السنعوسي فاز بالبوكر.. والشباب السعودي أضاف لرصيد الثقافة.. والفن سجل نقطة جديدة

مؤتمر الأدباء السعوديين وفيلم «وجدة».. واستقلال الإذاعة

السنعوسي فاز بالبوكر.. والشباب السعودي أضاف لرصيد الثقافة.. والفن سجل نقطة جديدة
TT

السنعوسي فاز بالبوكر.. والشباب السعودي أضاف لرصيد الثقافة.. والفن سجل نقطة جديدة

السنعوسي فاز بالبوكر.. والشباب السعودي أضاف لرصيد الثقافة.. والفن سجل نقطة جديدة

مثل فوز الروائي الكويتي، سعود السنعوسي، بجائزة البوكر العربية، على روايته «ساق البامبو»، واحدا من أبرز منجزات المثقفين الخليجيين. فقد منح هذا الفوز للرواية الكويتية إطارا من التتويج بعد رحلة ناهزت النصف قرن.
وفي حين راح بعض المثقفين السعوديين يعددون الأحداث الثقافية التي مرت بها بلادهم، وتلك التي تمثل محطات بارزة، كان لافتا أن هناك من وجد أن الثقافة السعودية راوحت مكانها خلال عام 2013، ولم تقفز إلى الأمام، على الرغم من أنها حافظت على وتيرتها في الحركة.
يلخص الناقد أحمد بوقري، ما يعده «رتابة المشهد الثقافي»، بالقول: «حفل مشهدنا الثقافي هذا العام بانتفاء كل بواعث الفعل الثقافي البسيط، فهناك انتخابات متعثرة، ونواد أدبية بلا مرتادين، وحركة نشر بطيئة، وإنتاج أدبي فقير يشرئب نحو الخارج، ومكتبات متقلصة على قرطاسياتها ومستهلكاتها، وصفحات ثقافية تقتات على ما يقال لا على ما تقول».
لكن مثقفين آخرين رأوا أن هناك أحداثا مهمة مرت بها السعودية وشارك فيها الشباب، منها التواصل والحراك داخل وسائط التواصل الاجتماعي، وانتعاش حركة النشر، والقراءة، ودخول أعداد واسعة من المشتغلين بالشأن الثقافي، إضافة إلى انعقاد مهرجانات كبيرة وواسعة.

* مؤتمر الأدباء السعوديين
كما بين الشاعر جاسم الصحيح، أن من أهم الأحداث الثقافية في السعودية خلال عام 2013، كان انعقاد مؤتمر الأدباء الذي خرج بتوصيات عدة بالاهتمام بالمسرح وبالمراكز الثقافية، ورفع سقف الرقابة. وأضاف: «كما أن هذا العام حمل لي حدثا ثقافيا مميزا وهو فوز ديواني (ما وراء حنجرة المغني) بجائزة البابطين». وطالب وزارة الثقافة والإعلام بالاهتمام بإعادة جائزة الدولة التقديرية، وإيجاد جوائز كبرى للمبدعين في المجالات الأدبية.
كذلك يؤكد الأديب الدكتور سلطان القحطاني، أن السعودية شهدت في عام 2013، عددا من الفعاليات الثقافية المتميزة عن سابقاتها. وقال إن أولى تلك المنجزات، كان وجود هيئة مستقلة عن وزارة الثقافة والإعلام باسم «هيئة الإذاعة والتلفزيون»، حين حصلت الإذاعة فيها على استقلالية، وانفصلت إذاعة جدة عن البرنامج العام، وتحولت إلى شبابية ثقافية.
وأضاف: «أما الثاني، فهو انعقاد مؤتمر الأدباء السعوديين الرابع في المدينة المنورة عاصمة للثقافة الإسلامية. وقد تميز هذا المؤتمر عن سابقيه (الثاني والثالث)، بمشاركات الشباب، ومشاركة البلاد العربية ببحوث عن الأدباء والأدب في السعودية، وما كتبه الأدباء العرب عن البلاد».
أما الثالث، برأي الدكتور القحطاني، فهو انعقاد ملتقى نادي مكة المكرمة، في دورة استثنائية عن الأدب والثقافة والحدود بينهما. وكان ملتقى مثمرا ومفيدا، من حيث التفاعل والحضور وجدية الأبحاث والنتائج والحوارات المثمرة وتكريم أصحاب الجهود الثقافية، من أبناء مكة، مما جعل هذا حافزا لتكريم أبناء المناطق الأخرى في دورات أنديتهم.

* الشباب والثقافة
الدكتور عبد الله السفياني، مدير الموسوعة العالمية للأدب العربي، يقول: «في نظري إن أبرز ما يميز العامين الأخيرين، وعام 2013 تحديدا، هو بروز الحراك الشبابي في مجال اللقاءات والإصدارات من كتب ودواوين شعرية، بالإضافة إلى نشاطهم في شبكات التواصل الاجتماعي، مع ملاحظة تنافس دور النشر على الأسماء المتميزة في هذه الشبكات، وطبع إنتاجها الورقي وتسويقه».
ويرى القاص محمد الشقحاء، أن إصدارات كرسي الأدب السعودي يعد من أهم الأحداث الثقافية في السعودية خلال العام الماضي. وهذا الكرسي صادر عن جامعة الملك سعود، وقد قدم رسائل ودراسات علمية حول أدباء سعوديين ومنتجهم الأدبي وسيرهم الذاتية، فتناول غازي القصيبي وحامد دمنهوري وغيرهم من الأدباء والمبدعين.
في حين ذكر يوسف العارف، عضو نادي جدة الأدبي، أن تعيين الأمير خالد الفيصل وزيرا للتربية والتعليم، يعد خاتمة مسك لسنه 2013، عادا أن الأمير خالد الفيصل يمثل نقلة نوعية في الثقافة السعودية. فهو من أطلق عددا من المبادرات الثقافية، مثل مؤسسة الفكر العربي، وسوق عكاظ، وغيرهما.
ورأت عفاف المحيسن، أن أهم الأحداث الثقافية كان «اختيار المدينة المنورة عاصمة للثقافة الإسلامية».

* تراجع
بعض المثقفين السعوديين لم يجدوا في عام 2013 حدثا تمكن الإشارة إليه كعام يمثل حالة استثنائية عن العام السابق له. وتقول الشاعرة زينب غاصب: «لا يوجد حدث ثقافي مهم خلال عام 2013. فهناك حاله تراجع بسبب التصويت في الأندية الأدبية، وانتخاب أشخاص ليس لهم أي صلة بالثقافة للعمل في الأندية، مما أدى إلى هذه الحالة من التراجع».
كذلك لا يرى الأديب والإعلامي الدكتور صالح المحمود، حدثا بعينه يمكن الإشارة إليه، وقال: «لم أجد شيئا بارزا، ربما نحن بحاجة ماسة إلى هز المشهد وخلخلته لنخلق النوعي». لكنه أضاف: «الجديد ثقافيا: معرض الرياض للكتاب، والمهرجان الوطني للثقافة والتراث (الجنادرية)، وإقامة ملتقيات الأندية، وغيرها». وبرأيه فإن هذه المناسبات «لم تستطع تقديم فعل ثقافي مختلف ونوعي طيلة السنوات الماضية».

* فشل على صعيد الأندية
وأشار القاص فهد المصبح، إلى أن من أهم الأحداث الثقافية التي جرت خلال عام 2013، كان فشل وزارة الثقافة والإعلام في حل مشكلات الأندية الأدبية، وخصوصا نادي الشرقية الأدبي، مؤكدا وجود إشكالية لم تحل وهي موقف الوزارة من الأندية الأدبية.
بينما يرى الأديب الدكتور أحمد قران الزهراني، أن معظم الفعاليات الثقافية فعاليات مكررة تحدث كل عام. وقال إننا نطالب بتجديد وتطوير الفعاليات التي تقدمها وزارة الثقافة والإعلام مثل إقامة مؤتمر للشعر العربي، والرواية العربية، أو الفنون التشكيلية، أو جائزة كبرى للمبدعين في المجالات الأدبية تكون مختلفة عن جوائز الأندية الأدبية.
في حين عد القاص طاهر الزارعي، استقالة مدير عام الأندية الأدبية حسين بافقيه، بعد ثلاثة أشهر من تعيينه، بالحدث الأبرز في الحالة الثقافية السعودية. وكانت الاستقالة أحدثت أصداء واسعة عند الأدباء والمثقفين.
بينما رأت الإعلامية منيرة المشخص، أن أهم حدث كان الاحتفاء باللغة العربية، وتكريم الدكتور محمد أحمد الرشيد من قبل وزارة الثقافة والإعلام.

* الفن السعودي
وقال الشاعر محمد خضر: «أعتقد أن عمل الفنان عبد الناصر غارم في مزاد دار كريستي بدبي، يعد منجزا رائعا لفنان من السعودية. وقد حقق عمل تركيبي بعنوان (قبة الكابيتول) للفنان السعودي عبد الناصر غارم، مبلغ 545 ألف دولار». كذلك أشار خضر إلى نجاح فيلم «وجدة» للمخرجة السعودية هيفاء المنصور، وإلى دخول أرامكو السعودية هذا العام، في رعاية الثقافة والإبداع، من خلال معرضها «إثراء المعرفة» الذي أضاف قدرا من «التواصل مع المجتمع».
ويقول خضر: «على الصعيد الشخصي أصدرت مجموعتي الشعرية (منذ أول تفاحة) في بداية العام، وقرأت ما يقارب 48 كتابا جديدا في فروع مختلفة في الفن والأدب والفكر والثقافة العامة.

* دليل لأدب الطفل
أما الأديبة والكاتبة هيلة البغدادي، عضو نادي تبوك الأدبي، فتقول: «من الأحداث الثقافية على مستوى العربي، انعقاد (المنتدى العربي السنوي للتطوير التربوي 2013) الذي عقدته مؤسسة الفكر العربي من خلال مشروع (عربي 21)، حيث شارك فيه عدد من الوزارات والمؤسسات الثقافية والتربوية».
كما أن المؤسسة أطلقت أيضا أول دليل عربي لـ1021 كتابا مصنفا لأدب الطفل العربي، وذلك بدعم مشترك بين مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية وشركة أرامكو السعودية، بهدف بناء المكتبات الصفية المصنفة في المدارس، تماشيا مع التوجه العالمي لتشجيع الأطفال على تعلم القراءة، والرغبة في المطالعة باللغة العربية.

* البوكر للكويت والبابطين يحمل حوار الحضارات إلى أوروبا
* يرى الناقد والروائي السوري عدنان فرزات، الذي يعمل في الكويت، أن فوز الروائي الكويتي سعود السنعوسي بجائزة البوكر العربية عن روايته «ساق البامبو»، يعد أبرز حدث ثقافي على المستوى الكويتي.
ويقول إن من الأحداث الثقافية المهمة في الكويت أيضا، كان مشاركة الفرق المسرحية الكويتية في المهرجان المحلي بنصوص كلها لمؤلفين كويتيين. وهذا يعني أن هناك شريحة جديدة من المؤلفين بدأت تطرح أفكارها من بعد ركود نسبي. كذلك قيام مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، بعقد مؤتمر عالمي حول حوار الحضارات، في مقر اتحاد البرلمان الأوروبي، وبرعاية رئاسة هذا البرلمان، وهو بعنوان: «الحوار العربي الأوروبي في القرن الحادي والعشرين: نحو رؤية مشتركة». المميز في هذا المؤتمر، هو تشكيل هيئة دولية لمتابعة القضايا الإنسانية والسلمية على صعيد العالم، من خلال تواصل هذه الهيئة مع زعامات الدول والمنظمات الحقوقية.
ويضيف: «إن ما نأمل في أن يتحقق خلال السنة الجديدة، هو الشروع في إنشاء مجمع ثقافي متكامل يضم كل الفعاليات الأدبية والمسرحية والتشكيلية وغيرها، وانضمام كل المؤسسات والاتحادات والروابط والجمعيات المعنية تحت هذا السقف، لأن الشتات المكاني يضعف قوة الفعل الثقافي وخصوصا على صعيد الجمهور».
وفي دولة الإمارات، تشير الأديبة والكاتبة الإماراتية نورة النومان في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن جائزة القصة والرواية التي انطلقت أخيرا في دبي بدولة الإمارات، تعد من أهم الأحداث الثقافية في عام 2013 في بلادها. وتقول إن أهمية هذا الحدث الثقافي، تكمن في كونه يهتم بالإبداعات والروايات التي لم يحالفها الحظ في النشر بعد، مبينة أن هذه الجائزة بمثابة تحفيز وتشجيع للمبدعين الجدد الذين لم يتمكنوا من نشر مؤلفاتهم لسبب أو لآخر، لترى إبداعاتهم ومؤلفاتهم النور.
وثمة حدث ثقافي آخر شغل الأوساط الإماراتية في عام 2013، وفق النومان، وهو معرض الشارقة للكتاب الدولي وفعالياته، بعده حدثا مميزا وناجحا، مشيرة إلى أن «المعرض أتاح لرواده فرصة الاطلاع على تجارب جديدة وكتاب جدد، بجانب الكتاب المعروفين».



البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟

البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟
TT

البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟

البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟

لطالما كانت البيوت، بأشكالها وأنماطها كافة، ظهير حيواتنا الأوفى، والسجل الرمزي الذي يؤرّخ لحظة بلحظة، لتحولات أعمارنا منذ صرخة الولادة وحتى ذبول الأنفاس. وسواء اتخذت البيوت شكل الكهوف والمغاور زمن الأسلاف البدائيين، أو شكل المنازل المتواضعة والبيوت الطينية البسيطة في الريف الوادع، أو ارتفعت قصوراً باذخة وأبنية شاهقة في المدن المعولمة، فهي تظل بالنسبة لقاطنيها، الحاضنة والكنف وفسحة الطمأنينة والملاذ الآمن.

وقد يكون الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، أحد أكثر الفلاسفة المعاصرين احتفاءً بالبيوت، وتغنياً بما تمثله من وداعة العيش ودفء الوجود الأصلي. وهو ما يبدو على نحو جلي، في كتابه الفريد «جماليات المكان»، حيث يؤالف على طريقته بين الفلسفة والشعر، وبين الحواس والحدوس، راسماً للبيوت صورتها المحمولة على أجنحة التأويل، ومتحدثاً عن دلالات المداخل وغرف الاستقبال والطعام والنوم، ومتنقلاً بين أحشاء الأقبية وفضاء الشرفات. والبيوت عند باشلار ليست الأماكن التي تحتوي على الزمن مكثفاً فحسب، بل هي الدروع الصلبة التي تعصم الإنسان من التفتت، و«تحميه من أهوال الأرض وعواصف السماء». والبشر الأوائل الذين كانوا يكبرون في أماكن مبهمة ومجهولة الأسماء، بدأوا بعد مكابدات طويلة وشاقة «يتعرفون إلى المكان ويستدعونه بحب ويسمونه بيتاً. كما أخذوا يلقون فيه جذورهم ويتوجهون نحوه بالحب، وحين يبتعدون عنه يُفضون بحنينهم إليه، ويكتبون عنه أشعار الشوق وكأنهم عشاق».

وإذا كان الشعراء والكتاب والفنانون قد أولوا البيوت الكثير من الاهتمام، وأفردوا لها عبر العصور الكثير من القصائد واللوحات والأغاني، فليس غريباً أن يتوقف الشعراء العرب ملياً عند ما وفَّرته البيوت لهم من مشاعر السكينة والأمان، وسط الخلاء الصحراوي المفتوح على المجهول، والمثخن بالوحشة والخوف والاقتتال الدائم. وسواء كانت طينية أم حجرية، خياماً أم مضارب، فقد سمى العرب البيوت منازل؛ لأنهم يدركون في قرارتهم أنهم سكانها المؤقتون الذين ينزلون في ضيافتها، ويحطون بين ظهرانيها رحالهم، ويودعونها أجسادهم الآيلة إلى موت محقق. والأرجح أن اتسام تلك الأماكن بالهشاشة، وافتقارها إلى الصلابة والثبات، هو الذي دفع العرب الأقدمين إلى أن يطلقوا اسم البيت، على السطر الشعري المؤلف من شطرين متناظرين، والذي يتكرر بالطريقة نفسها على امتداد القصيدة، كما لو أنهم رأوا في الشعر، الظهير الرمزي الذي يعصمهم من الزوال، ويوفر لهم سبل الالتئام وأسباب الخلود.

ومع أن امرأ القيس قد أعطى الأولوية للحبيب على المنزل، وهو يصعد سلم البكاء الطللي، فإن ذلك لا يقلل أبداً من قيمة المنازل، بقدر ما يؤكد على اعتبارها امتداداً لأجساد ساكنيها ووعاءً لأرواحهم، وخزاناً لذكرياتهم وحنينهم العصي على النفاد. ولهذا السبب حذا الشعراء اللاحقون حذو سابقيهم، فاحتفى أبو تمام بالبيوت التي سكنها بصورة متتابعة، جاعلاً الحنين إلى المنزل الأول، صورة من صور الحنين إلى الحبيب الأول الأول. وهو ما عبر عنه في بيتيه الشهيرين:

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبداً لأول منزلِ

ومثلما فعل أبو تمام، هتف المتنبي بحرقة مماثلة:

لك يا منازل في القلوب منازلُ

أقفرتِ أنتِ وهنّ منكِ أواهلُ

ولعلنا في ضوء هذه التوطئة نستطيع أن ندرك السبب الذي يدفع الغزاة والمحتلين، منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا، إلى جعل البيوت جزءاً لا يتجزأ من غنائم الحرب، حتى إذا تعذر القبض عليها بصورتها السليمة، تم إحراقها وتحويلها رماداً، أو تدميرها وتسويتها بالأرض. ولعل ما فعلته قوى الاحتلال الإسرائيلي ببيوت غزة والضفة ولبنان، هو الشاهد الأبلغ على ما تقَدم. فما الذي يعنيه دكّ البيوت والمباني والأبراج على رؤوس ساكنيها، بلا إنذار مسبق، أو بإنذار لئيم دون فاصل زمني؟ وما الذي يعنيه انقضاض الطائرات المحملة بالقذائف الفتاكة على البشر الآمنين لتسوية أحياء كاملة بالأرض، ودون تمييز بين المقاتلين والبشر العزّل؟ ألا تعبّر النشوة الغامرة التي يعيشها الطيارون المطلون من شاهق على المدن والقرى المكلفين تدميرها، عن نزوع سادي، مماثل تماماً لذلك الذي انتاب نيرون، وهو يحوّل روما التي أحرقها لوحة بصرية ممتعة، أو لذلك الذي حمل في أحشاء طائرته قنبلة هيروشيما، منتشياً بمشهد المدينة التي تحولت خلال لحظات قليلة ركاماً؟ والمؤلم ألا يكون هذا النزوع مقتصراً على أفراد بعينهم، بل تتسع دائرته لتشمل الجماعة الإثنية أو السياسية التي يمثلونها، والتي لا ترضى بأقل من إبادة الآخر ومحوه من الوجود، بذرائع أسطورية ولاهوتية تم اختلاقها لمثل هذه الأهداف؟

إن أكثر ما يُشعر المرء بالصدمة في هذه المحرقة التي تسمى حرباً، أن ذلك الذي أطلق بالأطنان صواريخه وقنابله المتفجرة فوق غزة أو بيروت، متسبباً بانكماش المباني على نفسها كالصفيح، لم يقْدم على ذلك بتأثير نوبة غضب أو خروج عصبي عن السيطرة، بل فعل ذلك عامداً ومدفوعاً بدم الآيديولوجيا البارد، وبحقه المزعوم في إبادة المئات من «الأغيار» حتى لو كان الهدف متعلقاً بواحد أو أكثر من أعدائه المقاتلين، أو مقتصراً في أغلب الحالات على الشبهة المجردة. وللمرء أن يتساءل كيف لذلك الشخص الذي ينتمي إلى أسرة يعيش في كنفها، أو بيت يأنس إلى هدوئه الوادع، أن يعود إلى بيته، أو يعانق بعد ارتكاب مجزرته الدامية، زوجته وأطفاله المتلهفين إلى عودته، دون أن تخزه لسعة الندم، أو يفكر قليلاً بزوجات مماثلات وأطفال مماثلين، كانت لهم هناءات عيش مماثلة، قبل أن ينقلهم بلحظة واحدة إلى خانة العدم.

ولو كان البيت الذي يتهدم، مؤلفاً من حجارته وإسمنته وسقوفه وأراضينه الصغيرة لهان الأمر. لكنه يضم بين جنباته، الحيوات التي كانت تضرب مع المستقبل مواعيد من أحلام خالصة ورجاء متجدد. وهذه البيوت التي لم يعد لها أثر، هي سجل سكانها الحافل بالمشقات والمسرات والأنفاس والدموع ورعشات اللذة أو الخوف، وغيرها من التفاصيل والذكريات التي لا تنضب.

ولعلني لا أجد ما أختتم هذه المقالة أفضل من استعادة قصيدة «البيوت»، التي كنت قد كتبتها في حرب مشابهة.

ما الذي يعنيه دكّ البيوت والمباني والأبراج على رؤوس ساكنيها بلا إنذار مسبق أو بإنذار لئيم دون فاصل زمني؟

البيوت طيورٌ تزقِّمُ أفراخها لوعةً

كلما ابتعدوا عن حديد شبابيكها المائله

والبيوت جسور الحنين التي تصل المهدَ باللحد،

ريشُ المغامرة الأمّ،

طين التكاثرِ،

سرُّ التماثل بين الطبيعة والطبع،

بين الجنازة والقابله

والبيوت سطورٌ

يؤلّفنا بحرها كالقصيدة بيتاً بيتا

لكي نزِن الذكريات بميزانها

كلما انكسر اللحنُ أو تاهت البوصله

والبيوت جذورٌ تعود بسكانها دائماً

نحو نفس المكان الذي فارقوهُ

لتعصمهم شمسها من دوار الأعالي

ومن طرقاتٍ تشرّدهم في كسور المكانْ

والبيوتُ زمانْ

يقسّم دقاتهِ بالتساوي على ساكنيهِ

لكي يسبحوا بين بيتين:

بيت الوجود وبيت العدمْ

وكي يعبروا خلسة بين ما يتداعى وما يلتئمْ

والبيوت رحِمْ

توقنا للإقامة في أرخبيل النعاس،

للتماس مع البحر من دون ماءٍ

لكي نتشاكى حرائقنا الأوليةَ،

أو نتباكى على زمنٍ

لن يعود إلى الأرض ثانيةً

والبيوت فراديسنا الضائعه

تواصَوا إذن بالبيوت،

احملوها كما السلحفاةُ على ظهركمْ

أين كنتمْ، وأنّى حللتمْ

ففي ظلها لن تضلّوا الطريقَ إلى بَرّ أنفسكمْ

لن تملُّوا حجارتها السودَ

مهما نأتْ عن خطاكمْ مسالكها اللولبيةُ،

لن تنحنوا فوق مهدٍ أقلّ أذىً

من قناطرها المهمله

ولن تجدوا في صقيع شتاءاتكمْ

ما يوازي الركون إلى صخرة العائله

وحرير السكوتْ

تواصوا إذن بالبيوت

استديروا ولو مرةً نحوها

ثم حثُّوا الخطى

نحو بيت الحياةِ الذي لا يموتْ