«الاستشراق»... حطم أصناماً عدّها الغربيون أوصافاً للشرق

كما عاصفة هائلة هبت قبل 40 عاماً، كان كتاب «الاستشراق» للمفكر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد (1935 - 2003) - (صدرت الطبعة الأولى عام 1978). لقد تجرأ أخيراً مفكر صعد من قلب المؤسسة الثقافية الغربية ذاتها على كشف ما يشبه مؤامرة فكرية ضخمة استمرت قروناً طويلة وشاركت في صياغتها بوعي أو من غير وعي أشهر عقول الغرب؛ من أسخيليوس الإغريقي، إلى جوزيف كونراد البولندي المتأنجلز، واتسعت لتشمل رجال (ونساء) دولة ودبلوماسيين ومؤرخين وعسكريين وفنانين وأدباء وجواسيس ومغامرين ولصوص آثار، بل ولم يسلم منها كارل ماركس نفسه الذي كان نقض أسس الفكر المثالي الغربي جلها لكنه مضى قبل أن يفكك هذا «الاستشراق الذي صار مهنة»؛ كما وصفه مرة بنجامين ديزرائيلي في القرن التاسع عشر.
عاصفة سعيد «الاستشراقية» كأنها جاءت إلى أرض عطشى. لقد نجح كتاب أكاديمي الطابع، شديد المرارة على من أغلق عقله وقبل تراكم تصورات الآباء والأجداد بشأن الآخر على عواهنها، في التحول إلى واحد من أكثر الكتب الفكرية مبيعاً، وتلقفه أكاديميون كثيرون عبر العالم بوصفه نصاً مرجعياً مؤسساً لا غنى عنه، وممراً إجبارياً لكل من يريد فهم أو نقد الظواهر الثقافية المعاصرة. لقد كان العالم بحاجة لعقل مثل سعيد كي يفهم نفسه.
«الاستشراق» غادر مكانه بصفته كتاباً منذ وقت مبكر بعد نشره؛ إذ أزهر كما جنة فكرٍ التجأ إليها كل المهمشين سواء في الغرب والشرق، تعلو فيها أصواتهم نقداً وتفكيكاً وتحطيماً لأوهام ما لبثت تجترحها المجموعات البشرية عن الآخر المختلف لتكتسب تلك الأوهام سلطة «الحقيقة»، فتكرس الفرقة وتخدم مصالح المستفيدين من تصارع البشر وتشييد جدران الهويات المفتعلة بينهم. رويداً رويداً، توسعت تلك الجنة لتكون مدرسة فكرية تنظر لقراءة ما بعد كولونيالية لكل منتجات الثقافة من الرواية والمسرح، إلى التاريخ والفنون، مروراً بخطابات السياسة المعاصرة على تلاوينها يميناً ويساراً.
قدم سعيد في «الاستشراق» قراءة أعمق بكثير من مجرد الكشف عن التوظيف السياسي للوهم خدمة لأغراض الهيمنة والاستغلال الاقتصادي؛ التي ربما هي نتائج أكثر منها نقطة انطلاق. لقد سبح المفكر الكبير في أهوال بحر الذات الغربية مسائلاً أبعد مآزق نفسيتها الجمعية ليرسم لها كيف وقعت بتآمر نخبتها رهينة صور منعكسة في مرآة مشوهة يرفعها الغرب أمام وجهه فتريه حصراً نقيض كل اعتقاد له عن هوية ذاتية متخيلة في صورة آخر معروف مجهول معاً سُمي شرقاً، أو «شرق أوسط» أو غيرها من التعيينات المنحازة حتى قبل أن تبدأ بالتعيين.
حطم «الاستشراق» أصناماً عدّها الغربيون أوصافاً للشرق: عوالم الرقص الشرقي والتعهر، الذي لم يكن يتجاوز قصور النخب الفاسدة كما في أي ثقافة أخرى، وقصص «ألف ليلة وليلة» المتخمة بالرموز الجنسية، وصور البدو والجمال بالقرب من الأهرامات كأنها كل ما كانت عليه حواضر هذه الجهة من العالم، وغيرها من اللقى المجتزأة التي كانت تعمم لأنها تلقى هوى في النفسية الغربية. لكن أعظم ما حطمه «الاستشراق» كان تلك الهالة الكاذبة عن موضوعية وتجرد الجهود البحثية والتسجيلية التي بذلتها أجيال من المختصين حتى قبل حملة نابليون بونابرت الفاشلة عسكرياً على فلسطين ومصر، إلى موظفي مراكز الأبحاث الغربية المعاصرة الذين تفرغوا لرسم معالم هذا «الشرق» المزعوم سواء جراء هوس شخصي غير مفهوم أو ارتزاقاً في خدمة جهود الإمبراطوريات المتعاقبة: بريطانية وهولندية وإسبانية وفرنسية وبرتغالية وهنغارية بداية ثم أميركية لاحقاً.
وهكذا انقلب وصف «المستشرق» من صورة عالم جليل غريب الأطوار متبحر في تفاصيل الآخر؛ لغته أو فنونه أو تاريخه أو شعره، إلى عميل مشبوه يتعيش من بيع الأوهام وسموم الأفاعي خدمة لمصالح المتنفذين. ربما لم يقصد سعيد الوصول إلى تلك النتيجة الأخيرة في تعميم الاشتباه بكل من يتخصص في قراءة ثقافة الآخرين، لا سيما أن بعضهم كانت له مساهمات لا تقدر بثمن في اكتشاف وتنسيق وتنظيم وحماية معالم ثقافية كثيرة، وفي كسر ديماغوجيات حكمت، وما زالت تحكم للأسف وإلى حد كبير، مناهج التفكير والاستعانة بالتراث في غير ما مكان عبر «الشرق». لكن «الاستشراق»؛ كما أي كتاب مفصلي مؤسس، يأخذ بعد إطلاقه في دنيا الأفكار مسار حياة أو حتى حيوات أخرى مستقلة عن غايات كاتبه، فتكونت عنه قراءات متوازية كثيرة «خارج المكان» وخارج الزمان ربما اضطر سعيد بنفسه أحياناً لمراجعتها ونقدها وإعادة تأطيرها في كتبه ومقالاته وأحاديثه اللاحقة.
وللحقيقة؛ فإن كثيرين ممن تبعوا سعيد أخذوا ملخصات عن فكره وتبنوها لما فيها من كشف للسحر والسحرة دون أن تسنح لهم الظروف بقراءة نصوصه كاملة في مظانها، أو هم قرأوها ترجمات متدرجة الخيانة للنص الأصلي، أو معزولة بالكلية عن النسق الفكري الذي شكله سعيد في النقد الحديث وكتاباته اللاحقة، أو حتى عن المناخ الذي فيه أنتجت تلك الأفكار الثورية. هذا الاستسهال في تناول «الاستشراق» - وكما كل تسرع عند استعارة الأفكار الخطيرة - تسبب في نشوء قراءة متعسفة ذات اتجاه واحد عن عنف التمثيل والاستغلال المحض وسرديات بديلة نقيضة لسرديات الغرب تقع وإن بشكل معكوس في النقائص ذاتها التي يُذم من أجلها المستشرقون. هذه القراءات المنحرفة الكثيرة عن «استشراق» سعيد تفتقد إلى فهم خلاصة ما ذهب إليه الرجل - وهو عازف بيانو وموسيقي مبدع - من وصف العلاقة بين طرفي العالم بأنها أقرب إلى تبادل وتناغم بين معزوفتين (أو أكثر) تتوازيان وتغنيان تجربة الوجود دون أن تلغي أي منهما الأخرى بقدر ما تجعل مقاطعهما المفردة أوقع فعلاً.
لقد كان «الاستشراق» فكرة كسرت سقوفاً زجاجية كثيرة، وأثارت جدالات لا تنتهي، ودفعت بالنقاش الثقافي بشأن الهويات والمرجعيات والمعاني إلى فضاءات شاسعة مضيئة لم تكن ممكنة قبله. لكن هذا النقاش الذي يكتسب اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، أهمية جذرية في أجواء صراع هويات مستعادة وحروب ثقافية تأخذ أبعاداً سياسية جارفة، صار فضاء تبتلعه الظلال ولا «سعيد» له، ما يلبث يتسطح ويخفت ويضمحل لمصلحة الجيل الجديد من المهيمنين الذين لا عيش لهم دون تعليبنا وتشطيرنا ووضعنا في مواجهات وجودية مع آخرين متخيلين، نراهم نقيضين وهم مثلنا ضحايا مهما اختلفت ألوانهم. فالرجل الذي كان في حياته جسراً ذا عقل وقلب يقوم بمهمة الوصل بين العوالم بكل الحب والتفهم والخيال، وحارساً نبيلاً للوعي الجمعي الإنساني من كل ذئاب المصالح وأبواق الإمبراطوريات، ترجل ومضى دون أن يتولى مكانه أحد.
أربعون عاماً على طبعة «الاستشراق» الأولى؛ أمر يستدعي الاحتفال ليس بصفة نوستالجية - مهما استحق الكتاب ومؤلفه التبجيل -، بقدر ما هي نقطة إعادة تمركز في مواجهة التنانين التي انفلتت تملأ هذي الأوقات المظلمة. احتفال كهذا يكون أقله بإعادة التوغل في قراءة النص الأصلي من جديد مع إسقاطه على تمظهرات «الاستشراق» المستعادة التي كنا نظن أن «سعيد» قضى عليها، لكنها تأبى أن تموت.