إرهاب إيران في البلقان

طهران تنشئ محطات استخباراتية في البوسنة وألبانيا وصربيا لخدمة مخططاتها

عناصر من «الباسيج» الايراني في استعراض قوة أمام المقر السابق للسفارة الأميركية في طهران (أ.ف.ب)
عناصر من «الباسيج» الايراني في استعراض قوة أمام المقر السابق للسفارة الأميركية في طهران (أ.ف.ب)
TT

إرهاب إيران في البلقان

عناصر من «الباسيج» الايراني في استعراض قوة أمام المقر السابق للسفارة الأميركية في طهران (أ.ف.ب)
عناصر من «الباسيج» الايراني في استعراض قوة أمام المقر السابق للسفارة الأميركية في طهران (أ.ف.ب)

إلى أين يمضي الإرهاب الإيراني حول العالم؟ تساؤل يحتاج لإجابات معمقة، لا سيما أن الجبهات الإرهابية الإيرانية التي تظهر للعلن هي أقل، في واقع الحال، من تلك التي ترتب لها طهران في السر، وفي الحالين يتعاظم الخطر الإيراني على نحو غير مسبوق. بدايةً يعرف القاصي والداني أبعاد الشر الإيراني في الخليج العربي، وبقية دول الشرق الأوسط، الذي تزخمه أطراف ميليشياوية تتبع إيران آيديولوجياً؛ تبدأ من الحوثيين في اليمن، مروراً بالحشد الشعبي في العراق، و«حزب الله» في جنوب لبنان، نهاية بـ«حماس» في قطاع غزة.
ولعلَّ آخر الأحاديث عن خطط إيران الإرهابية، ذاك المتصل بما تقوم به في منطقة دول البلقان، وكيف تسعى إلى تحويلها لمنطقة لوجيستية تنطلق منها عملياتها الإرهابية في عموم القارة الأوروبية... وهناك تساؤلات لا تتوقف، بعد أن باتت أوروبا تغطُّ في نوم عميق تجاه المخططات الجهنمية الإيرانية، بل وتمضي في طريق معاكس تماماً، أي أنه بدلاً من عقاب إيران على إرهابها الظاهر والخفي، تبدو كمن يدعمها في سيرتها ومسيرتها العنيفة، وذلك من خلال الحديث عن آلية اقتصادية لمساعدة الإيرانيين على مواجهة العقوبات الاقتصادية الأميركية، وأن يكون مقر تلك الآلية فرنسا، وتُدار بواسطة ألماني الجنسية، في ازدواجية أخلاقية واضحة وفاضحة.
المتابع للتحركات السياسية والدبلوماسية الإيرانية يمكنه أن يرصد تكالباً واضحاً من طهران لجهة التعاون مع دول البلقان؛ فقد أكد حسن روحاني، الرئيس الإيراني، على أهمية تنمية العلاقات مع دول البلقان، لا سيما ألبانيا، الأمر الذي اعتبره يصبُّ في مصلحة شعوب المنطقتين، حسب تصريحه، غداة استقباله السفير الألباني الجديد غير المقيم في طهران غنت غاجلي، وقد لفت روحاني، كعادة إيران في استخدام ما لديها من فوائض أموال لشراء المزيد من الولاءات، إلى وجود فرص كبيرة للتعاون في مختلف القطاعات التجارية والاقتصادية لدى البلدين.
الأمر عينه تكرَّر عند استقبال روحاني نظيره الصربي توميسلاف نيكوليج، حين زار إيران زيارة غير رسمية، إذ أشار إلى أن طهران وبلغراد لديهما إمكانيات واسعة ويمكن الاستفادة من هذه الإمكانيات لتوسيع التعاون وتحقيق مصالح الشعبين، وفي اللقاء نفسه ارتدى روحاني ثياب الحملان، حين أشار إلى انتشار العنف والإرهاب في المنطقة وحول العالم، وأنه على مقاومي الإرهاب أن يتحدوا من أجل مكافحته.
وفي مارس (آذار) الماضي، قام وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بجولة في أربع دول بلقانية استهلَّها من صربيا، ثم بلغاريا وكرواتيا، واختتمها بالبوسنة والهرسك، هدفت ولا شك إلى كسر العزلة المفروضة على إيران، وكسب جانب من التحالفات الشرق أوروبية لصالح إيران، إلى جانب إظهار إيران في موقع وموضع الضحية حول العالم، غير أن التساؤل الحقيق بنا طرحه: ما الهدف الحقيقي من السعي الإيراني في دول البلقان؟
قبل بضعة أيام، كانت مصادر استخباراتية أميركية مطلعة تكشف لموقع «ذي غلوب بوست» الشهير النقاب عن قيام النظام الإيراني بتأسيس قاعدة استخباراتية لعملياته الإرهابية في دول البلقان، بعد أن فشلت جهوده السابقة في إنشاء محطات عملياتية، وبيوت آمنة، لتدبير هجمات إرهابية من داخل دول الاتحاد الأوروبي، لا سيما أن بعضها قد تم الكشف عنه، كما في يونيو (حزيران) الماضي، عندما فشلت خطة لرجالات وعملاء الحرس الثوري الإيراني، بقيادة أحدهم، أسد الله أسدي، المتنكر في زي دبلوماسي في ألمانيا، بمحاولة الاعتداء بالمتفجرات على تجمُّع للمعارضة الإيرانية في فرنسا، ما أدى لاحقاً لاعتقال عملاء إيرانيين في كل من فرنسا وألمانيا وبلجيكا والدنمارك والسويد والنرويج.

عملاء في بلغاريا ومقدونيا وكوسوفو
وتشير الاستخبارات الأميركية أخيراً إلى أن الإيرانيين آخذون في نشر عملائهم سراً في دول مثل بلغاريا ومقدونيا وكوسوفو وغيرها، لتكون قواعد لوجيستية للتخطيط لعملياته الإرهابية... لكن لماذا دول البلقان وأي مزايا - ولو من ناحية سلبية - تتوفر فيها لخدمة المخططات الإيرانية المستقبلية؟
يمكن القطع بداية بأن الوجود الإيراني في تلك المنطقة، وإلى درجة بعيدة، كان ضئيلاً، ولم يأخذ تركيزاً كافياً من طهران، ولهذا فإن هناك فرصاً واضحة لبلورة مسارات دبلوماسية جديدة قريبة من أوروبا، وإن على الأطراف منها.
الأمر الآخر الذي يمكن رصده بسهولة هو أن دول البلقان يمكن النظر إليها بوصفها منصات «لوجيستية» هادئة وبعيدة عن أعين وكالات الأمن والاستخبارات العالمية، عطفاً على ذلك فإن الأحوال السياسية المضطربة في داخلها، والتصارع بل والتنازع بين مكوناتها الإثنية والعرقية، يفتح مجالاً واسعاً للاختراق الآيديولوجي أو الدوغمائي معاً ودفعة واحدة، وهذه فرصة ذهبية لإيران التي خبرت طويلاً اللعب على المتناقضات من الناحيتين السابقتين.
ولعلَّه من البديهيات القول إنه حينما ينتشر ويعم الاضطراب والقلاقل السياسية، فإن الفساد الاقتصادي يستشري بصورة كبيرة، وفي ظل مثل هذا الفساد يمكن لأموال الملالي أن تفعل ما تريد من خلال شراء النفوس والذمم، وجعل أطراف أوروبا الشرقية مرتعاً للجريمة والإرهاب الإيرانيين المنظمين.
وإضافة إلى ما تقدَّم، فإن الموقع الجغرافي لمنطقة البلقان يقدم لإيران نقطة عبور إلى وسط وغرب أوروبا، ويبدو أن طهران كانت تعمل وفي هدوء على جعل تلك المنطقة مسكونة بأشباحها عبر العقود الثلاثة الماضية، وكأنها كانت ترتِّب أوراقها في غفلة من أوروبا ووكالات استخباراتها، تلك التي تراخت في تقدير الموقف في البلقان، بينما نجحت إيران، ومن أسف، في تحديد «أضعف حلقة» في حلقات الأمن الأوروبي لاختراق القارة العجوز... هل من أمثلة في السابق القريب توضح لنا حقيقة ما قامت به إيران في تلك المنطقة قبلاً؟
ربما يتذكر البعض ما جرى في عام 2012 في بورغاس ببلغاريا عندما نفَّذ أحد عناصر «حزب الله» هجوماً انتحارياً على حافلة كانت تقل سياحاً، مما أسفر عن مقتل 5 وسائق الحافلة البلغاري، وإصابة 32 آخرين، وقد كانت الحافلة تقل سياحاً إسرائيليين في مطار المدينة، وأعلنت السلطات البلغارية لاحقاً، في 18 يوليو (تموز) 2014، أن الرجل الذي فجَّر الحافلة هو محمد حسن الحسني، المنتمي إلى «حزب الله»، أي إحدى أذرع إيران للقتل والإرهاب حول العالم.
والشاهد أن الأيادي الإيرانية الخبيثة لا تكتفي باستخدام عملائها بشكل مباشر، وإنما أضحت قادرة على بلورة شبكات إرهابية موالية من أبناء المنطقة الأصليين، وهذا ما كشف عنه هجوم عام 2011 على السفارة الأميركية في البوسنة، الذي نفذه الصربي ميفليد غاسا روفيتش، بمساعدة شركائه الذين كانوا يتجمعون فيما عُرِف بـ«قرية الجهاديين» البوسنية في غوارينا موكا، ما أظهر نطاق ومدى وصول الشبكات الإيرانية على الأرض، وكذلك روابطهم بمختلف المجموعات المتشددة في البوسنة.
والمقطوع به أن أعمال إيران الإرهابية، لا سيما مطاردتها للمعارضين لنظامها القمعي في أوروبا، لم تكن لتغيب عن أعين الفارين من جحيم الملالي، ولهذا كشف مصدر في مجلس المقاومة المعارض الإيراني في باريس عن أن استخبارات النظام الإيراني تتعقب عناصر «مجاهدي خلق»، الجناح العسكري للمكسل في ألبانيا، وأن إيران قد قامت بتأسيس وحدة استخباراتية خاصة داخل سفارتها في العاصمة تيرانا للتجسس على أعضاء التنظيم المرحَّلين من العراق.
الشاهد أن هناك تقريراً استخباراتياً شهيراً قد صدر عام 2013، ولفت النظر إلى ما تقوم به أطراف إيران، لا سيما «حزب الله» في أوروبا عامة، والبلقان خاصة، وقد كانت الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية بنوع خاص وراءه، غير أن الكثيرين لم يلتفتوا إليه في وقتها، فقد كان العالم برمته، لا سيما الشرق الأوسط، منشغلاً إلى درجة القلق والخوف القاتلين في مواجهة ومجابهة موجة الأصولية المتصاعدة، التي نجمت عما أُطلق عليه «الربيع العربي»، الذي لم يكن سوى شتاء أصولي جرَّ المرار والدمار على المنطقة وسكانها.
ولاحقاً بعد انتهاء الحرب وسيناريوهات التقسيم، عرفت إيران جيداً كيف تكسب ولاءات كثير من الشركاء المحليين، الأمر الذي أكسبها نفوذاً في مختلف قطاعات المجتمع، ووكالات الأمن وإنفاذ القانون المحلية، التي لا تزال مستعدة للتعامل مع إيران، ووصل الأمر إلى حد تصريح الرئيس الصربي نيكوليج، عند لقائه بحسن روحاني بالقول: «إن مقاومة إيران الصلبة في زمن العقوبات والانتصار في المفاوضات النووية يدلان على قوة الثقافة وحجم هذا البلد الكبير»، في تقريظ لا تخطئه العين للسياسات الإيرانية، خصوصاً الموجَّهة من قبلها للولايات المتحدة الأميركية، وحلفائها في المنطقة، ولإسرائيل بنوع خاص... مَن هو وكيل الإرهاب الإيراني الآن في دول البلقان؟ بلا شك يبقى «حزب الله» هو الوكيل الأول والرئيس، ويقوم بالدور ذاته الذي يقوم به في أميركا اللاتينية، ويسافر نشطاء الحزب إلى تلك المنطقة بجوازات سفر من بلدان غربية، حصل عليها أصحابها عادة من خلال عمليات لجوء سياسي مغشوشة وخداع للسلطات الأوروبية، الأمر الذي يتيح لهم الآن حرية أكبر في التنقل وتفادي شكوك السلطات المحلية، فعلى سبيل المثال استخدم إرهابيو حادث بلغاريا جوازات سفر أسترالية وكندية، وأخرى لبعض دول أوروبا الغربية.
وعودة إلى السؤال المتقدم: لماذا الآن يتم الكشف ومن جديد عن تلك العلاقة؟
يبدو أنه الخوف الأوروبي الذي بات يدرك اقتراب صحوة الخلايا الإيرانية النائمة في الداخل الأوروبي، وذلك بسبب اقتراب زمن الافتراق الإيراني - الأوروبي... كيف ذلك؟ خلال الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن، التي نُوقِشَت فيها الأزمة الصاروخية الإيرانية، بات جلياً أن الاتحاد الأوروبي وعلى لسان مندوبه قد بدأ في توجيه الاتهامات لإيران بشكل مباشر، التي تعمل على تهديد أوروبا من جانبين؛ فمن الخارج تبقى الصواريخ الإيرانية التي تطال جنوب القارة الأوروبية، وهناك مرجعيات أخرى تشير إلى أنها تطال قلب أوروبا سواء في الوقت الحالي أو عما قريب.
تقرير «صوت أوروبا» يؤكد على أن «حزب الله»، ومن خلال الدعم المالي واللوجيستي الإيراني، تمكَّن من زراعة خلايا في كثير من دول البلقان، لا سيما بلغاريا والبوسنة، إلا أن ذلك لم يحظ بالاهتمام الإعلامي، وبحسب مصادر استخباراتية للإذاعة التي تمثل «صوت أوروبا»، فإن بعض عناصر «حزب الله» يعملون في فارنا والعاصمة صوفيا في بلغاريا، وبعضهم عبروا الحدود مع صربيا كسياح وعملوا على تشكيل الخلايا هناك.
يكشف أحد أعضاء «حزب الله» الموجودين في بلغاريا، للموقع الإعلامي الأوروبي، حقيقة وجود خلايا لـ«حزب الله» في الداخل الأوروبي، إذ يشير إلى أن الحزب نجح في تكوين تلك الخلايا من خلال مواطنين لبنانيين يتم إرسالهم للدراسة أو بصفتهم رجال أعمال، حيث يتلقون مساعدات مالية من «حزب الله» لاستكمال تعليمهم والمساعدة في تجارتهم، وأيضاً فإن بعضهم سبق أن تلقوا تدريباً عسكرياً قبل وصولهم إلى بلغاريا، في حين أن آخرين منهم تزوجوا بلغاريات واندمجوا في المجتمع، والأكثر إثارة أنه بعد الأحداث في سوريا، وقبلها العراق، تم تجنيد عناصر سورية وعراقية للانضمام إلى شبكتهم في البلقان من قبل «حزب الله» وإيران... هل أخفقت أجهزة الأمن الأوروبية في الاستعداد للأسوأ الإيراني الذي لم يأتِ بعدُ على أراضيهم؟ يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، فأوروبا التي انشغلت الأعوام الماضية في مواجهة اليمين القومي المتطرف المتصاعد في ألمانيا وهولندا، وفي إيطاليا والنمسا، وفي المجر وأخيراً في إقليم الأندلس جنوب إسبانيا، قد عطلت النظر في عوامل، مثل تآكل الثقة بين أصحاب المصلحة المحليين، والافتقار إلى الاهتمام الدولي، والمشكلات المتعلقة بتقاسم المعلومات الاستخبارية في الوقت المناسب، وهذه جميعاً وفَّرت للإيرانيين أجواء مريحة، جعلت الرئيس روحاني يهدد أخيراً بأنه حال التضييق على إيران فإن «تسونامي» من المخدرات والعنف يمكن أن يلفَّ العالم بأكمله، ومن قبله وأكثر من مرة أشار جنرالات «فيلق القدس» (الجناح الأكثر دموية في الحرس الثوري الإيراني) إلى وجود خطط جاهزة للانتقام حال تعرضت إيران لعمليات عسكرية من قبل الولايات المتحدة، وبالضرورة أيضاً سيكون لأوروبا نصيب من هذا الإرهاب.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».