مسرحيات اخترقت الأسوار الحديدية

ترجمة عربية لكتاب «المسرح والسجن»

مسرحيات اخترقت الأسوار الحديدية
TT

مسرحيات اخترقت الأسوار الحديدية

مسرحيات اخترقت الأسوار الحديدية

عن «المركز القومي للترجمة» في القاهرة صدرت في عام 2018 الترجمة العربية لكتاب «المسرح والسجن» للناقدة الاجتماعية البريطانية كايومي مكافنشي، التي تعمل محاضِرة في الدراما والمسرح بكلية «الملكة ماري» في جامعة لندن. ترجمت الكتاب عن الإنجليزية ياسمين أحمد فتحي، وراجعه محمود كامل، فيما قام بتصديره جيمس طومسون، وهو مؤسس مركز «المسرح في السجن وتحت المراقبة» بجامعة مانشستر البريطانية. وكانت المؤلفة قد اختارت علاقة المسرح بالسجينات موضوعاً لرسالة الدكتوراه لتصير بداية مشوار طويل من الأبحاث المتواصلة منذ عام 1998.
يقال إن السجن «تأديب وتهذيب وإصلاح»، ولا أحد يشير إلى أنه مكان تنعته مكافنشي بـ«الانتقامي»، وهي صفة تلصقها الباحثة بمؤسسة السجون في العالم، فعقوبة السجن بالنسبة لها وسيلة بدائية ينتقم بها الرأي العام من المجرم، وليس مؤسسة تبغي حقاً الإصلاح، وتؤسس آليات لتصحيح خطيئة السجين، وإعداده ليكون فرداً نافعاً في المجتمع.
وعلى مستوى المسرح، هي تجادل بأن الأداء الفني بمقدوره تغيير فهمنا للمناهج التاريخية والمعاصرة عن دراما السجون، وهو ما يتجلى حضوره بقوة في المسرح التطبيقي، كما تثير في هذا السياق أكثر من سؤال حول العلاقة بين المسرح والسجن، أو بالأحرى بين حرية الحركة والإبداع من جانب، والصراح اليومي للبقاء على قيد الحياة في مؤسسة هي النقيض التام للانطلاق.
هل من الممكن أن نوظِّف المسرح بحيث يصبح بديلاً عن السجن القائم على عزلة السجين النفسية؟ هل بوسعنا التوسل بالفن للتخفيف من الكوارث الاجتماعية؟ تجيب مكافنشي مؤكدة أن للمسرح دوراً فكرياً إيجابياً في حياة الخارجين عن القانون، وتنوه بـ«المناهج النيوليبرالية»، التي تقترح إعادة تأهيل السجون ذاتها - وليس السجناء - مستعرضة خطوات عملية للسيطرة على إخفاقاتها.
ثم تتطرق الباحثة إلى مسرحيات اخترقت الأسوار الحديدية، داعية المسرحيين إلى عدم وضع حدود وهمية بين المنتَج الفني ومرتكبي الجريمة، والمشاركة في قص سرديات الإصلاح. وهي بالتأكيد قضية تحمل أبعاداً سياسية واجتماعية، ولا تزال تثير الجدل في أوساط صانعي المسرح أنفسهم من مؤلفين ومخرجين ومنتجين.
وهنا، تعيد المؤلفة تعريف مفهوم العدل نفسه، وتتساءل فيما إذا كان السجن أمراً حتمياً في عصرنا الحالي، أو حتى ذا جدوى من أي نوع، كما ترتاب في صلاحية السجون، راصدة أثرها غير الرادع بعد أن قرأت جيداً إحصاءات معدلات الجريمة وتكرارها حين يخرج السجناء «قنابل موقوتة، لا أفراداً صالحين منتجين».
في هذا السياق، تُذكرنا الكاتبة بأوسكار وايلد الذي ألَّف كتاب «من الأعماق» وهو قابع في زنزانة، وكيف تركت تجربة السجن طابعها على مشواره الفني. ثم تعرج على رواية «البؤساء» للكاتب الفرنسي فكتور هوغو، التي كشفت مبكراً عن جور مؤسسة السجن في القرن التاسع عشر. فالبطل يقضي عقوبة الأشغال الشاقة لسرقة رغيف من الخبر بعد أن تضور وأسرته جوعاً. وكان هوغو قد كتب في مقدمة روايته: «تخلق العادات والقوانين في فرنسا ظرفاً اجتماعياً هو نوع من الجحيم البشري». والفكرة نفسها، كما تقول كايومي مكافنشي، تمتد لتشمل جميع المجتمعات الإنسانية، متقدمة كانت أم متأخرة.
لكن مكافنشي تستدرك بقولها إن إشعار النفس بالذنب وتأنيب الضمير من خلال الفن مسألة عويصة التطبيق، غير أنها قد تعود بفائدة إن طبقتها السلطات تطبيقاً سليماً.
والتعامل مع النفس البشرية على هذا النحو التطهيري يستلزم تفاعلاً مباشراً وحياً مع المسرح وموسيقاه. وهنا تستشهد المؤلفة بنماذج حاولت عرض مسرحيات في السجون، ولكن السلطات قاومت هذا التيار خشية أن «يتمرد السجناء على واقعهم، خصوصاً لو شاركوا بأنفسهم في التمثيل المسرحي».
ولكن بالطبع هناك تيار عريض لا يتفق مع آراء الباحثة، إذ يرى أن مسرح السجون ما هو إلا هدر مالي، لن يؤتي بالثمار المثالية التي يتخيلها دعاة الفن والمصلحون الاجتماعيون، وأن اختلاط السجن بالفن كامتزاج الماء بالزيت، مشككين في جدوى الأدوات الفنية في عالم السجون المترع بالعنف.
وفي قسم مهم من الكتاب، تناقش المؤلفة عروضاً مسرحية أماطت اللثام عما قد يغلف تجربة السجن من اضطراب وإيذاء، مثل مسرحية «الحظ وعيون الرجال» (1967) للكاتب الكندي جون هربرت، وهي دارما قاسية عن الاستغلال الجنسي والإفراط في استغلال السلطة في السجون، كما تستعرض مسرحية «العدالة» (1910) للكاتب البريطاني جون غالسورثي الحائز على جائزة «نوبل» في الآداب عام 1932 التي كتبها ضمن حملة لتحسين أوضاع السجون في إنجلترا، وتضمنت نقداً شديداً لمجتمع «يرمي الفقير في السجن، بينما يفلت منه الغني».


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.