«داعش» و«القاعدة»... من الافتراق إلى الاندماج

{كارثة إرهابية} في الطريق

حسب الخبراء الأميركيين تُعد «طالبان» أفضل مكان للاتحاد بين مقاتلي «القاعدة» و«داعش» (أ.ف.ب)
حسب الخبراء الأميركيين تُعد «طالبان» أفضل مكان للاتحاد بين مقاتلي «القاعدة» و«داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» و«القاعدة»... من الافتراق إلى الاندماج

حسب الخبراء الأميركيين تُعد «طالبان» أفضل مكان للاتحاد بين مقاتلي «القاعدة» و«داعش» (أ.ف.ب)
حسب الخبراء الأميركيين تُعد «طالبان» أفضل مكان للاتحاد بين مقاتلي «القاعدة» و«داعش» (أ.ف.ب)

المؤكد أن هناك فارقاً واضحاً في أهداف اثنتين من أكبر الجماعات الإرهابية حول العالم في الوقت المعاصر؛ ففيما توجه وتثبت «القاعدة» أنظارها دائماً وأبداً على الولايات المتحدة الأميركية، ومحاولة إلحاق أكبر ضرر بها، فإن «داعش» يسعى في سياق مفاهيمي آخر يتصل ببناء دولة وتوسيع مداراتها الجغرافية والديموغرافية.
غير أن ذلك في واقع الحال لا ينفي أن لدى الجماعتين روابط مشتركة، فكلتاهما تستخدم العنف المسلح، وتسعى لإيجاد أرضية قوية في مناطق «البطن الرخوة» حول العالم، لا سيما في أماكن مثل أفغانستان والعراق، وبعض النقاط الملتهبة في أفريقيا، فهل يعني ذلك أن اندماجهما قد يكون خطوة قريبة على الطريق، لا سيما أن التشابهات الآيديولوجية بين «القاعدة» و«داعش» تظل أكبر بكثير من الفوارق؟
منذ عام ونصف العام تقريباً بدأ السؤال المتقدِّم يشكل عامل إزعاج لكثير من الخبراء الأمنيين حول العالم، وبات البحث عن الجواب شغلهم الشاغل، وقد طرح أول الأمر في أبريل (نيسان) 2017 خلال مؤتمر «موسكو الدولي السادس للأمن»، وفيه تحدث فاليري ميميوريكوف أمين عام منظمة معاهدة الأمن الجماعي بالقول: «حسب المعطيات المتوفرة، هناك محاولات أخيراً تعمل على تجاوز الخلافات عبر المفاوضات بين (داعش) و(القاعدة)، وضم هذين التنظيمين الإرهابيين في اتحاد واحد، ما النتيجة المتوقعة حال جرت الأقدار على هذا النحو؟»، يؤكد الخبير الروسي أنه «في حال تنفيذ هذه المبادرة، سينمو التهديد الإرهابي في العالم بأضعاف مضاعفة».
تبدي الاستخبارات الروسية بنوع خاص مراقبة دقيقة ولصيقة لـ«داعش» و«القاعدة»، ربما لأنها الأقرب لوجيستياً من أفغانستان، وهناك أخبار كثيرة متواترة عن بلورة كيان إرهابي جديد بين الجماعتين، في كنف «طالبان» بنوع خاص، وربما هذا ما أدى لإعلان مدير مصلحة الأمن الفيدرالية الروسية ألكسندر بورتنيكوف في أوائل شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عن أن هناك بوادر لتقارب بين تنظيمي «القاعدة» و«داعش» الإرهابيين، محذراً من المخاطر الناجمة عن احتمال دمج قدراتهما.
يذهب الخبير الروسي إلى أن هزيمة الإرهابيين على ساحات القتال دفعتهم إلى البحث عن إمكانيات جديدة لمواصلة نشاطاتهم الدموية، بما في ذلك توسيع رقعة وجودهم في دول «آمنة» سابقاً، إضافة إلى رصد حوادث تنقل مسلحين من وإلى أوطانهم في دول أوروبا وشمال أفريقيا وجنوب شرقي آسيا، وكذلك إلى أفغانستان، مما يزيد من خطورة اختراقهم منطقة آسيا الوسطى.
ولعل المتابع للمراكز البحثية الفكرية المهتمة بجماعات الراديكالية السياسي والإرهابي، حول العالم، يدرك أن الحديث يدور عن تنظيمين متشابهين آيديولوجيا، ويعتمدان على موارد بشرية مشتركة لتجنيد مسلحين جدد، وعلى الرغم من وقوع صدامات مسلحة أحياناً بين التنظيمين الإرهابيين، فإن ثمة حالات كثيرة من انضمام عناصر أحدهما إلى صفوف الآخر، سواء أكان ذلك بدوافع نفعية أو جراء تغيير الأوضاع الميدانية أو لأسباب أخرى.
ثم إن المتابع لـ«القاعدة» و«داعش»، وبنوع خاص من خلال تحليل خطاباتهما الإعلامية، وطرائق تواصلهما مع العالم الخارجي، يلحظ بالفعل نمواً مطرداً ومتشابهاً في التقارب الإعلامي، فكلاهما يحاول ترسيخ الأفكار الراديكالية عينها، وتجنيد أنصار جدد، مع استخدام أساليب وسبل متشابهة للتأثير الآيديولوجي، وإنشاء مجال إعلامي موحد وظيفته التعامل مع القاعدة المشتركة من مستخدمي الإنترنت.
تبدو المخاوف جدية، ويمكن للمرء القطع بأن هناك شيئاً ما يتخلَّق وراء الكواليس، الأمر الذي دعا سيرغي كوجيتيف النائب الأول لرئيس مركز الأغراض الخاصة التابع للمخابرات الخارجية الروسية، للتصريح لأول مرة وبشكل علني في أوائل سبتمبر (أيلول) الماضي بأن «قوة تدميرية إرهابية هائلة في الطريق، من جراء تأسيس مسلحي تنظيمي (داعش) و(القاعدة) الإرهابيين لكيان مؤسسي مقبل؛ كيان سيكون هجيناً، وستكون له موارده الخاصة، سواء البشرية أو المادية، ما يعني أن العالم أمام تحدٍّ قاتل وخطير ومزعج»، بحسب وصفه.
هل كانت عيون الاستخبارات الأميركية المختلفة منشغلة أو غافلة عما يجري من هول كبير مقبل؟
لا يمكن بالقطع أن تكون الولايات المتحدة الأميركية منشغلة عن متابعة الأمر، لا سيما أنّ الرئيس ترمب يضع في مقدمة أهدافه محاربة الإرهاب والقضاء عليه في أي بقعة أو رقعة حول العالم، وهذا ما يتجلَّى في الاستراتيجية الأميركية الأخيرة لمحاربة الإرهاب حول العالم، بما فيها من عودة إلى أفكار الضربات الاستباقية أو الحرب الوقائية، لقطع الطريق على عودة الجماعات الظلامية مرة أخرى.
ولعل المطالع للصحافة الأميركية في الأشهر الأخيرة يدرك بما لا يدع مجالاً للشك أن هناك نقاشات محمومة دائرة في كواليس المؤسسة العسكرية الأميركية بشأن اتحاد مقبل، وربما قائم بين «داعش» و«القاعدة».
يكتب أخيراً بروس هوفمان البروفسور في جامعة جورجتاون الأميركية العريقة، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع «البنتاغون»، في مقال تحليلي عبر الصحافة الأميركية يقول إن تحالف المجموعتين أمر لا مفر منه، وبحسب رأيه، فإن التقارب بين المجموعتين في سوريا لم يحصل منذ بداية النزاع، بل كانت تدور بينهما اشتباكات مسلحة، وذلك بسبب التنافس والاختلاف الفكري بينهما، ولكن مسألة تحالفهما تصبح مرجحة جداً حالياً، نتيجة للهزائم المستمرة وفقدان السيطرة على مساحات واسعة في سوريا.
مدير مركز التحليل السياسي - العسكري في معهد هدسون الأميركي، ريتشارد وايتس الخبير العسكري المعروف، يرى أن الضغط المستمر من جانب روسيا والولايات المتحدة على المجموعات الإرهابية يجبرهم على إنشاء تحالفات، وأن الخلافات توضع خلفهما، ويمكنهما تجاوزها فقط في حال بروز خطر القضاء عليهما نهائياً، على الرغم من أنه نادراً ما تنشئ المجموعات الإرهابية تحالفات، لأنها لا تميل إلى ذلك في الأصل.
لم تكن إشكالية الاتحاد المرتقب بين «داعش» و«القاعدة» لتغيب كذلك عن المراقبين التابعين للأمم المتحدة، وقد وصفوا في تقرير مطوَّل لهم في شهر أغسطس (آب) الماضي أحوال ومآلات التنظيمين الإرهابيين، ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية بعض ما جاء فيه، كالقول على سبيل المثال إن تنظيم القاعدة لا يزال صامداً بشكل لافت، وإنه يشكل خطراً أكبر من تنظيم «داعش» في بعض المناطق، فيما حذروا من إمكانية تعاون مشترك بين التنظيمين لشن هجمات إرهابية على بلدان مختلفة.
التقرير الذي نحن بصدده، والذي تم رفعه لمجلس الأمن الدولي، يميط اللثام عن حقيقة مثيرة للغاية، تبين إخفاق كل الاستراتيجيات السابقة لمحاربة التنظيمات الإرهابية الكبرى حول العالم، وبنوع خاص «القاعدة»، على الرغم من الحروب الظاهرة والخفية التي سنَّتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، في الصومال والنيجر، بل على العكس تماماً فربما جاءت مثل تلك الحروب بردات فعل عكسية، فقد نشأ «داعش» في العراق وسوريا، جراء الغزو الأميركي، وليس قبله.
يذهب المراقبون في هذا التقرير تحديداً إلى أن المجموعات المرتبطة بـ«القاعدة» لا تزال تشكل التهديد الإرهابي الأبرز في بعض المناطق، مثل الصومال واليمن، والدليل على ذلك الهجمات المتواصلة والعمليات التي يتم إفشالها باستمرار.
هل يُفهم من هذا التقرير أن «القاعدة» لا تزال أخطر من «داعش» رغم كل المشاهد الدموية التي أقدمت عليها الأخيرة؟
التقرير يخبرنا بأن المجموعات المرتبطة بـ«القاعدة» في غرب أفريقيا وفي جنوب آسيا، تشكل خطورة أكبر من مقاتلي تنظيم «داعش» العاجزين حالياً عن فرض أنفسهم في موقع قوة، ويحذر من احتمالات حدوث تعاون بين مجموعات مرتبطة بتنظيم «داعش» وأخرى تابعة لـ«القاعدة» في بعض المناطق، ما يمكن أن يشكل تهديداً جديداً وجدياً حول العالم.
والثابت أن حديث الأرقام لا يكذب ولا يتجمل، ففي سوريا على سبيل المثال، لا تزال «جبهة النصرة» أحد أقوى وأكبر فروع تنظيم «القاعدة» في العالم، ومقاتلوها يلجأون إلى التهديد والعنف والحوافز المادية لضم مجموعات مسلحة صغيرة، ويبلغ عدد مقاتلي هذه الجبهة بين 7 و11 ألف شخص، من بينهم آلاف المقاتلين الأجانب، وهي تتخذ إدلب شمال غربي سوريا معقلاً لها.
ما الذي يجعل الدواعش يستعينون برجالات «القاعدة» ويغفلون الخلافات البينية بينهم، ويدخلون في شراكة استراتيجية معهم؟
الشاهد أن تنظيم «القاعدة» لديه ميزة نسبية، وهي قدرته على تحقيق التوازن الفعال بين الأهداف المحلية والعالمية، وهذا ما يشير إليه الباحث المتخصص في الشؤون الإرهابية دانيال بيمان، بقوله: «لقد حافظ المتطرفون على علاقات جيدة مع القبائل المحلية، وكانوا مرنين في فرض الشريعة، وما زال تنظيم (القاعدة) في شبه الجزيرة العربية قادراً على لعب دور مثل هجمات (شارلي إيبدو) في باريس أوائل عام 2015، كما يحافظ التنظيم على علاقة وثيقة بشكل متزايد مع (حركة الشباب) في الصومال و(جبهة النصرة)».
وثمة من يسأل: «هل من موقع أو موضع بعينه حول العالم مرشح لأن يضحى أرض المعسكر الجديد، لظهور وارتقاء حلف الإرهاب الأخطر المنتظر من جراء الشراكة بين (القاعدة) و(داعش)؟».
المؤكد بلا جدال أن المكان المقصود هو أفغانستان، وأن الساتر الأعلى الذي يمكنه أن يوفر للفصيل الجديد الحياة والمأوى هم جماعة «طالبان»، تلك التي بقيت صامدة رغم الضربات القوية التي تعرضت لها الحركة طوال ثماني عشرة سنة، فإرهابها حاضر، وعملياتها مستمرة في مناطق مختلفة من البلاد، الأمر الذي انعكس على التصريحات التي أدلى بها رئيس هيئة الأركان الأميركية الجنرال جوزيف دنفورد في 18 نوفمبر الماضي وقال فيها: «إن (طالبان) لا تخسر في الميدان»، مشيراً إلى تقدمها في الأراضي الأفغانية، وعدم خسارتها الحرب التي شنتها ضد القوات الأفغانية والأجنبية.
لماذا «طالبان» هي أفضل مكان للاتحاد بين مقاتلي «القاعدة» و«داعش»؟
ربما لسببين رئيسيين: الأول يتعلق بكون أفغانستان نقطة مشتركة للحضور الأميركي والروسي؛ الأول بالوجود والثاني من خلال الحدود.
بينما السبب الثاني هو وجود مساحات واسعة وشاسعة مسيطَر عليها من قِبَل «طالبان» في دولة متسعة، حيث تسيطر ميليشيات «طالبان» على 14 إقليماً بما يمثل 4 في المائة من مساحة الدولة، وتوجَد في 263 إقليماً آخر بما تصل نسبته إلى 66 في المائة من هذه المساحة، كما أن خبراتها الميدانية، وسيطرتها التنظيمية، وتجربتها التاريخية في مواجهة الأميركيين والروس، تجعل منها الأستاذ والمعلِّم الأكبر في ساحات القتال لكل الجماعات الإرهابية شرقاً وغرباً.
ولعل أحد أهم الذين التفتوا إلى تلك الحقيقة التي باتت شِبهَ واقعٍ سكوت ستيوارت الباحث في مركز «ستراتفور» الأميركي، الذي يُعتبر استخبارات الظل للمخابرات المركزية الأميركية؛ ففي مارس (آذار) 2017 تساءل: «هل تستطيع (القاعدة) و(داعش) العثور على أرضية مشتركة»؟
التحليل يلفت إلى مناطق البطون الرخوة حول العالم، حيث الدول الفاشلة التي ينعدم فيها الأمن، وهنا تأتي أفغانستان في المقدمة، وخلاصة رؤية ستيوارت أن قدرات «القاعدة» و«داعش» معاً ستشكل خطراً كثيراً وداهماً على العالم، أكثر بكثير مما يشكلانه وهما منقسمان.
إن تعميق الخلافات بين الأقطاب الكبرى، لا سيما بين موسكو وواشنطن، وبدرجة أخرى بكين، سوف يسهم في نجاحات مقبلة تؤدي بـ«القاعدة» و«داعش» إلى تخليق وحش إرهابي جديد، سيكون من الصعوبة بمكان مواجهته.
وعليه، فإنه كلما تباعدت المواقف، وتلاعبت الأطراف الدولية بالجماعات الأصولية الإرهابية، سيجد الإرهاب والإرهابيون بيئة ملاءمة لنموهم والسعي بالفساد في الأرض، وعليه لا بد من بناء حالة من حالات «الثقة الأممية»، إن جاز التعبير، لملاقاة الموت المقبل، لا سيما أن الأفكار التي يعتنقها الطرفان تجد انتشاراً واسعاً حول العالم، كلما ازدادت حالة اللاعدالة الاجتماعية، والتفاوت الطبقي، والصراع الأممي في وقت تنصهر فيه الطبقات التكتونية للنظام العالمي القائم، ودون ملامح لآخر مقبل.


مقالات ذات صلة

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

آسيا جندي باكستاني يقف حارساً على الحدود الباكستانية الأفغانية التي تم تسييجها مؤخراً (وسائل الإعلام الباكستانية)

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

الجيش الباكستاني يبذل جهوداً كبرى لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين.

عمر فاروق (إسلام آباد)
أفريقيا وحدة من جيش بوركينا فاسو خلال عملية عسكرية (صحافة محلية)

دول الساحل تكثف عملياتها ضد معاقل الإرهاب

كثفت جيوش دول الساحل الثلاث؛ النيجر وبوركينا فاسو ومالي، خلال اليومين الماضيين من عملياتها العسكرية ضد معاقل الجماعات الإرهابية.

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا سيدة في إحدى قرى بوركينا فاسو تراقب آلية عسكرية تابعة للجيش (غيتي)

تنظيم «القاعدة» يقترب من عاصمة بوركينا فاسو

أعلنت «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، الموالية لتنظيم «القاعدة»، أنها سيطرت على موقع عسكري متقدم تابع لجيش بوركينا فاسو.

الشيخ محمد ( نواكشوط)
أفريقيا رئيس تشاد يتحدث مع السكان المحليين (رئاسة تشاد)

الرئيس التشادي: سنلاحق إرهابيي «بوكو حرام» أينما ذهبوا

قال الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي، في مقطع فيديو نشرته الرئاسة التشادية، إنه سيلاحق مقاتلي «بوكو حرام» «أينما ذهبوا، واحداً تلو الآخر، وحتى آخر معاقلهم».

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا آثار هجوم إرهابي شنَّته «بوكو حرام» ضد الجيش التشادي (إعلام محلي)

«الإرهاب» يصعّد هجماته في دول الساحل الأفريقي

تصاعدت وتيرة الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي، خصوصاً بعد أن أعلنت تشاد أن أربعين جندياً قُتلوا في هجوم إرهابي.

الشيخ محمد (نواكشوط)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟