أبعاد التفاعل بين الثقافة الإسلامية والتنوير الأوروبي

كتاب صدر عن جامعة هارفارد يطرح من جديد العلاقة بينهما

أبعاد التفاعل بين الثقافة الإسلامية والتنوير الأوروبي
TT

أبعاد التفاعل بين الثقافة الإسلامية والتنوير الأوروبي

أبعاد التفاعل بين الثقافة الإسلامية والتنوير الأوروبي

«جمهورية الأدب العربي: الإسلام والتنوير الأوروبي» كتاب من تأليف ألكسندر بفيلاكوا، صدر في شهر فبراير (شباط) من هذا العام (2018)، عن مطبعة جامعة هارفرد الأميركية، في 340 صفحة.
وهو كتاب يأتي في وقته، إذ يتناول قضية حيوية من قضايا الثقافة العربية والإسلامية، وهي التفاعل مع الغرب، إيجاباً وسلباً.
والمعروف أن العلاقة بين الشرق والغرب - فكراً وحضارة ومعتقداً وقيماً - خيط من أبرز الخيوط السارية في نسيج الثقافة العربية، منذ رحلة رفاعة الطهطاوي إلى باريس إماماً لأول بعثة تعليمية أوفدها محمد علي في 1826، وتأليفه كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» (1834)، ثم إنشائه مدرسة الألسن للغات في العام التالي.
يذهب بفيلاكوا إلى أن الفترة ما بين منتصف القرن السابع عشر ومنتصف القرن الثامن عشر في أوروبا شهدت اشتباكاً خصباً مع الثقافة الإسلامية، ولعبت دوراً مهماً في تصحيح نظرة الأوروبيين إلى العرب والإسلام. لقد بدأ الدارسون الأوروبيون (سواء كانوا يكتبون باللغة اللاتينية أو بلغاتهم الأوروبية القومية) يتخلصون من تحيزات العصور الوسطى، وينظرون إلى العالم العربي - بجناحيه المشرقي والمغربي - نظرة أكثر حياداً وموضوعية. ومن الشخصيات المفتاحية في هذا الصدد إدوارد بوكوك (1604 - 1691) الذي كان يعمل في مدينة حلب، وحين عاد إلى إنجلترا صار أول أستاذ للغة العربية بجامعة أكسفورد. وهناك سيمون أوكلي الذي كتب عن الفتوح الإسلامية في عهد أول ثلاثة من الخلفاء الراشدين. وفي فرنسا، كتب المؤرخ الكاثوليكي يوسيب ريندو تاريخاً للعالم الإسلامي، أشاد فيه ببطولة صلاح الدين الأيوبي وشهامته إزاء خصمه ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد. أما الفقيه اللغوي الألماني يوحنا يعقوب ريسكي، فقد كتب في 1747 قائلاً إن من الفاتحين المسلمين، مثل طغرل مؤسس الإمبراطورية السلجوقية، من يتفوق على الإسكندر الأكبر المقدوني في المقدرة الحربية.
ويذكر ديمتري ليفتين، الزميل بكلية «أول سولز» بجامعة أكسفورد، أن مكتبات أوروبا بدأت تغتني بآثار الكتاب العرب، مخطوطة ومطبوعة، جنباً إلى جنب مع آثار الإغريق والرومان. وقد ساعدت المعاملات التجارية والرحلات على توثيق العلاقات الثقافية بين الغرب وأوروبا، وذلك من خلال كيانات مثل شركة الهند الشرقية، والغرفة التجارية في مدينة مارسيليا. وفي عصر الملك لويس الرابع عشر في فرنسا، كان وزير ماليته جان بابتست كولبير يحرص على تكليف العلماء والدارسين ممن يزورون الشرق بأن يعودوا منه حاملين ما تيسر من الكتب العربية.
وكان من علامات الطريق المهمة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية. وقد ظهرت أول ترجمة كاملة له في مدينة بادوا الإيطالية عام 1698، بقلم لودوفيكو ماراتشي، وأعقبتها ترجمة إنجليزية بقلم جورج سيل، في ثلاثينات القرن الثامن عشر. وممن قرأوا هذه الترجمة الأخيرة فولتير في فرنسا، وتوماس جفرسون في أميركا، وكلاهما من أعمدة عصر التنوير في القرن الثامن عشر.
ويخصص بفيلاكوا فصلاً من كتابه لبارتملي دربيلو، وهو دارس فرنسي أصدر في 1697 كتاباً ضخماً، عنوانه: «المكتبة الشرقية»، قدم فيه للقارئ الغربي لأول مرة عدداً من الكتابات العربية والتركية والفارسية.
وإذا كان كثير من الدارسين، الأوروبيين والعرب على السواء، يرون أن حركة التنوير في العالم الإسلامي بدأت مع مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر في 1798، واكتشافها حجر رشيد، وإدخالها الصحافة والمطبعة، فإن هذه الحركة في الواقع أقدم من ذلك بكثير؛ إن التنوير الإسلامي يضرب بجذوره في القرن الثاني للهجرة، في زمن الخليفة المنصور، ثم في القرن الثالث للهجرة، حين أنشأ الخليفة المأمون دار الحكمة، وأقبل المسلمون على ترجمة آثار الإغريق والسريان والفرس، ونشأت جامعات مثل الجامعة النظامية والجامعة المستنصرية في بغداد، ثم جامعات نيسابور ودمشق والقدس والقاهرة، وظهرت كوكبة من الدارسين العرب، ما بين أدباء وعلماء وفلاسفة ومؤرخين وجغرافيين ورحالة، في المشرق والمغرب العربي. وفي إسبانيا، دخلت منجزاتهم الفكرية والعلمية في نسيج الحضارة الغربية، وحسبنا أن نذكر منهم الرازي والخوارزمي وابن سينا وابن رشد وابن الهيثم والفارابي.
لقاء الثقافة الإسلامية بالتنوير الأوروبي لحظة مضيئة من تاريخ الحضارة الإنسانية، واحتفال بالتنوع البشري الخلاق الذي يغتني بتعدد الاتجاهات وفتح النوافذ على مختلف الثقافات، وحيوية الحوار القائم على الاحترام المتبادل، دون استعلاء ولا استخذاء.


مقالات ذات صلة

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

كتب روبرت نوزيك

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

لم تعد تصريحات الرئيس الأميركيّ دونالد ترمب ومواقفه تثير القلق الشديد عند نصف مواطنيه أو الحماس الصاخب عند نصفهم الآخر فحسب، بل وتحولت إلى ما يشبه عرضاً يومياً

ندى حطيط
كتب «ريبيكا»... رواية إثارة وقع في غرامها هيتشكوك

«ريبيكا»... رواية إثارة وقع في غرامها هيتشكوك

عن دار «الكرمة» في القاهرة صدرت طبعة جديدة من الرواية الشهيرة «ريبيكا» للكاتبة الإنجليزية دافني دو مورييه (1907 - 1989)، ترجمة: إيناس التركي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب «قوانين الحياة في القرآن»

«قوانين الحياة في القرآن»

يقدم الباحث الأردني سامر خير أحمد في كتابه «قوانين الحياة في القرآن»، مجموعة من الرؤى التي تحاول تقديم فهم خاص للنص القرآني، مستمَدّ من سياقاته الداخلية

«الشرق الأوسط» (عمَّان)
ثقافة وفنون «لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

«لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

تطرح قصص «لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة» للكاتبة المغربية هدى الشماشي تساؤلات وجودية في محاولة للتوفيق بين حيوات أبطالها ومآسيهم الخاصة المتواترة عبر العصور

«الشرق الأوسط» (عمان)
ثقافة وفنون «في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

ثمة خصوصية للنقد الأدبي التطبيقي حين يصدر عن مبدع عموماً وشاعر بشكل خاص، إذ تتحول الممارسة النقدية في تلك الحالة إلى غوص رهيف في أعماق النص بعين خبيرة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

القاهرة التاريخية في عيون الكاميرا

حديقة الأزبكية
حديقة الأزبكية
TT

القاهرة التاريخية في عيون الكاميرا

حديقة الأزبكية
حديقة الأزبكية

يكشف الباحث والمؤرخ الدكتور خالد عزب في كتابه «القاهرة... الذاكرة الفوتوغرافية» - دار «ديوان» بالقاهرة - وعبر الكاميرا، عن سحر العاصمة المصرية في النصف الأول من القرن العشرين عبر طرزها المعمارية الفريدة وشكل الأحياء والشوارع والميادين في تلك الحقبة.

ابتداءً، يشير المؤلف إلى أنه في عام 1839 أعلن زعيم الحزب الجمهوري الفرنسي فرنسوا أرغو أمام الجمعية الوطنية الفرنسية عن اكتشاف «التصوير الشمسي» وشراء الحكومة الفرنسية هذا الاكتشاف وتقديمه للإنسانية. وكصورة من صور مسايرة مصر أحدث اكتشافات الغرب، التُقطت أول صورة فوتوغرافية في المنطقة العربية في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1839 بحضور محمد علي باشا في مدينة الإسكندرية.

ومنذ التقاط الصورة الأولى في الإسكندرية. دخلت المنطقة العربية مرحلة جديدة من التوثيق البصري، وأخذ مئات المصورين في التدفق على مصر وسوريا، والتُقطت آلاف الصور للمعابد والهياكل القديمة للمدن والقرى، وصورت عدسات المصورين مختلف المناظر ومظاهر الحياة الاجتماعية. ولاقت تلك الصور رواجاً كبيراً في السوق الأوروبية، وخلال القرن التاسع عشر فقط نشط أكثر من ثلاثمائة مصور في مصر وبلاد الشام، وكان معظمهم من الفرنسيين والبريطانيين، وبعض الألمان والأميركيين.

وكان من الطبيعي أن تنال مدينة القاهرة الحظ الأوفر من اهتمام المصورين، حيث شهدت حالة من الازدهار المعماري خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، عكسته لنا مجموعة الصور الشمسية التي ضمَّها ألبوم لمجموعة من الصور كانت تحتفظ به مكتبة الملك فاروق الأول، تلك المجموعة التي تحكي مظاهر الحياة الاجتماعية في مدينة القاهرة منذ عام 1849 حتى أوائل القرن العشرين.

تحوي تلك المجموعة صوراً شمسيةً لمناظر شوارع القاهرة القديمة وميادينها، الشهيرة بتراثها المعماري العريق، كميدان محمد علي وميدان الأوبرا وميدان العتبة الخضراء وحي جاردن سيتي وشارع عماد الدين وشارع شبرا، بالإضافة إلى صور لعدد من السرايا والقصور التي اتخذتها أسرة محمد علي مقرّاً للحكم، كسراي عابدين وسراي القبة وقصر النيل.

شارع سليمان باشا 1908

عبر هذا الألبوم، تمكن متابعة التحول العمراني الذي أحدثه الزمن بعروس الشرق من خلال مجموعة صور لأعرق الفنادق بالقاهرة كفندقَي الكونتننتال وشبرد، بالإضافة إلى صور لدار الأوبرا القديمة والمتحف المصري وكوبري قصر النيل وكوبري أبي العلا، ومجموعة صور لحديقتَي الأزبكية وروستي، ومجموعة صور لأقدم مساجد القاهرة، والقناطر والبِرك التي أقيمت وحُفرت بالقاهرة آنذاك.

تعدّ تلك المجموعة من الصور الشمسية لمدينة القاهرة بمثابة كنز ينطق بما شهدته مدينة القاهرة من رقي معماري وتخطيطي، حيث التقط تلك الصور فنانون مرَّوا وأقاموا في مصر، ومنهم الفنان مكسيم دي كامب، الذي قام بنشر مؤلف زوَّده بمائة وخمسين صورة شمسية واهتم فيه بتسجيل مشاهداته عن الآثار المصرية التي بهرته، وذلك عبر رحلة قام بها إلى الشرق طاف خلالها في آسيا الصغرى، كما زار إيطاليا والجزائر. واستطاع دي كامب في عام 1848 وهو في السادسة والعشرين من عمره أن ينشر كتابه «ذكريات أدبية» الذي أهداه إلى زميله جوستاف فلوبير، بالإضافة إلى مجموعة من الفنانين، منهم فرنسيس فريث، وبيشار والفنان ليكيجيان.

ويؤكد الدكتور عزب أنه يمكن للمؤرخين كتابة التاريخ عبر الصور؛ لأنها توضح عناصر الحياة اليومية العارضة والعشوائية، دون فقدان أدق التفاصيل التي تبدو غير مهمة في وقت ما، لكنها تتحول مصدراً مهماً في المستقبل لإثبات شيء ما؛ لذا فتاريخ تطور مدينة القاهرة من القرن الـ19 إلى منتصف القرن العشرين يعتمد على التصوير الفوتوغرافي، خصوصاً في معرفة تغير وظائف بعض الأماكن. ويضرب المثل بعمارة «الإيموبيليا» في وسط القاهرة، فقد كان مكانها مدابغ القاهرة التي نُقلت في مرحلة لاحقة في القرن الـ19 إلى مكان جديد بين منطقتي «السيدة زينب» و«عين الصيرة»، ليصير مكانها السفارة الفرنسية، ثم عمارة «الإيموبيليا».

ويشير المؤلف إلى تجربته الشخصية في إنشاء مشروع «ذاكرة مصر» بمكتبة الإسكندرية، حيث سعى إلى تجميع آلاف الصور من مصادر متعددة، ليستطيع بناء أرشيف استثنائي يضم آلاف الصور النادرة التي تساعدنا على اكتشاف أحداث مختلفة في أوقات متباينة ونشر معلومات واضحة. ويوضح أن الربط بين مجموعة متناثرة من الصور لحدث معين كثورة 1919، على سبيل المثال، يعطينا تصورات جديدة حول بنية هذه الثورة ودور العمل السري في تنظيم المظاهرات وتوجيهها عبر اكتشاف الأشخاص المتكررين في الصور وطريقة حركتهم وأماكنهم في كل صورة، وكذلك تعيننا الصور على فهم وقراءة مواضع الأعلام والشعارات المرفوعة على لوحات مكتوبة، وكيفية حركة المجاميع داخل المكان، ليبقى السؤال المهم: هل خرجت هذه المظاهرات بصورة عشوائية تلقائية، أم بصورة منظمة ذات أهداف واضحة، أم أنها كانت تخرج عفوية ثم يجري توجيهها؟ تكشف الصور عن كل هذا؛ فقد خرجت عفوية تلقائية حين نراها تفتقد التنظيم المعتاد في بعض الصور، وخرج بعضها منظماً في بعض الأحيان، وبعضها خرج عفوياً ثم جرى توجيهه.