«داعش» يردع الفارين باستدعاء الوحشية

قتل بالرصاص وإعدامات

دواعش يتأهبون لتنفيذ إعدامات ضد «الفارين» (صفحات تابعة للتنظيم)
دواعش يتأهبون لتنفيذ إعدامات ضد «الفارين» (صفحات تابعة للتنظيم)
TT

«داعش» يردع الفارين باستدعاء الوحشية

دواعش يتأهبون لتنفيذ إعدامات ضد «الفارين» (صفحات تابعة للتنظيم)
دواعش يتأهبون لتنفيذ إعدامات ضد «الفارين» (صفحات تابعة للتنظيم)

محاولات تنظيم «داعش» الإرهابي لعقاب «الفارِّين» من جحيمه أو المدنيين في سوريا والعراق لا تنتهي عبر القتل بالرصاص، والإعدامات، في مشاهد تُعيد وحشية التنظيم الدموي التي اشتُهِر بها منذ ظهوره اللافت في عام 2014. ويتساءل خبراء مكافحة الإرهاب: هل سيواصل «داعش» سيناريوهات قتل «الفارّين» لتعويض خسائره بسوريا والعراق، خصوصاً بعدما ظهرت الأسابيع الماضية مشاهد كثيرة تدل على قسوته؟
خبراء مصريون أكدوا أن «داعش» أصبح يثأر بالقتل من «الفارين» والمدنيين كنوع من التخويف وبثّ الفزع فيمن يفكر بالهروب أو الانشقاق. وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «السبب الأساسي وراء قيام التنظيم بعقاب (الفارين) هو فقدانه كثيراً من عناصره بعد كشفهم حقيقة أفكاره وعقيدته الدامية». لكنهم أشاروا إلى أن التنظيم يعاني من تخبُّط داخلي واضح طيلة الأشهر الماضية.
- مناظر متكررة
وأخيراً قام التنظيم بتصفية عدد من العناصر المدنية، وعناصر تابعين له في منطقة دير الزور بالعراق رمياً بالرصاص، بتهمة السعي إلى الخروج من مناطق «الدولة المزعومة». كما قتل سيدتين رمياً بالرصاص أيضاً في مدينة الشفعة بدير الزور في سوريا، وقتل شاباً بتهمة محاولة التواصل مع القوات السورية. وأعدم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تسعة مدنيين غرب الموصل على خلفية تعاونهم مع القوات الأمنية. وفي نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي أعدم 3 مدنيين من بلدة الباغوز بسوريا. وفي أغسطس (آب) الماضي وثَّق سوريون تنفيذ «داعش» 41 عملية إعدام خلال شهري أغسطس ويوليو (تموز)، رمياً بالرصاص، وبفصل الرؤوس عن الأجساد، كما أعدم 583 من عناصره بزعم العمالة ومحاولة الفرار. وفي مايو (أيار) الماضي استعرض عناصر التنظيم طريقة إعدام لأسير في مخيم اليرموك بسوريا، حيث قيدوه بالحبال ووضعوا المتفجرات في خوذة ثبتوها على رأسه وفجَّروها.
من جهته، يقول الدكتور إبراهيم نجم مستشار مفتي مصر مدير مرصد الفتاوى التكفيرية التابع لدار الإفتاء المصرية إن «السبب الأساسي وراء قيام التنظيم بهذه الأفعال الدموية هو فقدانه لكثير من مقاتليه، بعدما اكتشفوا حقيقة أفكاره وعقيدته البعيدة كل البعد عن تعاليم الدين الإسلامي السمح، لذلك يسعى إلى التخلص من العناصر التي يرى فيها أنها اكتشفت أفكاره الإجرامية، حتى لا يكون لهم تأثير على الباقين»، مضيفاً أنَّ «إعدام المدنيين دليل على أن التنظيم يسعى إلى ترهيب المواطنين، خصوصاً بعد محاولات الفرار التي قام بها البعض للخروج من تحت سيطرته؛ فما يقوم به (داعش) يشير إلى أن التنظيم يعاني من تخبط داخلي واضح».
- فتاوى القتل
وأفتى فواز العلي المُلقب بـ«أبو علي الشرعي»، ويُشار إلى أنه القاضي الشرعي لـ«داعش»، في يوليو عام 2017، بجواز قتل المقاتلين الدواعش الذين يحاولون الفرار، وكذلك قتل المدنيين الذين يحاولون الهرب أيضاً ويعرِّضون حياة أعضاء التنظيم للخطر، من خلال نقل المعلومات عنهم.
ويشير مراقبون إلى أن تعمُّد التنظيم إلقاء الضوء على عمليات الإعدام التي يقوم بتنفيذها ضد بعض العناصر التي تسعى للانشقاق عنه، وبثَّ مقاطع فيديو خاصة بها، يهدف إلى ردع العناصر الأخرى، ومنعها من التفكير في الإقدام على تلك الخطوة، خصوصاً بعد هروب كثير من عناصره عقب اكتشافهم زيف مزاعم التنظيم، بعد الهزائم التي طالته في سوريا والعراق ودول أخرى.
يُشار إلى أن «داعش» خلال عامه الأول من إعلان دولته «المزعومة» في سوريا والعراق قطع ما يزيد على 3 آلاف رأس من المدنيين ومن عناصره، بتهمة الغلو والتجسس لصالح دول أجنبية، عند محاولتهم العودة إلى بلادهم، وأصدر حينها سلسلة أشرطة فيديو دعائية، بث فيها عمليات إعدام علنية وجماعية، واحتوت بعضها على سجناء أُجبِروا على حفر قبورهم بأيديهم قبل إعدامهم.
- تخويف ورعب
من جهته، قال اللواء طلعت مسلم الخبير الأمني والاستراتيجي، إن «داعش» أصبح يثأر بالقتل من «الفارين» والمدنيين عبر مشاهد علنية، كنوع من التخويف وبث الفزع فيمَن يفكر بالانشقاق عنه، موضحاً أن التنظيم يقصد من مناظر إعدام الضحايا توجيه رسالة بأنّ هذا سوف يكون مصير كل من يهرب، وكل من يخالف التنظيم في الفكر، مضيفاً أن «تزايد نشر أخبار التنظيم عن عمليات قتل الرهائن والمدنيين في أذرعه الإعلامية، والمقاطع المصوَّرة لإعدام عناصره الهاربة، دليل واضح على ضعف الانسجام بين عناصره، والإنهاك الذي أصاب التنظيم خلال الفترة الأخيرة».
في هذا الصدد، ذكرت دراسة حديثة لمرصد الأزهر بالقاهرة أن من أهداف التنظيم الرئيسية تصدير صورة بشعة عن الإسلام، فالمدقق فيما خلَّفته الحرب ضد «داعش» في سوريا والعراق يُدرك بسهولة منهج الحرب النفسية الذي يتعاطاه التنظيم مع المدنيين؛ فهو يتعامل معهم بوحشية غير طبيعية، كما أن الناظر في منشوراته الأخيرة يُدرك أيضاً اتباعه النهج نفسه، في محاولته بث الرعب بقلب رجل الشارع الغربي. وأضافت الدراسة أن تنظيم «داعش» يواصل بث الرعب والخوف في قلوب الآمنين، مُحاولاً البقاء في أذهان أعضائه الذين شتتهم الواقع.
يُذكر أن الأردني أبو مصعب الزرقاوي، مؤسس التنظيم في بداياته، هو أول من قام بذبح أحد الرهائن الأميركيين في العراق، ويُدعى يوجين أرمسترونغ عام 2004، بحز رقبته بسكين، وقد قامت جماعة «التوحيد والجهاد» حينذاك بنشر الفيديو المصوَّر لعملية الذبح على الإنترنت.
- مناصرون جُدد
يُشار إلى أن «داعش» اعتمد، منذ نشأته، اعتماداً كبيراً، بل كلياً، على آلته الإعلامية لبث آيديولوجيته خلال الشبكة العنكبوتية، حيث كان يقضي أنصار التنظيم غالب وقتهم على مواقع التواصل، للعمل على استقطاب مناصرين جُدد، وتجنيد مقاتلين من جميع أنحاء العالم... وكذلك لتلقي نداءات التنظيم، وشرح كيفية إعداد وتحضير المتفجرات يدوية الصنع، وكيفية شن هجمات إرهابية بأدوات متاحة في الوسط الذي يعيش فيه المتطرف بأي وسيلة كانت، حتى لا يلفت أنظار المحيطين به.
والشهر الماضي، أصدر «داعش» مجلة جديدة أطلق عليها «شباب الخلافة»، كي تكون منبراً لجذب الشباب وتجنيدهم وحثهم على الانضمام إلى التنظيم أو القيام بالأعمال الإرهابية تحت اسم «الذئاب المنفردة»، فالمجلة اعتمدت على الصورة أكثر من الكلمة، وإن كان إخراجها أقل مما اعتاد عليه التنظيم، وقد يعود ذلك إلى رغبة «داعش» في أن يظن الجمهور أنها مجلة من إخراج المناصرين، وليست من منابر التنظيم الإعلامية، كما يدعي هو، إضافة إلى أن جميع رسائلها تعتمد على الإثارة والتشويق، وسرد قصص للمنضمين للتنظيم من الدول الأوروبية، ومدى تحملهم العناء (على حد زعم التنظيم).
- محاولات زائفة
المراقبون أكدوا أنه مما لا شك فيه أن «داعش» استغلّ بنجاح الفضاء الإلكتروني، ذاك الفضاء الذي سهّل له نشر سمومه ومكَّنه من تجنيد الآلاف من المؤيدين لها بالعالم؛ فكان له أهمية خاصة لدى «داعش» وكثير من التنظيمات الإرهابية، وذلك لعدة أسباب، منها: ضمان السرّية لوجود التطبيقات المشفرة التي تعتمد عليها التنظيمات في نقل الأفكار والأوامر والخطط لمؤيديها، والاستمرار في نقل الأفكار المتطرفة وتبادلها بين مناصري تلك التنظيمات، وإعطاء التنظيمات المتطرفة حجماً أكبر بكثير من حجمها الطبيعي، وهو ما يُسهِم في حشد مناصرين أكثر، ولا تفوتنا أيضاً التكلفة وسهولة وسرعة التواصل من خلال تلك المواقع والتطبيقات المشفرة.
وقال الدكتور إبراهيم نجم إن «عمليات قتل وإعدام (الفارين) من (داعش)، والمجلة الجديدة، تحمل دلالة غاية في الأهمية، وهي أن التنظيم بات يعاني بشكل غير مسبوق من غياب المقاتلين والمناصرين له، فضلاً عن محاصرته على شبكات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت، وهو ما دفعه لمحاولة خلق هذا الزخم حوله، والإيحاء للعالم بأن مناصريه كُثر، وأنهم يسهمون في نشر أفكاره وترويجها، بل إنهم يضمنون بقاء التنظيم وأفكاره على المدى الطويل»، مشيراً إلى أن قادة «داعش» يعتقدون أن القتل بشراهة ووحشية، يُسهم في استقرار سيطرتهم وخضوع الناس لهم، خوفاً من البطش والقتل على يد عناصره، وذلك على الرغم من أن التراث الإسلامي على امتداده، لا يوجد به ما يدعو إلى القتل، وسفك الدماء، أو إرهاب الناس وتخويفهم.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.