحالي (في الجزائر) محكوم عليه بالسقوط. على رغم جهوده الشجاعة في مجال الإصلاح الاقتصادي، فإن العنف الذي تستخدمه قوات الأمن يجعل النظام غير شعبي في شكل متزايد. لكن قلة فقط تتوقع أن تنهار الأوضاع فوراً. القوات المسلحة ما زال يُنظر إليها على أنها متماسكة نسبياً وقادرة على مواصلة الكفاح لشهور. لكن هناك بعض الانشقاقات المنذرة بالشؤم بدأت في الظهور؛ حالات الفرار من الخدمة العسكرية يُعتقد أنها تتزايد، بما في ذلك بعض طياري سلاح الجو الذين ينقلبون على رفاقهم (طائرة «ميغ» واحدة، وطائرة مروحية هجومية). بلغ القلق من الانشقاق، كما يقال، حد إلغاء السفر الروتيني للخارج للمسؤولين الجزائريين.
5 - الرابحون هم الراديكاليون الإسلاميون الذين ينتعشون على أساليب النظام وغياب الدعم الشعبي عنه. الـ«كي» (الكي دورسيه - وزارة الخارجية الفرنسية) ترى تسارعاً ملحوظاً في هذا الأمر منذ الشهر الماضي (أي منذ محادثات غرين وبوشار في 8 يوليو (تموز) – راجع تقريرنا الرقم 783). نظام إسلامي في السلطة يُنظر إليه (هنا) على أنه يصير حتمياً في شكل متزايد. هناك ورقة يتم تحضيرها حالياً من قبل رئيس الوزراء، ترى حكومة لـ«الجبهة الإسلامية للإنقاذ» (في سدة الحكم) في غضون سنة أو سنتين. كما تم الاقتباس لنا من ورقة أعدها السفير الفرنسي في الجزائر (رجاء حماية هذا المصدر) الذي يعتقد أن «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ستصل إلى سدة الحكم في غضون 18 شهراً، حداً أقصى.
6 - هناك القليل من الوضوح بشأن كيف سيترجم الإسلاميون نجاحهم إلى قوة سياسية، أو كيف سيتم إعادة دمج القيادة السياسية لـ«الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في إطار الحركة، علماً بأن الراديكاليين سيحتاجون إليها في مرحلة من المراحل. الجماعات الإرهابية المختلفة لـ«الجبهة الإسلامية للإنقاذ» لا يُعتقد أنها تعمل بتنسيق فيما بينها. باستثناء الاتفاق على إسقاط النظام الحالي والاستحواذ على السلطة، يتم النظر إليها على أنها لا تملك أي خطة عمل مستقبلية (كوربوريت بلان)، على رغم أن خطف الدبلوماسيين أخيراً يتم النظر إليه على أنه إشارة إلى وجود نوع من الشبكة المنظمة التي يتم تطويرها بين بعض الجماعات المتشددة. الهجوم على محمية عين الله حيث تم قتل 5 فرنسيين تُعتبر بالتأكيد إشارة إلى تطور لافت في شكل متزايد وجرأة أكبر من جانب أبرز الجماعات (المسلحة).
7 - يتوقع الفرنسيون أن يروا تصعيداً في مستوى ومنسوب الأعمال الإرهابية التي يقوم بها الإسلاميون في الجزائر في الشهور المقبلة. الأدلة على إمدادات بالسلاح من الخارج، على رغم أنها ضئيلة (بما في ذلك العثور على بعض الشحنات هنا في فرنسا)، توحي للفرنسيين بأن الإسلاميين ربما يبنون ترسانة وأكثر. لا يمكن سوى أن يحسّنوا من قوتهم النارية أكثر، في حين أن قوات الأمن لا يمكن لها سوى أن تتراجع. مسار «تهريب السلاح» عبر ألمانيا وإيطاليا يُعتبر الآن هنا أنه طريق النقل الأكثر تفضيلاً. السلاح الجديد يمكن أن يستخدمه في شكل جيد «الأفغان» (الجزائريون) الذين تعلموا كثيراً في أفغانستان، والذين لم تسنح لهم حتى الآن سوى فرصة لخوض إرهاب على نطاق ضيق في الجزائر.

التداعيات الإقليمية
8 - الآراء منقسمة بشأن التداعيات على تونس، والمغرب، حتى مصر في حالة وصول نظام إسلامي إلى سدة الحكم في الجزائر. الجميع يتفق على أن جيران الجزائر سيواجهون تدفقاً للاجئين، إما فراراً من النظام الجديد وإما بسبب الحرب الأهلية التي ربما ستلي وصوله إلى سدة السلطة. هناك اتفاق على أن المغرب وتونس مجهزان في شكل أفضل من الجزائر للتعامل مع التهديد الأصولي، لكن البعض؛ خصوصاً في أوساط أجهزة الاستخبارات، يرى على رغم ذلك مجالاً لحصول ظاهرة تساقط أحجار الدومينو في شكل جامح. هناك لمسة من إثارة الذعر «عمداً» بخصوص هذا الأمر.

فرنسا - الجزائر
9 - أعدّ الفرنسيون منذ فترة خطط طوارئ استعداداً لاستقبال اللاجئين من الجزائر، في حال أخذ الإسلاميون السلطة. أولئك الذين لديهم حق قانوني للإقامة في فرنسا سيتم استقبالهم في مخيمات وسيتم توفير حاجاتهم في الجنوب حيث سيصلون في الغالب. ولكن ما زال هناك عدم اتفاق بشأن مستوى الهجرة الجماعية. من اللافت أن جهاز «دي جي إس إي» (المساوي لجهاز «أم آي 6»، أي الاستخبارات الخارجية) يقدّر العدد المحتمل للمواطنين الجزائريين الذين سيحاولون الوصول إلى فرنسا بنصف مليون. «الكي دورسيه» (وزارة الخارجية) أكثر تشككاً في صحة هذا التقدير.
10 - مثل هذا الدفق من الهجرة الجماعية سيسبب مشكلات أمنية على الأراضي الفرنسية، حتى لو كان ذلك بين الجزائريين أنفسهم. حتى هذه اللحظة، كما أشار باسكوا نفسه، ليس هناك تهديد إرهابي ملموس. حملة باسكوا الترهيبية ضد المتشددين الإسلاميين الجزائريين، بما في ذلك عمليات فحص الأوراق الثبوتية في شكل عشوائي وواسع النطاق، والعمليات ضد أهداف تحوم حولها شبهات غير واضحة، والتوقيفات تحت طائلة التهديد بالترحيل، التي طالت 24 من القيادات الإسلامية المتشددة، كانت كلها مثيرة للجدل. رأى سياسيون معارضون ووسائل إعلام في ذلك استفزازاً وأمراً يأتي بنتائج عكسية. كثيرون اعتبروها حركة سياسية في إطار الانتخابات الرئاسية «المقبلة». لكن باسكوا تلقى دعماً من «ألفيغارو» المنتمية إلى اليمين، وأيضاً وهذا الأهم أقرّ (آلان) جوبيه وبالادور علناً بالحاجة إلى توجيه «إشارة سياسية» لأي شخص مؤيد للأعمال الإرهابية ضد المصالح الفرنسية في الجزائر أو أي مكان آخر.
11 - قتْل الفرنسيين الخمسة في عين الله، وردّ فعل باسكوا على ذلك، الذي أدّى بكلّ من الإسلاميين والمعلقين إلى وصف السياسة الفرنسية بأنها عبارة عن دعم غير مشروط للنظام الجزائري، أرغم الوزراء الفرنسيين على أن يكونوا أكثر تحديداً في شأن سياستهم بخصوص الجزائر، مميزين «مدى» دعمهم لحكومة زروال. باشر جوبيه هذا الخطّ بمقابلة تلفزيونية في 11 أغسطس، وقد تكرر صداها بمقابلة إذاعية لبلادور في 14 أغسطس؛ أولوية الأولويات لفرنسا هي حماية مواطنيها في الجزائر (1500 يحملون الجنسية الفرنسية فقط). وفي فرنسا؛ الوضع الداخلي في الجزائر أمر يحله الجزائريون أنفسهم؛ فرنسا لا تقدم دعماً غير مشروط للنظام. ليس هناك حل أمني لمشكلات الجزائر. هناك حاجة إلى حل سياسي، بما في ذلك تنظيم انتخابات، عندما تسنح الظروف، (وقال جوبيه هذا الأمر لزروال عندما كان في العاصمة الجزائرية في نهاية يوليو)؛ واحترام حقوق الإنسان.

تعليق
12 – التمييز بخصوص الدعم الفرنسي للنظام، الذي في الواقع بدأ في الظهور للمرة الأولى خلال زيارة (رئيس الحكومة الجزائرية مقداد) سيفي لباريس (انظر التقرير 755. وهو غير موجه للجميع)، يندرج في إطار الاعتقاد القوي المتزايد هنا بأن النظام سيسقط. الفرنسيون عليهم أن يأخذوا في الاعتبار الآن تهديداً إرهابياً أكثر تعقيداً، يُبنى على بئر الامتعاض العميق الموجود في الجزائر ضد فرنسا.
التوقيع... مالابي

رضا مالك يغادر رئاسة الحكومة لمعارضته الحوار مع الإسلاميين
> في تقرير موجّه من السكرتير الخاص لوزير الخارجية البريطاني إلى فيليبا ليزلي - جونز في مقر رئاسة الحكومة في 10 داونينغ ستريت، بتاريخ 15 أبريل (نيسان) 1994، جاء أن رئيس الحكومة الجزائرية قد تم تغييره. وجاء في التقرير: «تم تعيين رئيس جديد للحكومة في الجزائر، السيد مقداد سيفي، بتاريخ 11 أبريل، بعد استقالة السيد رضا مالك. شغل السيد سيفي سابقاً منصب وزير العمل.
تعيين السيد مالك في منصبه قبل 8 شهور، تم كما يُعتقد بسبب خطّه المتقبل نسبياً لمطالب صندوق النقد الدولي في المسائل الاقتصادية. استقالته، التي جاءت مباشرة بعد توقيع الجزائريين على مذكرة نيات مع صندوق النقد الدولي، ربما تكون نتيجة معارضته الحوار مع الأصوليين الإسلاميين. استغل الرئيس (زروال) الفرصة لجلب رئيس للحكومة يكون أكثر تعاطفاً مع جهود السعي إلى حل متفاوض عليه؛ لإنهاء النزاع المسلح الخطير مع الأصوليين الإسلاميين.
رئيس الحكومة الجديد شغل عدداً من المناصب الرفيعة في الحكومة، ولا سيما في قطاعات الصناعة، الطاقة والاقتصاد.
سيكون من الصواب أن يكتب رئيس الوزراء (جون ميجور) رسالة تهنئة إلى السيد سيفي. ربما سيود أيضاً أن يرسل رسالة إلى السيد مالك (الذي كتب له رئيس الوزراء في 31 ديسمبر لتشجيعه على الاتفاق مع صندوق النقد الدولي). أرسل مرفقاً مسودتي رسالتين (إذا قرر رئيس الوزراء إرسالهما)».
وكان رئيس الوزراء البريطاني قد وجّه في 31 ديسمبر 1993 رسالة إلى رضا مالك رداً على رسالة وجّهها الأخير، بتاريخ 28 نوفمبر (تشرين الثاني). وجاء في رسالة ميجور...
«تواجه الجزائر أزمة صعبة. نعرف أنكم تسعون إلى فتح حوار سياسي مع الجماعات السياسية غير العنيفة في الجزائر. ندعمكم في هذا الجهد.
إنني سعيد بالاطلاع على التقدم المهم الذي حققتموه في تطبيق الإصلاحات الاقتصادية، والخبرة التي اكتسبتموها من التعاون مع صندوق النقد الدولي.
أرحب بقراركم فتح حوار مع صندوق النقد بخصوص برنامج متكامل للصندوق. أتمنى لكم التوفيق في هذا المسعى. عندما يتم التوصل إلى اتفاق على برنامج ويتم تقديمه إلى المجلس التنفيذي، سننظر فيه، كعادتنا، بطريقة بناءة وحيادية. يمكنكم أن تطمئنوا بالحصول على دعمنا لبرنامج سليم لصندوق النقد دعماً لهيكلة الاقتصاد، مع الأخذ في الاعتبار انعكاسات ذلك اجتماعياً.
لقد سعدت بالسماع عن الزيارة الناجحة لتيم إيغار، وزير الطاقة، في نوفمبر. وعلى رغم أن الزيارة كانت قصيرة، أفهم أنه تم بحث كثير من المسائل ومناقشة عدد من الفرص التجارية. كما أنني متشجع أكثر برؤية (بي بي) أيضا في مفاوضات متقدمة مع (سوناطراك) من أجل التطوير المشترك لاحتياط كبير من الغاز في جنوب غربي الجزائر. إذا ما تم نجاح (المفاوضات) فسيضمن هذا المشروع دوراً بريطانيا كبيراً في تطوير مصادر جديدة (للطاقة) مهمة استراتيجياً».



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.