«همس النجوم» لنجيب محفوظ تعيدنا إلى الحارة والرمزية

تُجمع للمرة الأولى في كتاب وملحق بها مخطوطات بخط يده

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

«همس النجوم» لنجيب محفوظ تعيدنا إلى الحارة والرمزية

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

مجموعة الأديب الراحل نجيب محفوظ القصصية «همس النجوم» التي صدرت عن «دار الساقي» يوم السبت الماضي، بالتزامن بين كل من القاهرة وبيروت، ليست أجمل ولا ما يمكن أن تقرأ لحامل جائزة نوبل؛ لكن لهذه المجموعة التي أريد لها أن تبصر النور في ذكرى ميلاد الكاتب الكبير، ومرور 30 سنة على فوزه بنوبل، قيمة معنوية؛ لأنها تجمع للمرة الأولى في كتاب.
وكانت هذه القصص قد نشرت في تسعينات القرن الماضي في مجلة «نصف الدنيا»، باستثناء قصة واحدة، لم تنشر أبداً في أي وقت من الأوقات، بحسب الكاتب المصري محمد شعير، الذي له الفضل في البحث والجمع وكتابة المقدمة، وهي قصة «نبقة في الحصن القديم»، التي لا تختلف عن بقية قصص المجموعة، لا في روحها، ولا طبيعة شخصياتها، ولا المكان الذي تدور فيه الأحداث.
وهي تروي حكاية الابن الأخير لآدم السقا، الذي فقد أبناءه التسعة بسبب وباء، ولم يبق له منهم إلا نبقة. لذا نذر الأب ابنه الناجي، وهو لا يزال في السابعة من العمر، وسلمه لإمام الزاوية. ومضت سيرة الولد كالمسك، إلى أن توفي والداه وهو في العاشرة، وحارت في نفسه الأسئلة: متى يفتح باب الحصن الموجود داخل القبو؟ ويبدو أن الصبي استعجل الأمر، وذهب يستكشف الأمر بنفسه، وغاب ثلاثة أيام ليعود وقد تغيرت أحواله. فقد كان بحسب ما قال في ضيافة الراحلين الذين شحنوه بالمعرفة والقدرة، وما عاد يستطيع أن يعمل خادماً عند الإمام.
ويصور محفوظ ما يشبه معركة بين الصبي المتمرد والإمام المصرّ على استرجاعه إلى الخدمة، ويشارك شيخ الحارة في المعركة، فينهال على الصبي بالضرب لتطويعه. انقسمت الحارة، وسادت الفتنة، وكُبل الصبي وديس بالأقدام عقاباً له، فهل قضى الصبي فعلاً، كما يعتقد الإمام والشيخ؟ ربما! لكن سكان القبور يقولون إنه لم يمت؛ بل لا يزال يتجول في القبو ويقيم في الحصن القديم، وإنه يكبر ويتعملق ويمتد، ويتطاول رأسه باتجاه الفضاء.
ثماني عشرة قصة في الكتاب، تدور جميعها في مكان واحد هو الحارة، التي كرس لها محفوظ جلّ كتاباته. وفي القصص التي تتفاوت طولاً وقصراً، سنجد شيخ الحارة ومشايخ آخرين، والأولياء الصالحين، وأناساً كثراً باعوا أنفسهم للخرافة، وآخرين يحاولون التمرد على الموجود، فينتهون إما إلى الموت وإما إلى الاتهام بالجنون، وقليلاً ما ينتصرون على السائد الذي لا مكان فيه للعقل أو مراجعة الذات. وهناك بطبيعة الحال كثير من الأهواء المتعارضة والإرادات المتصارعة التي تنتهي إلى إشعال فتنة، سرعان ما تنخرط فيها جموع الناس. وثمة دائماً في الحارة التي تدور فيها القصص المكان الذي لا يغيب أبداً، وهو القبو، حيث يعيش من لا مأوى لهم، وفوقه الحصن القديم الذي تسكنه الأشباح والعفاريت؛ لا بل يمكننا القول إن هذين المكانين القائمين في موقع واحد، هما ركن أساسي في الحكايات، بما لهما من رمزية، بإمكان محفوظ أن ينسج حولها ما تجود به قريحته من معتقدات شعبية مشوبة بالخرافة والغيبيات التي تصبح جزءاً من أقدار أهل الحارة.
من أصغر القصص في المجموعة «نبوءة نملة»، ونملة هذا هو رجل يتنبأ لمتسول بأنه «ستحيط به الأنام ويقبل عليه الحكام»، بما يوحي بالجاه، فإذا بنا نكتشف أن الصورة ذاتها قد تتشكل بمناسبة شديدة المأساوية للمتسول. وقصة صغيرة بالحجم نفسه، أشبه بومضة عنوانها «سرّ آخر الليل»، لا تستغرق أكثر من صفحة وبضعة أسطر، تحكي قصة ذاك الرجل الذي اشتم وهو يدخل الحارة عطراً فواحاً، شعر بأنه «بقية أنثى تركته خلفها». عطر يجعل أفكار الرجل تفتح على احتمالات كثيرة، بعضها سيئ الظن، حول ما كانت تفعله المرأة قبل مروره بلحظات، لينتهي النص بالعبارة التالية: «وكلما مرت امرأة صباحاً أو مساء، تذكّر أو تشمم وتنهد، ثم جعل مرة أخرى يتشمم».
هكذا تعودنا على محفوظ، أن يرسم لوحات غير مكتملة، ويرمي ببعض الكلمات والجمل ذات الإيحاءات، ليترك قارئه يكمل الحكاية، بعد أن يكون قد غزل له خيوطاً تقوده إلى ما يريده أن يتصور ويستنتج.
وهو ما ينطبق على «همس النجوم» التي يحمل الكتاب اسمها، فهي عن المشايخ الذين يقرأون المستقبل، وينذرون بالأخطار تلميحاً لا تصريحاً؛ لكن الناس نادراً ما يتنبهون إلى عباراتهم التي تحمل نذير شؤم كبير، كما حصل مع المعلم قدري، التاجر الثري الذي تركته زوجته مع طفل في عامه الأول، هاربة مع مغني العشق.
أمتع نصوص المجموعة هي القصة الأولى، التي تحمل اسم «مطاردة». ويحكي فيها عن نموذج رهيب لما يمكن أن يكون عليه كيد النساء وانتقامهن؛ حين يقررن أن ينتزعن حقهن رغم سطوة المجتمع والأعراف وسلطة الرجال. ومع محفوظ تبقى الرمزية التي عُرف بها واحدة من أهم ميزات أسلوبه، مع حبه لإعطاء أسماء لشخصياته ذات دلالات نكتشفها ونحن ننتهي من القصة، وعشقه لرسم الأجواء الشعبية، وتأمل الذهنيات عبر شخوص من أمزجة مختلفة. من «توحيدة» التي خلقها الله في أحسن صورة، وتفرنجت واختفت لتعود لتظهر عجوزاً، إلى «ابن الحارة» الذي تحول من متسول إلى ولي مطاع في نظر الناس بفعل صدفة؛ لكنهم سرعان ما انقسموا حوله بعد أن كبرت سلطته، وباتت تتضارب مع سلطات آخرين لا يستطيعون احتماله.
وفي مقدمة مختصرة وشيقة للكاتب محمد شعير، تبدأ بعبارة لنجيب محفوظ، يقول فيها: «أنا ملك التمزيق»، نعرف أن الأديب لم يترك خلفه كثيراً من المسودات التي كان يتخلص منها أولاً بأول؛ لكن زوجته هي التي حرصت على الاحتفاظ بما كان يرتبه وينظمه في فئتين: ما نشر، وما لم ينشر. وهو ما انتقل إلى ابنتيه بعد وفاة الوالدين؛ حيث عملت ابنة محفوظ، أم كلثوم، على تسليم محمد شعير صندوقاً كان بالنسبة له كـ«اكتشاف مقبرة فرعونية»؛ حيث احتوى على مخطوطات، وروايات، ودفاتر ملاحظات، ومراسلات، ومفاجآت لا يخبرنا شعير بمكنونها، وأشياء أخرى. وفي الصندوق أيضاً ملف كتب عليه «تحت التجربة»، يضم نحو 40 قصة، نشرت بين عامي 1993 – 1994، وهي التي نشرت في الصحافة، وصدرت بعد ذلك في كتابين هما «القرار الأخير» و«صدى النسيان»، وتبقى 18 قصة، هي التي صدرت حالياً تحت عنوان «همس النجوم».
لكن من جميل ما فعله شعير، أنه حرص على تضمين نهاية الكتاب، صفحات لمخطوطات غالبية قصص الكتاب بخط نجيب محفوظ. هكذا يتعرف القارئ على النسخة الأصل بيد الأديب، وبخطه الصغير المنمنم، ودقته في التنظيم والترتيب والتحبير. وقليلاً ما نرى صفحات فيها تشطيب أو تعديل، كما حال مخطوطة قصة «همس النجوم». ونكتشف أن نجيب محفوظ كان يكتب اسم القصة في منتصف صفحة بيضاء، وتحته اسمه، ثم ينتقل إلى ورقة جديدة ليبدأ في قص حكايته، منتبهاً جيداً إلى اللحظة التي يجب أن ينهي فيها جملته ويعود إلى أول السطر، حريصاً على وضع علامات الترقيم في مكانها الصحيح من نقاط وفواصل، وعلامات تعجب، وكذلك علامات الاستفهام التي يكتبها، للغرابة مقلوبة، كما تكتب عادة بالإنجليزية.



وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان
TT

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

يحتلّ موقع سمهرم مكانة مميزة في خريطة «طريق اللبان» العُمانية التي دخلت عام 2000 في قائمة اليونيسكو الخاصة بمواقع التراث العالمي، وهي طريق البخور التي شكّلت في الماضي معبراً تجارياً دولياً ازدهر على مدى قرون من الزمن. بدأ استكشاف هذا الموقع في مطلع الخمسينات، وأدت أعمال التنقيب المتواصلة فيه إلى العثور على مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية، منها بضعة أنصاب حجرية مسطّحة تحمل نقشاً غائراً يمثّل وجهاً آدمياً مختزلاً، تقتصر ملامحه على عينين واسعتين وأنف مستطيل.

يضمّ موقع سمهرم مستوطنة أثرية تجاور خوراً من أخوار ساحل محافظة ظفار يقع في الجهة الشرقية من ولاية طاقة، يُعرف محليّاً باسم «خور روري». يعود الفضل في اكتشاف هذا الموقع إلى بعثة أميركية، أسّسها عام 1949 في واشنطن عالم الآثار وينديل فيليبس الذي لُقّب بـ«لورنس العرب الأميركي». شرعت هذه البعثة في إجراء أول حفريّة في «خور روري» خلال عام 1950، وواصلت عملها على مدى 3 سنوات، وكشفت عن مدينة لعبت دور ميناء دولي، عُرفت باسم سمهرم، كما تؤكد النقوش الكتابية المدونة بخط المُسنَد العربي الجنوبي. من بين أطلال هذه المدينة المندثرة، خرجت مجموعة من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة زُيّن كلٌّ منها بنقش تصويري غائر طفيف يمثّل وجهاً آدمياً ذكورياً، كما يؤكّد الكشف العلمي الخاص بهذه البعثة.

عُثر على حجرين من هذه الحجارة على مقربة من أرضية مبنى من معالم سمهرم، وعُثر على ثالث على مقربة من المعبد الخاص بهذه المستوطنة، ممّا يوحي بأنه شكّل في الأصل جزءاً من أثاث هذا المعبد على الأرجح، كما رأى العالِم فرانك فيدياس أولبرايت في تقرير نُشر في عام 1953. استمرّت أعمال المسح والتنقيب في سمهرم، وتولّتها منذ عام 1997 بعثة إيطالية تابعة لجامعة بيزا، ومع هذه الأعمال، تمّ الكشف عن مجموعة أخرى من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة مشابهة لتلك التي عثرت عليها البعثة الأميركية.

يتكرّر النقش التصويري على هذه الأنصاب التي احتار أهل الاختصاص في تحديد وظيفتها، ويتمثّل بوجه آدمي مجرّد هندسياً إلى أقصى حد. اختُزلت ملامح هذا الوجه بعينين لوزيّتين واسعتين، وأنف مستطيل رفيع. خلت هاتان العينان الفارغتان من حدقتيهما، كما غابت عنهما الرموش والحواجب، فظهرتا على شكل مساحتين بيضاويتين حُدّدتا بخط ناتئ رفيع وبسيط في وضعية المواجهة. كذلك، ظهر الأنف على شكل مثلّث عمودي طويل يحدّده خط مماثل. يعود هذا الوجه ويظهر على واجهة مجمّرة مخصّصة لحرق البخور، عثرت عليها البعثة الإيطالية خلال عام 2014، إلى جانب مجمّرتين تتبعان الطراز المألوف المجرّد من النقوش. ويتميّز هذا الوجه بظهور حاجبين مقوّسين يمتدان ويلتصقان عند أعلى مساحة الأنف المستطيلة.

خرجت من موقع سمهرم مجموعة كبيرة من المجامر والمباخر، غير أن هذا الوجه المجرّد لا يظهر على أي منها، كما أنه لا يظهر على أي من عشرات المجامر التي عُثر عليها في نواحٍ عدة من جزيرة العرب الشاسعة. في الواقع، يتبع هذا الوجه طرازاً ارتبط على نحوٍ واسع بشواهد القبور، وعُرف باسم «المسلّة ذات العينين». خرج العدد الأكبر من هذه المسلّات من محافظة الجوف التي تقع في الجزء الشمالي الشرقي من صنعاء، وخرج عدد آخر منها من وادي بهيان في محافظة حضرموت. تجاوز هذا الطراز حدود جنوب الجزيرة العربية، وبلغ شمالها حيث ظهر في واحة تيماء في منطقة تبوك، وقرية الفاو في الجنوب الغربي من الرياض، كما تؤكّد شواهده التي كشفت أعمال التنقيب عنها خلال العقود الماضية.

حمل هذا الطراز طابعاً جنائزياً لا لبس فيه، وتمثّلت خصوصيّته بهذا الوجه التجريدي الهندسي الذي ظهر على شواهد قبور فردية، كما تشير الكتابات المنقوشة التي تسمّي أصحاب تلك القبور. يصعب تأريخ هذه المسلّات بدقة، نظراً إلى غياب أي إشارة إلى تاريخها في الكتابات المرفقة، والأكيد أن هذا الطراز الجنائزي ظهر في القرن الثامن قبل الميلاد، وشاع على مدى 5 قرون. يحضر هذا الوجه في سمهرم، ويشهد هذا الحضور لدخوله إقليم عُمان في مرحلة تلت فترة انتشاره في جنوب الجزيرة وفي شمالها، فالدراسات المعاصرة تؤكد أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، وارتبط بمملكة حضرموت في زمن نشوء التجارة البحرية وازدهارها في المحيط الهندي، وظلّ ناشطاً حتى القرن الخامس للميلاد، حيث تضاءل دوره وتلاشى تدريجياً نتيجة اندحار مملكة حضرموت.

حضر هذا الوجه التجريدي في سمهرم حيث ظهر على عدد من المسلّات، وانطبع بشكل استثنائي على مجمرة تبدو نتيجة لذلك فريدة من نوعها إلى يومنا هذا. خرج هذا الوجه في هذا الموقع العُماني عن السياق الجنائزي الذي شكّل أساساً في جنوب جزيرة العرب، وحمل هُويّة وظائفية جديدة، وتحديد هذه الهوية بشكل جليّ لا يزال يمثّل لغزاً وتحدّياً للباحثين في ميدان الآثار العُمانية.