البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟

الغزاة والمحتلون اعتبروها جزءاً لا يتجزأ من الغنائم

البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟
TT
20

البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟

البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟

لطالما كانت البيوت، بأشكالها وأنماطها كافة، ظهير حيواتنا الأوفى، والسجل الرمزي الذي يؤرّخ لحظة بلحظة، لتحولات أعمارنا منذ صرخة الولادة وحتى ذبول الأنفاس. وسواء اتخذت البيوت شكل الكهوف والمغاور زمن الأسلاف البدائيين، أو شكل المنازل المتواضعة والبيوت الطينية البسيطة في الريف الوادع، أو ارتفعت قصوراً باذخة وأبنية شاهقة في المدن المعولمة، فهي تظل بالنسبة لقاطنيها، الحاضنة والكنف وفسحة الطمأنينة والملاذ الآمن.

وقد يكون الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، أحد أكثر الفلاسفة المعاصرين احتفاءً بالبيوت، وتغنياً بما تمثله من وداعة العيش ودفء الوجود الأصلي. وهو ما يبدو على نحو جلي، في كتابه الفريد «جماليات المكان»، حيث يؤالف على طريقته بين الفلسفة والشعر، وبين الحواس والحدوس، راسماً للبيوت صورتها المحمولة على أجنحة التأويل، ومتحدثاً عن دلالات المداخل وغرف الاستقبال والطعام والنوم، ومتنقلاً بين أحشاء الأقبية وفضاء الشرفات. والبيوت عند باشلار ليست الأماكن التي تحتوي على الزمن مكثفاً فحسب، بل هي الدروع الصلبة التي تعصم الإنسان من التفتت، و«تحميه من أهوال الأرض وعواصف السماء». والبشر الأوائل الذين كانوا يكبرون في أماكن مبهمة ومجهولة الأسماء، بدأوا بعد مكابدات طويلة وشاقة «يتعرفون إلى المكان ويستدعونه بحب ويسمونه بيتاً. كما أخذوا يلقون فيه جذورهم ويتوجهون نحوه بالحب، وحين يبتعدون عنه يُفضون بحنينهم إليه، ويكتبون عنه أشعار الشوق وكأنهم عشاق».

وإذا كان الشعراء والكتاب والفنانون قد أولوا البيوت الكثير من الاهتمام، وأفردوا لها عبر العصور الكثير من القصائد واللوحات والأغاني، فليس غريباً أن يتوقف الشعراء العرب ملياً عند ما وفَّرته البيوت لهم من مشاعر السكينة والأمان، وسط الخلاء الصحراوي المفتوح على المجهول، والمثخن بالوحشة والخوف والاقتتال الدائم. وسواء كانت طينية أم حجرية، خياماً أم مضارب، فقد سمى العرب البيوت منازل؛ لأنهم يدركون في قرارتهم أنهم سكانها المؤقتون الذين ينزلون في ضيافتها، ويحطون بين ظهرانيها رحالهم، ويودعونها أجسادهم الآيلة إلى موت محقق. والأرجح أن اتسام تلك الأماكن بالهشاشة، وافتقارها إلى الصلابة والثبات، هو الذي دفع العرب الأقدمين إلى أن يطلقوا اسم البيت، على السطر الشعري المؤلف من شطرين متناظرين، والذي يتكرر بالطريقة نفسها على امتداد القصيدة، كما لو أنهم رأوا في الشعر، الظهير الرمزي الذي يعصمهم من الزوال، ويوفر لهم سبل الالتئام وأسباب الخلود.

ومع أن امرأ القيس قد أعطى الأولوية للحبيب على المنزل، وهو يصعد سلم البكاء الطللي، فإن ذلك لا يقلل أبداً من قيمة المنازل، بقدر ما يؤكد على اعتبارها امتداداً لأجساد ساكنيها ووعاءً لأرواحهم، وخزاناً لذكرياتهم وحنينهم العصي على النفاد. ولهذا السبب حذا الشعراء اللاحقون حذو سابقيهم، فاحتفى أبو تمام بالبيوت التي سكنها بصورة متتابعة، جاعلاً الحنين إلى المنزل الأول، صورة من صور الحنين إلى الحبيب الأول الأول. وهو ما عبر عنه في بيتيه الشهيرين:

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبداً لأول منزلِ

ومثلما فعل أبو تمام، هتف المتنبي بحرقة مماثلة:

لك يا منازل في القلوب منازلُ

أقفرتِ أنتِ وهنّ منكِ أواهلُ

ولعلنا في ضوء هذه التوطئة نستطيع أن ندرك السبب الذي يدفع الغزاة والمحتلين، منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا، إلى جعل البيوت جزءاً لا يتجزأ من غنائم الحرب، حتى إذا تعذر القبض عليها بصورتها السليمة، تم إحراقها وتحويلها رماداً، أو تدميرها وتسويتها بالأرض. ولعل ما فعلته قوى الاحتلال الإسرائيلي ببيوت غزة والضفة ولبنان، هو الشاهد الأبلغ على ما تقَدم. فما الذي يعنيه دكّ البيوت والمباني والأبراج على رؤوس ساكنيها، بلا إنذار مسبق، أو بإنذار لئيم دون فاصل زمني؟ وما الذي يعنيه انقضاض الطائرات المحملة بالقذائف الفتاكة على البشر الآمنين لتسوية أحياء كاملة بالأرض، ودون تمييز بين المقاتلين والبشر العزّل؟ ألا تعبّر النشوة الغامرة التي يعيشها الطيارون المطلون من شاهق على المدن والقرى المكلفين تدميرها، عن نزوع سادي، مماثل تماماً لذلك الذي انتاب نيرون، وهو يحوّل روما التي أحرقها لوحة بصرية ممتعة، أو لذلك الذي حمل في أحشاء طائرته قنبلة هيروشيما، منتشياً بمشهد المدينة التي تحولت خلال لحظات قليلة ركاماً؟ والمؤلم ألا يكون هذا النزوع مقتصراً على أفراد بعينهم، بل تتسع دائرته لتشمل الجماعة الإثنية أو السياسية التي يمثلونها، والتي لا ترضى بأقل من إبادة الآخر ومحوه من الوجود، بذرائع أسطورية ولاهوتية تم اختلاقها لمثل هذه الأهداف؟

إن أكثر ما يُشعر المرء بالصدمة في هذه المحرقة التي تسمى حرباً، أن ذلك الذي أطلق بالأطنان صواريخه وقنابله المتفجرة فوق غزة أو بيروت، متسبباً بانكماش المباني على نفسها كالصفيح، لم يقْدم على ذلك بتأثير نوبة غضب أو خروج عصبي عن السيطرة، بل فعل ذلك عامداً ومدفوعاً بدم الآيديولوجيا البارد، وبحقه المزعوم في إبادة المئات من «الأغيار» حتى لو كان الهدف متعلقاً بواحد أو أكثر من أعدائه المقاتلين، أو مقتصراً في أغلب الحالات على الشبهة المجردة. وللمرء أن يتساءل كيف لذلك الشخص الذي ينتمي إلى أسرة يعيش في كنفها، أو بيت يأنس إلى هدوئه الوادع، أن يعود إلى بيته، أو يعانق بعد ارتكاب مجزرته الدامية، زوجته وأطفاله المتلهفين إلى عودته، دون أن تخزه لسعة الندم، أو يفكر قليلاً بزوجات مماثلات وأطفال مماثلين، كانت لهم هناءات عيش مماثلة، قبل أن ينقلهم بلحظة واحدة إلى خانة العدم.

ولو كان البيت الذي يتهدم، مؤلفاً من حجارته وإسمنته وسقوفه وأراضينه الصغيرة لهان الأمر. لكنه يضم بين جنباته، الحيوات التي كانت تضرب مع المستقبل مواعيد من أحلام خالصة ورجاء متجدد. وهذه البيوت التي لم يعد لها أثر، هي سجل سكانها الحافل بالمشقات والمسرات والأنفاس والدموع ورعشات اللذة أو الخوف، وغيرها من التفاصيل والذكريات التي لا تنضب.

ولعلني لا أجد ما أختتم هذه المقالة أفضل من استعادة قصيدة «البيوت»، التي كنت قد كتبتها في حرب مشابهة.

ما الذي يعنيه دكّ البيوت والمباني والأبراج على رؤوس ساكنيها بلا إنذار مسبق أو بإنذار لئيم دون فاصل زمني؟

البيوت طيورٌ تزقِّمُ أفراخها لوعةً

كلما ابتعدوا عن حديد شبابيكها المائله

والبيوت جسور الحنين التي تصل المهدَ باللحد،

ريشُ المغامرة الأمّ،

طين التكاثرِ،

سرُّ التماثل بين الطبيعة والطبع،

بين الجنازة والقابله

والبيوت سطورٌ

يؤلّفنا بحرها كالقصيدة بيتاً بيتا

لكي نزِن الذكريات بميزانها

كلما انكسر اللحنُ أو تاهت البوصله

والبيوت جذورٌ تعود بسكانها دائماً

نحو نفس المكان الذي فارقوهُ

لتعصمهم شمسها من دوار الأعالي

ومن طرقاتٍ تشرّدهم في كسور المكانْ

والبيوتُ زمانْ

يقسّم دقاتهِ بالتساوي على ساكنيهِ

لكي يسبحوا بين بيتين:

بيت الوجود وبيت العدمْ

وكي يعبروا خلسة بين ما يتداعى وما يلتئمْ

والبيوت رحِمْ

توقنا للإقامة في أرخبيل النعاس،

للتماس مع البحر من دون ماءٍ

لكي نتشاكى حرائقنا الأوليةَ،

أو نتباكى على زمنٍ

لن يعود إلى الأرض ثانيةً

والبيوت فراديسنا الضائعه

تواصَوا إذن بالبيوت،

احملوها كما السلحفاةُ على ظهركمْ

أين كنتمْ، وأنّى حللتمْ

ففي ظلها لن تضلّوا الطريقَ إلى بَرّ أنفسكمْ

لن تملُّوا حجارتها السودَ

مهما نأتْ عن خطاكمْ مسالكها اللولبيةُ،

لن تنحنوا فوق مهدٍ أقلّ أذىً

من قناطرها المهمله

ولن تجدوا في صقيع شتاءاتكمْ

ما يوازي الركون إلى صخرة العائله

وحرير السكوتْ

تواصوا إذن بالبيوت

استديروا ولو مرةً نحوها

ثم حثُّوا الخطى

نحو بيت الحياةِ الذي لا يموتْ


مقالات ذات صلة

المدينة الفاضلة

ثقافة وفنون المدينة الفاضلة

المدينة الفاضلة

كان الصينيون القدامى يتركون عظام جنودهم الذين سقطوا في الحرب، عند أسس بوابات المدينة ومبانيها الرئيسية.

حيدر المحسن
ثقافة وفنون الذاكرة مرتع للكتابة

الذاكرة مرتع للكتابة

فاز كتاب «يغتسل النثر في نهره» بجائزة «أبو القاسم الشابي» في تونس في دورتها الثلاثين 2024، الديوان الشعري الصادر عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع (الأردن).

رشيد أزروال
ثقافة وفنون «الليلة الكبيرة»... الواقع والفانتازيا يمتزجان عبر لغة ساخرة

«الليلة الكبيرة»... الواقع والفانتازيا يمتزجان عبر لغة ساخرة

يستدعي عنوان رواية «الليلة الكبيرة» للكاتب محمد الفولي حالة من الحنين أو «النوستالجيا» لأوبريت مسرح العرائس الأشهر الذي يحمل الاسم نفسه وتربت عليه الأجيال

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون استعادة الهوية الممحوة

استعادة الهوية الممحوة

رواية «العائد من غفوته» للروائي جاسم عاصي، الصادرة عام 2024، رواية موجعة ومحتشدة بالمعاناة والفواجع الشخصية لبطلها سعيد الناصري، الذي تحول بطلاً تراجيدياً

فاضل ثامر
ثقافة وفنون «مكتبة الكلمات المفقودة»... رواية إنجليزية عن الولع بالكتب

«مكتبة الكلمات المفقودة»... رواية إنجليزية عن الولع بالكتب

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «مكتبة الكلمات المفقودة» للكاتبة ستيفاني باتلاند، ترجمة إيناس التركي، والتي تتناول حالة خاصة من الولع بالكتب من خلال شخصية…

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)

المدينة الفاضلة

المدينة الفاضلة
TT
20

المدينة الفاضلة

المدينة الفاضلة

كان الصينيون القدامى يتركون عظام جنودهم الذين سقطوا في الحرب، عند أسس بوابات المدينة ومبانيها الرئيسية. ثم يذبحون كلابهم ويرشّون دماءها على العظام، فتتلوّن وتتشبّع بها. من مزيج عظام الجنود الشجعان، مع حرارة قلوب كلاب الحراسة، تنبعث قوى سحريّة تدافع عن المدينة ضدّ الأعداء.

في زماننا لا تجري هذه الطقوس. لكننا نحصل بالمقابل، من خلال امتزاج عرق الأسلاف، مع بخار نباح الكلاب المتشردة، وعطور دمها أيضاً ودموعها، بالإضافة إلى قيئها وبقية فضلاتها، وهي حية وميتة، تتشكّل من هذا الخليط قوى سحريّة تقوم بغرس الحياة الروحيّة في المكان، وتحافظ عليها ما دامت كانت المدينة قائمة.

الكلاب في حقيقة أمرها، بالبراءة في العينين، والسكينة في الطبع، وتوّحشها مع الغرباء أيضاً، كأنها أطفالنا الذين سوف يحملون الأعباء عنّا في المستقبل. لقد نشأت فلسفة جديدة وغدت هي الزيّ الشائع؛ الأطفال يشبّون، وربما غادروا إلى خارج البلاد، أو حادوا عن الطريق، وفي أحسن أحوالهم فإنهم يشبهون الكلاب في دروب المدينة، وهي تزرع اللطافة والحُسن. إن أيّ مساحة وتفصيل من شارع أو مبنى، وبسبب الحياة الغزيرة والثرّة في المدينة، بإمكانهما أن يؤديا دور متحف تتجدّد فيه المعروضات الفنيّة كلّ ساعة، مع ألبوم من الصور يمثّل الناس الطيّبين (يا للعبارة الكونيّة التي لا يلمّها وصف: الناس الطيّبون). صحيح أن هؤلاء يموتون، لكنهم يتناسلون، وما ينفكّ أحفادهم يسيرون وفق هذه الطِباع والعادات. تحصل هجرات في كلّ زمن من أماكن أخرى، لكنّ البشر يشبه النبات، يتربّى على الهواء والماء وضوء القمر، فهو ابن المكان أكثر منه سليل أسلافه.

والمدينة العظيمة أيضاً ليست شيئاً من هذا العالم؛ لأنك ترى فيها كلّ أنماط الحياة، وتتحقق فيها كذلك رغبات الجميع؛ الدنيوية والصوفية، بالإضافة إلى ميول أهل الفن وشهواتهم، مهما بلغ تهوّرهم وجنونهم وشذوذهم، وتعطّشهم لابتكار رغبات جديدة. يقوم الأدب الحديث على الخيال؛ لأن جلّه من إبداع أبناء المدينة، يوسّعون به أفق القارئ ومداركه، فإن جاء واقعياً صرفاً، كان بلا روح. عن ألبير كامو: «الكلمات تفرغ من معناها، حين ينام الخيال».

كان هذا النوع من المدن شائعاً في الشرق والغرب، لكنه أخذ ينحسر أو يختفي؛ بسبب تضافر جهود هندسة ما بعد الحداثة، على أن تكون المباني والمنشآت شبيهة بأقفاص الدجاج البيّاض. البشر فيها بجثامين متماثلة، يقومون بالأفعال ذاتها، وتقدّم لهم ثقافة استهلاكية واحدة، ويتبعون وصفات طعام جاهز ومعلّب، وكلّ شيء تقوده آلة إعلانية جبارة، بإمكانها طمس الجمال الحقيقي، وإعلاء شأن الدمامة والقبح. توائم هذه الطريقة من العيش لا أحد غير رجال المال والأعمال، ويصحب هؤلاء حتماً المقامرون، وبنات الهوى، والمتصابون من الرجال بصورة خاصّة. إن علينا انتظار مئات أو ألوف السنين، المدة الكافية لكي تفعل القوى السحريّة – على أن يكون البنّاءون من أهل البلاد، فإن كانوا مستوردين من الخارج، يبطل السحر حتماً.

الناس الطيّبون باستطاعتهم الخلق من أيّ مكان، وإن كان معتقلاً مرهوباً ومنسيّاً، وطناً جميلاً وفردوساً أرضيّاً؛ لأن وداعتهم انطبعت في زواياه، فهو يتّسم بها. هل يمكننا تصوّر مدينة تخلو من الناس الطيبين؟ مطلقاً. لأن هؤلاء يشكلون الدعامة الأساسية لحياة مستقرة ومهيبة. بقية الدعامات والروابط التي تشدّ أجزاء المجتمع، تكون في العادة متناثرة أو عشوائية وغير مهمة. هل أجازف وأقول لا وجود للناس الطيّبين في المدن الحديثة؛ أقفاص الدجاج البيّاض؟

القوى السحريّة التي مرّ ذكرها هي السرّ في أن كلّاً منّا مكبّل ببلده، مثل طائر في قفص. هناك من يفتح لنا نافذة فنرتحل لأسبوع أو أكثر، ثم نعود إليه حتماً، فإذا رحنا نفتّش عن ملاذ في بلاد أخرى «متخبطين مثل حصاة دحرجت من مكانها» – التعبير لجورج سيفيريس - انتقل معنا سجننا الباهر هذا بمحض إرادتنا، وهذا هو تفسير قصيدة «المدينة» الشهيرة لكافافيس: «سأذهب إلى بلاد أخرى، سأذهب إلى ضفة أخرى سأجد مدينة أفضل كلّ جهودي محتومة بالفشل فقلبي متمدّد ومدفون هنا».

يقوم الأدب الحديث على الخيال لأن جلّه من إبداع أبناء المدينة وهم يوسّعون به أفق القارئ ومداركه

القراءة الأولى للقصيدة فيها هجاء للمدينة الأم، لكن المقاربة النقدية تكشف عن مديح هادئ النبرة. الانتقال إلى مدينة أخرى لا يُبطل القوى السحريّة، فهي السبب في دوام نعمة السجن الذي نختفي بين ظلاله، ومفتونون نحن بجدرانه. ثمة بهجة حزينة في هذه الأبيات، التي نحفظها جميعاً عن ظهر قلب، مع نوع من الأسى الناعم:

«لن تجد بلاداً جديدة، أو تجد ضفةً ثانية هذه المدينة ستطاردك. سوف تمشي في الشوارع نفسها. تشيخ في الأحياء نفسها ستُصبغُ رماديّاً في المنازل نفسها».

يبدو الأمر غريباً، لكنه الواقع؛ قوى السحر هذه يكتشفها السائح في المكان، فهي غائبة عن رؤية ابن البلد. ربما بسبب خاصيّة الإخفاء التي يؤدي إليها تكرار وقوع عين الإنسان على الشيء، فكأنما وجوده وعدم وجوده سيّان. لتوضيح القصد، أستعير شيئاً من شعر اليوناني يانيس ريتسوس، لا لكي أثبّت ما توصّل إليه، بل إلى نقضه:

«يدٌ شاحبة

تخلع المسمار

تهوي المرآة

يهوي الجدار.

يصلُ السائحون

وتُلتقط الصُّور الفوتوغرافية».

يحاول ريتسوس هنا، وعبر فذلكة شعرية، إقناعنا أن السائح غريب ومنقطع عن المكان، فهو يتنقل معصوب العين، مثل آلة حديدية في البلاد التي يزورها، بينما يُثبت الواقع العكس. السحر الخاصّ بالمدينة يكون في العادة ذائباً في دماء أهلها، ولا يستطيع أحد رؤية ما يجري في عروقه، كما هو معلوم. غير أن خاصيّة الإخفاء التي تقوم بها عين الإنسان، بسبب مداومة النظر وتكراره اللاشعوري، تكون معطّلة لدى الزائرين للبلدة، فهم الوحيدون القادرون على اكتشاف السحر، وبهذا تكون القصيدة بنسقها الصحيح: «يدٌ شاحبة تثبّت المسمار فتقوم المرآة ويقوم الجدار. يصلُ السائحون وتُلتقط الصُّور الفوتوغرافية».

الناس الطيّبون والحيوانات الطيّبة الأثر هم سرّ الحياة العجيبة في المدينة، ويمكننا إضافة أهل الفنّ إلى هذا الثنائي، ليكون الكلام أكثر رسوخاً. العالم الحقيقي موجود في كل مكان، وغياب القوى السحرية هو السرّ في عزوف الفنانين عن السكن في مدن الدجاج، أو حتى مجرّد التفكير بزيارتها سائحين. ثم هناك الفرق الأهمّ بين مدينة كافافيس الفاضلة، وبين تلك التي لا تحتفظ بشيء من الماضي؛ في الأولى يشعر أفقر الناس وأدناهم منزلة بأنه شخص له شأن، وفي مدن الدجاج يكون أحسنهم وأكثرهم ثراءً غريباً، لا يستطيع المشي في شوارعها وتنفّس هوائها؛ لأن مجتمع ما بعد الحداثة اختار أن يكون الإنسان كائناً منهوشاً ومتوارياً عن الأنظار، مثل دجاجة تأكل وتأكل وتقاسي من العزلة القاتلة، في انتظار الموت.