تشهد الهند أزمة اقتصادية زراعية كبرى مع اندلاع موجات تلو الموجات من المسيرات الاحتجاجية التي تضم الملايين من المزارعين في غير موضع من البلاد خلال هذه الأيام. وتعد الزراعة من أهم وأكبر قطاعات الاقتصاد الهندي، إذ يسهم القطاع الزراعي بنسبة 15 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ويوفر فرص العمل لنحو 50 في المائة من إجمالي القوى العاملة في الهند. وتعكس احتجاجات المزارعين الهنود حقيقة الاضطرابات العميقة بين سكان المناطق الريفية في البلاد، حيث يرتفع القلق من تضاؤل الأرباح الزراعية بسبب اضطرار أكثرية المزارعين إلى سداد مستحقات الديون المتراكمة عليهم. ويطالب المزارعون بتحسين أسعار المنتجات الزراعية والإعفاءات الحكومية فيما يتعلق بسداد الديون المقترضة من المصارف المحلية.
يقول الصحافي الهندي بي. كيه. بالاشاندران: «ازدادت الشروط التجارية مع القطاعات الاقتصادية الأخرى سوءاً خلال السنوات الأخيرة، كما تراجع الاستثمار الحكومي في القطاع الزراعي كثيراً مقارنة بالاستثمارات في قطاعات أخرى مثل القطاع الصناعي. وفتح الائتمان الرسمي المجال لمزيد من تكاليف الائتمان الباهظة للقطاع الخاص».
- المحنة الراهنة
توجهت أغلب السياسات الحكومية صوب المناطق الحضرية، ما أسفر عن حالة غير مسبوقة من عدم المساواة، الأمر الذي أدى إلى اشتداد الأزمة المالية في المناطق الريفية الهندية. وتبدى هذا الأمر بصورة مستمرة عبر العقدين الماضيين، بحسب آراء الخبراء.
وبصرف النظر عن أسعار السلع العالمية، التي انخفضت بواقع 25 في المائة عن ذروتها المسجلة في عام 2014، فإن السياسات الهندية الداعمة للمستهلكين، والمستقلة تماماً عن السياسات التجارية، هي من العوامل المساعدة في استمرار انخفاض أسعار المنتجات الزراعية الهندية. ورغم أن الهند لا تفرض الضرائب على الزراعة، فإن الأمر انتهى بالمزارعين الهنود لسداد 14 في المائة ضرائب على إجمالي الإيرادات الزراعية خلال الأعوام الـ17 الماضية. وقال أشوك غولاتي، خبير الاقتصاد الزراعي الهندي: «إن سياساتنا الخاصة بالمزارعين هي في واقع الأمر معنية بتأييد المستهلكين وليس المنتجين. وأسفرت ضوابط الأسعار المفروضة، فضلاً عن الرقابة الصارمة على الصادرات، إلى إفقار المزارعين الهنود».
ووفقاً لمؤسسة الأبحاث الاقتصادية الحكومية الهندية «نيتي آيوغ»، (المؤسسة الوطنية للتحول الهندي المنشأة منذ 3 سنوات لتحل محل لجنة التخطيط القديمة)، فإن متوسط نمو الدخل للأسرة الزراعية، بين عامي 2011 و2016، كان 0.44 في المائة فقط، ما يعني بالأساس حالة من الركود الشديد في دخول المزارعين، (لكن التكاليف في ارتفاع مطرد منذ ذلك الحين، في حين أن الدخل يعكس التضخم على أساس شهري خلال الفترة نفسها، وبلغ تضخم أسعار الغذاء نسبة 2.8 في المائة).
ويقول يوغندا ياداف، أحد أبرز زعماء الاحتجاجات الحالية ومؤسس إحدى جمعيات المزارعين الهنود: «بالنسبة إلى غالبية المزارعين، فإن الدخل لا يتجاوز 50 دولاراً في الشهر. وهذا هو المستوى الذي يعيشون عليه. ومن أبرز أسباب ذلك هو عدم حصول المزارعين على أسعار معقولة للمحاصيل التي ينتجونها».
ولا يعتبر انخفاض أسعار المحاصيل المشكلة الوحيدة بالنسبة للمزارعين الهنود، إذ تشكل أنماط الطقس المتقلب بصورة متزايدة تحدياً جديداً وقوياً في بلد يعاني نصف مزارعيه تقريباً من مشكلة توافر مياه الري، حيث تتعرض أغلب المحاصيل، باستثناء الأرز والقمح، إلى التلف في مكانها بسبب ارتفاع الواردات ونقص مرافق التخزين البارد، فضلاً عن سياسات السوق الحرة الحكومية غير المقيدة التي أسفرت عن ظهور طبقة الوسطاء الانتهازيين بأكثر من أي وقت مضى. وتستند هذه الاحتجاجات إلى البيانات التي تكشف تراجعاً واضحاً في الاقتصاد الزراعي الهندي، مع تراجع ربحية القطاع الزراعي. وأظهر التعداد السكاني في عام 2011، وللمرة الأولى منذ الاستقلال الهندي في عام 1947، أن المناطق الحضرية الهندية قد استقبلت كثيراً من السكان مقارنة بالمناطق الريفية في البلاد. وانخفض تعداد المزارعين إلى أكثر من 8.6 مليون نسمة حتى عام 2011. ومع انتقال المزارعين إلى حياة المدن أو تحولهم إلى عمال، فقد ارتفع تعداد العمال المتحولين من الزراعة في البلاد لأكثر من 37 مليون عامل، وفقاً لآخر الإحصاءات الزراعية ذات الصلة. وبحسب مختلف الدراسات المعنية، فإن نحو نصف المزارعين الهنود قد أعربوا عن رغبتهم في ترك العمل بالزراعة، غير أنهم لا يستطيعون ذلك بسبب نقص وسائل العيش البديلة.
ويقول سايناث الباحث المختص في المجال الزراعي، إن الحكومات المتعاقبة كانت تحاول الدفع بالمزارعين خارج القطاع الزراعي، وبالنسبة إليهم، كانت الطريقة المثلى إلى ذلك هي تحويل الاقتصاد الزراعي إلى جحيم لا يُطاق. وقال آجاي فير جاخار، أحد كبار المزارعين المشاركين في الاحتجاجات: «فشلت الحكومة في توفير الدعم الكافي للاستثمار في الدخل للمزارعين. وهناك القليل للغاية من الوظائف خارج القطاع الزراعي التي يمكنها دعم ذلك القطاع».
ووفقاً إلى موقع «إندياسبند» الإلكتروني، فإن الهند قد زرعت مزيداً من الحبوب الغذائية في عام 2017 أكثر من أي وقت مضى، وارتفعت الميزانية الزراعية الحكومية بنسبة 111 في المائة خلال السنوات الأربع حتى 2017 - 2018. ومع ذلك، فقد تهاوت الأسعار، وارتفعت الديون الزراعية غير المسددة بنسبة 20 في المائة، إذ عجزت أكثر من 600 مليون أسرة زراعية هندية عن تلبية الاحتياجات الأساسية. وتنفق نحو 70 في المائة من الأسر الزراعية البالغ عددها نحو 90 مليون أسرة بأكثر مما تكسب في المتوسط على أساس شهري ما يدفعهم دفعاً إلى الاستدانة، وهو السبب الرئيسي لأكثر من 50 في المائة من حالات الانتحار بين المزارعين الهنود، حسب تقدير الدراسات. وتمثل حالات انتحار المزارعين نسبة 11.2 في المائة من إجمالي حالات الانتحار المسجلة في الهند.
ويبدو أن قطاع الشركات قد سطا على القطاع الزراعي في البلاد عبر التواطؤ مع الحكومات المتعاقبة التي قررت تسليم الأرباح الزراعية إلى حفنة مختارة عوضاً عن ملايين المزارعين. وتعرض القطاع الزراعي كذلك لصدمة شديدة مع لجوء رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى سياسات صارمة لمكافحة الفساد والقضاء على الأموال السوداء وإيقاف العمل بالفئات الكبيرة من الروبية الهندية. يقول الخبير الاقتصادي آرون كومار: «على الرغم من تفاقم الأزمة الريفية عبر السنوات، أسفر وقف تداول الفئات النقدية الكبيرة عن نقص كبير في السيولة النقدية منذ عامين وأثر بشدة في دخول المزارعين. وفقد كثير من المزارعين رؤوس أموالهم، واضطروا للاقتراض من المصارف أو من المرابين المحليين بأسعار فائدة باهظة، ومن ثم ارتفعت التكاليف كثيراً. ولذلك، مع ارتفاع التكاليف وانخفاض الإيرادات يتلاشى الدخل».
- حلول مقترحة
تكمن المشكلة الحقيقية في فهم الطبيعة المتغيرة للزراعة. إذ صارت الزراعة الهندية في الآونة الأخيرة أكثر تنوعاً مع زيادة كثافتها.
وارتفعت تكاليف الزراعة مع ازدياد الحاجة إلى السيولة النقدية وصعود الميكنة الزراعية. ويستلزم الحل طويل الأجل توفير الاستثمار الزراعي إلى جانب آلية دعم الأسعار التي تراعي انعدام الكفاءة في الأسواق. ومن شأن هذه السياسة أن تتطلب وجود استثمارات واسعة في مشاريع البنية التحتية، والوصول إلى الأسواق، والتخزين، والتكنولوجيا، وإحياء القطاع غير الزراعي لاستيعاب العمالة الفائضة من القطاع الزراعي.
ويقول ديفيندر شارما، المحلل في السياسات الغذائية والتجارية: «تحتاج الهند إلى استثمارات هائلة في قطاع الزراعة، وفي الوقت نفسه، توافر القدرة الاقتصادية لدى المزارعين. هناك نحو 600 مليون مواطن هندي يعملون في القطاع الزراعي (أو ما يقارب ضعف سكان الولايات المتحدة الأميركية). وأفضل وسائل تنمية البلاد هي توفير مزيد من الدخل في أيدي المواطنين الفقراء، لأنه بتوافر هذه الأموال في أيديهم، يتحرك الطلب صعوداً ومن ثم تتحرك عجلة التنمية إلى الأمام».
وإذ إنه لا مجال لاختلاف الآراء بشأن محنة المزارعين في الهند، فإن زيادة الحد الأدنى لدعم الأسعار لا يمكن أن يكون الحل المنشود. ويقول المحللون إن الهند قد تضطر إلى الاستعانة بالعلوم في حل تلك المشكلات، إذ إن الحد الأقصى من التكلفة المرتفعة يؤدي إلى ارتفاع الحد الأدنى لدعم الأسعار، ما يؤدي إلى تفاقم المشكلات في القطاع الزراعي وليس حلها.
ووفقاً إلى الخبير الاقتصادي غولاتي، فإن «توفير دعم الدخل للمزارعين هو الخيار الأفضل من توفير دعم الأسعار، لأنه لن يؤثر سلبياً في الأسواق. ووفرت الصين، على سبيل المثال، دعماً لدخل المزارعين بقيمة 22 مليار دولار على أساس الأراضي التي يمتلكونها. ومن شأن الهند محاكاة هذه التجربة محلياً».
وانتقد البرلماني فارون غاندي من حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم آراء خبراء الاقتصاد الذين يؤيدون دفع الإتاوات المالية إلى القطاع الصناعي ولا يوافقون في الوقت نفسه على تدابير مماثلة للقطاع الزراعي.
واقترح فارون غاندي في كتابه المعنون «البيان الريفي: بلوغ المستقبل الهندي عبر القرية» بعض الحلول المعنية بتهدئة المخاوف الريفية الهندية الشائعة. وقال: «يمكن توزيع الإعانات الحكومية الكبيرة لشراء المعدات الزراعية والأسمدة والمبيدات، في حين يمكن توسيع مظلة التأمين الصحي من خلال خطة الرعاية الصحية الوطنية».
وعلاوة على ذلك، ينبغي دفع الأجور للمزارعين الهامشيين مقابل حراثة الحقول الخاصة بهم، ما يؤدي إلى تقليل تكاليف المدخلات، فهم لا يستطيعون تحمل تكاليف العمالة الزراعية الأخرى ويعتبرونها غريبة من الناحية الاجتماعية أن يحرث مواطن أرض مواطن آخر. ومن شأن هذه التدابير أن ترفع من الدخل الصافي لدى المزارعين، وتقلل من نطاق الضائقة المالية الريفية. مع مزيد من الاهتمام ورعاية المزارعين الهامشيين في الهند عبر اتخاذ القرارات الصحيحة لدعمهم.
- السقوط السياسي
وصل ناريندرا مودي إلى السلطة في الهند على وعود بمضاعفة الدخل الريفي في البلاد بحلول عام 2022. بيد أن خيبة الأمل باتت شديدة الوضوح بين جموع المزارعين ومن شأنها أن تشكل تحدياً كبيراً أمام مودي الذي يسعى لإعادة انتخابه في العام المقبل، إذ يمثل المزارعون كتلة تصويت انتخابية مهمة للغاية، بحسب المحللين السياسيين.
ويقول ساتيش ميسرا، من مؤسسة الأبحاث والمراقبة في نيودلهي، إن «المعارضة المحلية تتصاعد في مواجهة مودي. وما لم تحظَ بدعم الريف، فلن يمكن لأي حزب سياسي الفوز اعتماداً على الدعم الحضري فقط، فالمحنة الريفية الحالية حقيقية ومؤلمة. وينبغي التعامل مع القضية الزراعية بطريقة فائقة العناية والتركيز».
محنة الاقتصاد الزراعي الهندي تتفاقم
دعم المستهلكين والاهتمام بالمناطق الحضرية أديا إلى تردي الزراعة
محنة الاقتصاد الزراعي الهندي تتفاقم
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة