ماكرون أمام تحدٍ كبير... أم سقوط عظيم؟

باريس تحبس أنفاسها في «سبت حاسم}

ماكرون أمام تحدٍ كبير... أم سقوط عظيم؟
TT

ماكرون أمام تحدٍ كبير... أم سقوط عظيم؟

ماكرون أمام تحدٍ كبير... أم سقوط عظيم؟

تحبس فرنسا اليوم أنفاسها ويقض الخوف مضاجعها. إنه الخوف من المجهول وتحديدا مما سيحمله لها «السبت الأسود» الذي يطل برأسه منذراً بمزيد من العنف والفوضى ليس فقط في العاصمة باريس بل أيضا في المدن الرئيسية والمتوسطة. ومصدر الخوف أيضاً أن الحركات الاحتجاجية لم تعد فقط محصورة بـ«السترات الصفراء» التي انطلقت في السابع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وتتأهب اليوم لـ«الفصل الرابع» و«للنزول» مجددا إلى باريس إذ انضمت إليها الحركة الطلابية التي تشمل تلامذة التعليم الثانوي والجامعي ولكل مطالبه.
ولقد عرف يوم الخميس الماضي مشاهد من العنف لا تختلف كثيرا عما يجري في فرنسا منذ أكثر من ثلاثة أسابيع. إلا أن ما حصل في مدينة مانت لاجولي الواقعة شمال غربي باريس أثار استياء الفرنسيين. عشرات من الشبان راكعون وأيديهم فوق رؤوسهم ووجوههم إلى الحائط وحولهم رجال الأمن من الشرطة وقمع الشغب بكامل معداتهم. إنهم مزيج من تلامذة ومن شبان من الخارج تم إيقافهم لأن الشرطة اعتبرت أنهم مثلوا تهديدا للأمن بسبب المظاهرة الاحتجاجية التي كانوا يقومون بها رفضا «لإصلاحات» وزير التربية التي أدخلها على شهادة البكالوريا وولوج المرحلة الجامعية. وكانت الصدمة عظيمة لدى الفرنسيين حتى أن جان ميشال بلانكيه، وزير التربية نفسه، لم يتردد في التعبير عن صدمته هو عندما شاهد مقاطع من الفيديو المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي كافة وعلى منصات القنوات التلفزيونية والصحافة.

لم يعد أصحاب «السترات الصفراء» والطلاب وحدهم في الساحة الاحتجاجية الفرنسية، إذ انضمت إليهم شرائح قطاعية إضافية لتزيد المشهد تعقيدا: القطاع الزراعي، سائقو الشاحنات، سائقو سيارات الإسعاف وغيرهم من أصحاب المطالب الذين يرون أن «الضعف» الذي ألم بالحكومة يشكل الفرصة المناسبة لانتزاع شيء ما في «مهرجان» المطالب المتكاثرة.
غير أن الأساس يبقى تحرك «السترات الصفراء» الذي لم يكن أحد يتوقع له أن يصل إلى ما وصل إليه وأن يرخي هذا الجو من الخوف فوق رؤوس الفرنسيين، ويشلّ العمل الحكومي، ويبيّن التوتر في أعلى هرم السلطة، ويغيّب رئيس الجمهورية عن المسرح رغم الأحداث العنيفة تاركا رئيس حكومته في خط المواجهة الأول.
سُميت الحركة الاحتجاجية «السترات الصفراء» استنادا إلى السترة الصفراء التي يفترض أن توجد في كل سيارة في فرنسا ـ ويتوجب على سائقها ارتداؤها حين حصول حادث من أي نوع كان. أما جديد هذه الحركة فهو أنها لم تخرج من عباءة أي حزب من الأحزاب أو النقابات، بل انطلقت من خلال عريضة وضعت على الإنترنت، ومن أشخاص مجهولين تطالب بوقف زيادات الرسوم على المشتقات النفطية التي ما فتئت الحكومة تزيدها شهرا وراء شهر، خصوصاً على مادة الديزل (المازوت).
حجة الحكومة أن الزيادات ليس غرضها تحميل المواطنين، خصوصاً سكان الأرياف والمزارعين وكل من يحتاج لسيارته للتنقل، مزيدا من الرسوم التي تضاف إلى الكم الكبير من الضرائب التي يدفعها الفرنسي العادي - التي هي الأعلى في أوروبا -، بل التسريع في «النقلة البيئوية» التي التزمت بها فرنسا وكل البلدان التي وقعت على «اتفاقية باريس للبيئة» في ديسمبر (كانون الأول) من العام 2015.
إذن، الغرض نبيل وتحقيقه يمرّ عبر رفع الرسوم للانتقال من الاعتماد على «الطاقة الملوثة» والانتقال إلى «الطاقة النظيفة».
وكان من المفترض أن ترتفع الرسوم المشار إليها بدءا من العام 2019 وتستمر في الأعوام التالية: 2020 و2021 و2022. وبصورة عامة، ومن غير هذه الزيادات، فإن الدولة تجني من الرسوم المفروضة على المحروقات ما لا يقل عن 35 مليار يورو سنويا ويفترض بالرسوم الجديدة أن توفر لها 4 مليارات إضافية.

طفح الكيل
حقيقة الأمر أن الرسوم المشار إليها لم تكن سوى الشرارة التي أطلقت الحريق الذي انتشر كالنار في الهشيم. وأساس المشكلة أن الدولة تتصرّف منذ أن وصل إيمانويل ماكرون إلى رئاسة الجمهورية في ربيع العام 2016 بكثير من الفوقية. ومشكلتها أنها صمّت أذنيها عن مطالب «السترات الصفراء»، معتبرة أنها موجة عابرة سبق أن واجهت أعتى منها في السابق، وبالذات، عند إطلاق إصلاح قانون العمل والقوانين الناظمة لقطاع السكك الحديد وقوانين أخرى كثيرة تندرج في سياق طموح الرئيس ماكرون في إحداث «تحولات عميقة» في المجتمع الفرنسي... الذي وصفه ماكلاوم يوما بأنه «رافض للتغيير».
وانطلاقا من هذا المعطى، رفضت الحكومة الاستجابة لمطلب محدد. وأكد ماكرون ورئيس الحكومة إدوار فيليب والوزراء المعنيون أن الدولة «لن تتراجع» وأن الرسوم الجديدة «باقية». وراهنت الدولة على تراخي الحركة الاحتجاجية التي انطلقت بإعاقة السير في المدن وعلى الطرقات السريعة، ومحاصرة مستودعات الطاقة الرئيسية.
وحصل أول «نزول» محدود إلى العاصمة في السبت الأول. وكما في كل حركة احتجاجية، تندس مجموعات «مشاغبة» تنتمي إلى اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف، لا تتردّد في اللجوء إلى العنف والاشتباك مع القوى الأمنية. وحقاً، استخدمت الحكومة هذه الحجة لنزع الشرعية عن الحركة الاحتجاجية، كما استخدمت حجة تحريكها من الخارج، وتحديداً من اليمين المتطرف ومن حزب مارين لوبن «التجمع الوطني». لكن النتيجة جاءت عكسية، إذ زاد تعاطف الرأي العام معها، ووصل حتى بعد أعمال العنف التي شهدتها العاصمة إلى 80 في المائة. والأهم من ذلك أن الحركة التي كان لها مطلب واحد في البداية أصبحت أكثر راديكالية، لا بل إن مطالبها تكاثرت لتشمل، إضافة إلى إلغاء زيادات الرسوم على المحروقات، خفض الضرائب ورفع مستوى الحد الأدنى للأجور والمعاشات التقاعدية، وحتى إلغاء مجلس الشيوخ وإجراء استفتاء.
كان واضحاً، لمن يريد أن يفتح عينيه، أن حركة «السترات الصفراء» تعكس مزاجاً شعبياً رافضاً للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتبعها عهد ماكرون منذ البداية. والأمر الثاني أن الرئاسة والحكومة يغلب عليهما طابع التكنوقراطية التي لا تعرف حقيقة مشاكل الناس، لا بل إنها تنظر إليها بفوقية. ومن هنا، فإن السائل الذي أشعل الحركات الاحتجاجية، وحوّلها إلى ما أصبحت عليه كان بالدرجة الأولى ردّ فعل ماكرون نفسه، ثم الحكومة، وكلاهما لم يفهم طبيعتها أو عمقها. والأمر الثالث أن السلطات تعاملت بكثير من «الارتجال» مع «السترات الصفراء»، وهو ما ظهر في القرارات التي اتخذت التي جاءت إما متأخرة أو منقوصة. ولم يعد سراً وجود «خلافات» على رأس السلطة، وتحديداً، بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة... وكيفية تعاطي الأول مع الثاني.
كان أول الغيث رفض إدوار فيليب، الآتي إلى الحكم من صفوف حزب «الجمهوريون» اليميني، التجاوب مع رغبة ماكرون في الاستجابة جزئياً لمطالب «السترات الصفراء» قبل أقل من أسبوعين. ومع ذلك، خطا ماكرون نصف خطوة بإعلانه اعتماد «آلية» تكون مهمتها النظر في زيادات الرسوم وتكييفها وفق تحولات السوق النفطية. إلا أن هذه الخطوة «الناقصة» دفعت بـ«السترات الصفراء» إلى جادة الشانزليزيه في أول «سبت أسود».
وجاء «السبت الأسود» الثاني ليقلب الأمور رأساً على عقب بسبب بما عرفته باريس وعدد من المدن الكبرى من أعمال شغب واشتعال الحرائق، ومعارك كرّ وفرّ بين المحتجين ومن اندس في صفوفهم والقوات الأمنية... وعجز الأخيرة عن السيطرة على الوضع. وتبين للسلطات أن التمسك بالموقف الرافض الاستجابة لمطالب المحتجّين، بحجة أن التراجع عنه يعني «انكسار» الدولة بوجه الشارع، أصبح مستحيلاً، لا سيما، أن جميع الأحزاب - وبينها أصوات من داخل الحزب الرئاسي «الجمهورية إلى الأمام» - ما فتئت تحثّ الحكومة على التخلي عن تصلّبها. ومن هنا، جاء إعلان رئيس الحكومة أول من أمس في البرلمان، بعد اجتماع ليلي في قصر الإليزيه برئاسة ماكرون، عن «تجميد» الزيادات على المحروقات، بما فيها الغاز والكهرباء طيلة ستة أشهر. ولأن رد الفعل جاء سلبيا واعتبار الحركة الاحتجاجية أن التدابير الحكومية «مجزوءة ومتأخرة»، دخل قصر الإليزيه على الخط ليعلن أن الرئيس ألغى كل الزيادات لسنة 2019 كاملة.

رئاسة تخطتها الأحداث
الواضح أن الرئاسة الفرنسية، التي عُرف عنها خلال عام ونصف جديتها وتمكّنها من إدارة شؤون الدولة بيد من حديد، تخطّتها الأحداث. لقد تراجعت بعدما أكدت سابقاً أنها «لن تتزحزح»، ولم تكتف بإلغاء الزيادات... بل أبطلت قراراً سابقاً بتشديد المعايير التقنية المفروضة على السيارات، وألغت الزيادات المقرّرة - ككل بداية عام - على أسعار الغاز المنزلي والكهرباء، وسعت لاسترضاء المزارعين وكل من رفع مطلباً...
من ناحية ثانية، قرار ماكرون «المزايدة» على رئيس الحكومة وضع الأخير في موقف حرج، ونزع عنه «هيبة» الموقع الذي يحتله. ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد. فبالنظر إلى مطالبة غالبية الطيف السياسي بأن تتراجع الحكومة عن قرارها العام الماضي إلغاء «الضريبة على الثروة»، اعتبر بعض الوزراء وعلى رأسهم إدوار فيليب أنه من المفيد تنفيس الاحتقان و«فتح كوة» للنقاش في هذا الملف المتفجّر الذي جعل الناس ينظرون إلى ماكرون على أنه «رئيس الأغنياء». ولذا، لم يستبعد رئيس الحكومة في خطابه أمام النواب، أول من أمس، أن تعمد الحكومة إلى مراجعة قرارها، والنظر فيما إذا كان حقيقة يدفع المستفيدين من إلغاء الضريبة المذكورة إلى الاستثمار في الاقتصاد الفرنسي. كذلك فعل الناطق باسم الحكومة بنجامين غريفو ووزيرة الثقافة مارلين شيابا.
إلا أن الرد من ماكرون جاء صاعقاً، إذ أغلق الباب تماماً أمام هذه الاحتمالات، بتأكيده في مجلس الوزراء يوم الأربعاء أن «ما تقرر لن يعاد النظر فيه». واختار ماكرون، الذي يدير العمليات عن بعد الصمت منذ عودته من العاصمة الأرجنتينية بوينس أيرس الأحد الماضي. وأعلن ريشار فران، رئيس مجلس النواب والمقرّب منه، أنه سيتوجه إلى الفرنسيين «الأسبوع القادم»، والسبب في ذلك أنه «لا يريد صبّ الزيت على النار» الأمر الذي يبدو غريباً، إذ أن وظيفة رئيس الجمهورية إيجاد الحلول لمشاكل المواطنين لا تأجيجها.

ماذا سيجري اليوم؟
من المبكر السعي لمحصلة نهائية للحركات الاحتجاجية المتشابكة والمتواصلة لأنها لم تتكامل فصولا. لكن الاختبار الأخطر بالنسبة للدولة هو ما سيجري اليوم السبت الذي يدشّن «الفصل الرابع» من «انتفاضة السترات الصفراء».
وتحسباً لما سيحصل، عمدت الدولة إلى حشد نحو 90 ألف رجل أمن منهم 8 آلاف لباريس وحدها، في محاولة منها للسيطرة على الوضع، وتلافي تكرار مشاهد العنف التي أدمت باريس والكثير من المدن السبت الماضي. وللمرة الأولى سيشاهد الباريسيون في شوارعهم مدرّعات قوى مكافحة الشغب في غير مناسبة احتفالات العرض العسكري الذي ينظم سنوياً يوم 14 يوليو (تموز). وبموازاة ذلك، عمدت السلطات إلى إغلاق المراكز السياحية الرئيسية، وعلى رأسها برج إيفل ومتحف اللوفر ومتحف أورساي. وحثّت بلدية باريس أصحاب المتاجر في منطقة الشانزليزيه والجادات المتفرعة عن ساحة «الإيتوال»، حيث قوس النصر، إلى اتخاذ تدابير وقائية، لا بل الإغلاق.
كل يوم سبت في فرنسا يأتي بجديد. وبعدما كان يوماً عاديا، ككل أيام السنة التي تشهد مظاهرات واحتجاجات في كل أنحاء البلاد، تحوّل شيئا فشيئاً إلى يوم «أسود»... بدا «داكناً» بعض الشيء في مستهل الأحداث، لكنه مع كل أسبوع تزداد «دكانته» حتى أصبح اليوم «حالكاً». وربما كان من الأدق الحديث عن «سبت أحمر»... نظراً لأعداد الجرحى بالمئات من المحتجين ورجال الأمن، أو بسبب الحرائق التي لفّت الأحياء الباريسية الراقية السبت الماضي.

صورة قوس النصر
كم هي بعيدة صورة قوس النصر يوم 11 نوفمبر (تشرين الثاني) عن صورته يوم السبت الماضي.
في التاريخ الأول، كان ملتقى قادة العالم الذين اجتمع منهم 75 ملكاً ورئيساً ورئيس حكومة... جاءوا كلهم للاحتفال بالمئوية الأولى لانتهاء الحرب العالمية التي أدمت بدايات القرن الماضي. أما السبت الماضي، فقد تحوّلت باريس ذاك اليوم الممطر إلى ساحة حرب حقيقية... قنابل مسيلة للدموع وقنابل صوتية من جهة، مقابل حجارة الأرصفة والعبوات وكل ما وقع تحت أيدي المحتجين، وخصوصاً، مجموعات المشاغبين من اليسار المتطرف «البلاك بلوك» أو اليمين المتطرف التي «تتسلق» كل القطارات الاحتجاجية وغرضها الاشتباك مع القوى الأمنية وزرع الفوضى.
باريس عادت مجدّداً لتتحول إلى «عاصمة العالم». والمشهد الباريسي تحوّل إلى حدث كوني نقلته القنوات الإخبارية دقيقة وراء دقيقة. العالم كله تسمّرت أنظاره على مجموعات من الشباب الذين يغطون رؤوسهم ووجوههم كيفما اتفق، ويضعون أقنعة واقية من الغاز الذي انهمر بكثافة على المحتجين. ويُحسب لهم أنهم نجحوا في إرباك القوى الأمنية التي وفّرت منها مديرية الشرطة في العاصمة ووزارة الداخلية أكثر من 5500 رجل أمن، بينهم كثيرون من وحدات مكافحة الشغب بمنظرهم الخارجي المخيف، ومئات السيارات وعشرات الشاحنات المجهّزة بخراطيم المياه.
لكن ذلك كله لم يكن ذا فائدة. وكانت الخطة الأمنية تقضي بمنع الوصول إلى «المربع الذهبي»، الذي قلبه القصر الرئاسي في شارع فوبور سانت هونوريه، لكنه يمتد جنوبا ليضم ساحة «الكونكورد»، بمسلتها الفرعونية وفنادقها الفخمة مثل فندق لو كريون الملاصق لمبنى السفارة الأميركية، إضافة إلى مبنى المجلس النيابي بأعمدته الإغريقية... ووصولا إلى مبنى رئاسة الحكومة.
غير أنه ما خلا هذه المنطقة البالغة الحماية، كان مسرحاً لأعمال عنف لم ينج منها قوس النصر الذي كان الإمبراطور نابوليون بونابرت قد أمر بتشييده لتخليد انتصاراته العسكرية وإنجازاته المدنية.
وخلال ثلاثة أسابيع من التحرّكات سجّل مئات التوقيفات وعشرات الجرحى. والحقيقة أن المحصلة تبدو ثقيلة للغاية: 820 جريحا في أوساط المحتجين و200 في صفوف رجال الأمن. والقبض على 1600 شخص منهم وأوقف ما لا يقل عن 100 شخص... حتى أن المحاكم في باريس وخارجها بدت عاجزة عن التعاطي مع هذه الأعداد الكبيرة من الموقوفين. وبجانب الخسائر المادية ومنها الممتلكات والسيارات المحروقة، فإن الخسارة الأكبر هي تدهور صورة باريس قبل أيام من أعياد الميلاد ونهاية السنة، وما لذلك من تأثير على المدى البعيد على جاذبية هذه المدينة.
يبقى سؤال يتعين طرحه: كيف انحدرت الأمور إلى هذا الدرك في بلد ديمقراطي كفرنسا، يكفل دستوره حق التظاهر والاحتجاج، بل كان البلد الأول في العالم الذي أوجد شرعة لحقوق الإنسان مباشرة بعد ثورة العام 1789؟
حقيقة الأمر أن الفرنسيين حائرون، ويبدون عاجزين عن فهم ما حصل للرئيس إيمانويل ماكرون، الشاب الطموح الذي قبض على الرئاسة وهو تحت سن الأربعين. وجاء ببرنامج إصلاحي «جذري» يريد بموجبه إحداث «تغييرات عميقة» في المجتمع الفرنسي... فشل سابقوه أو لم يرغبوا في القيام بها.


مقالات ذات صلة

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

حصاد الأسبوع تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

بعد عِقد من الزمن، توافد الناخبون بإقليم جامو وكشمير، ذي الغالبية المسلمة والخاضع للإدارة الهندية، بأعداد قياسية للتصويت للحكومة المحلية في إطار انتخابات...

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع طابور اقتراع في كشمير (رويترز)

القضايا الرئيسية في انتخابات 2024 الكشميرية

برز إلغاء المادة 370 وتأسيس دولة مستقلة في جامو وكشمير قضيتَين رئيسيتين في هذه الانتخابات، بينما تشكّل البطالة مصدر قلق مزمن كبير. الصحافي زاهور مالك قال: «ثمة…

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)

مسعود بزشكيان جرّاح القلب البراغماتي... يجد نفسه معالجاً لأزمات إيران المزمنة

بزشكيان
بزشكيان
TT

مسعود بزشكيان جرّاح القلب البراغماتي... يجد نفسه معالجاً لأزمات إيران المزمنة

بزشكيان
بزشكيان

لا يُعد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الذي سيبلغ السبعين من العمر الأحد المقبل، من ساسة الرعيل الأول الذين شاركوا في ثورة الخميني عام 1979 أو قادة الأحزاب السياسية، بما في ذلك التيار الإصلاحي، الذي ينتمي إليه. ثم إنه ليس من المحسوبين على الجهازين الأمني والعسكري، رغم حضوره في المشهد السياسي الإيراني، وتدرجه البطيء في المناصب على مدى العقود الثلاثة الأخيرة. وكان بزشكيان، الذي أطل على العالم بالأمس من منبر «الأمم المتحدة»، قد فاز في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية المبكرة مدعوماً من الإصلاحيين، وفيها تغلب على المرشح المحافظ المتشدد سعيد جليلي، وحصل على أقل عدد من أصوات الناخبين بعد ثورة 1979، نظراً للمقاطعة التي وصلت إلى مستويات قياسية rnغير مسبوقة.

ولد مسعود بزشكيان في أكتوبر (تشرين الأول) 1954، لأب آذري تركي وأم كردية في مدينة مهاباد، بمحافظة أذربيجان الغربية، ثم انتقل إلى مدينة أورمية حيث أكمل دراسته الثانوية. والتحق بالتجنيد الإلزامي وأمضى سنتين في محافظة بلوشستان بجنوب شرقي البلاد، قبل أن ينتقل إلى طهران لدراسة الطب، وهناك توقفت دراسته في السنة الأولى بسبب أحداث الثورة التي أطاحت بنظام الشاه. وخلال سنتين من تعطل الجامعات الإيرانية بسبب ما يعرف بـ«الثورة الثقافية»، تزوّج بزشكيان ورزق بـ4 أبناء، لكنه فقد زوجته وأحد أبنائه في حادث سير مؤلم في 1993، ورفض الزواج ثانية.

الحرب العراقية الإيرانية

تزامنت عودة بزشكيان للدراسة في السنة الجامعية الثانية مع بداية الحرب الإيرانية - العراقية، وكذلك المعارك بين «الحرس الثوري» والأحزاب الكردية المعارضة. وانضم إلى الطاقم الطبي في جبهات الحرب، بمحافظة كردستان، قبل أن يتوجه جنوباً إلى مدينة عبادان التي شهدت معارك شرسة وأصبح مسؤولاً عن الفرق الطبية في جبهات الحرب. وبعد سنوات قليلة، عاد لإكمال دراسته في 1985.

ساهم سجلّ الرجل في جبهات الحرب بتسهيل مشواره العلمي، مستفيداً من الامتيازات الخاصة التي تمنحها السلطات للعسكريين في الحرب. وبالفعل، حصل عام 1990 على شهادة الاختصاص في الجراحة العامة، واستغرق الأمر 3 سنوات لحصوله على الاختصاص في جراحة القلب. ومن ثم، التحق بمستشفى أمراض القلب في مدينة تبريز، وأصبح رئيساً له، وصار أستاذاً جامعياً بقسم القلب والشرايين في جامعة تبريز للعلوم الطبية، لكنه لم يُقبل في المجمع الطبي الإيراني إلا عام 2010.

المسار السياسي

أداء بزشكيان المهني، وخصوصاً رئاسة جامعة العلوم الطبية في تبريز، أسهم بشقّ طريق جراح القلب الناجح، نحو المناصب السياسية، فصار نائباً لوزير الصحة في حكومة الإصلاحي محمد خاتمي الأولى. وبعد فوز خاتمي، بفترة رئاسية ثانية عام 2001، تولى منصب وزير الصحة وبقي في المنصب لنهاية فترة خاتمي عام 2005.

خاتمي وصف بزشكيان عندما قدّمه إلى البرلمان بأنه «قوي التصميم وعلمي وحازم» وأن «اختياره جاء بسبب التزامه وإيمانه وإدارته المقبولة خلال السنوات الماضية». ومنذ دخوله الوزارة كان من صفاته البارزة أنه «عفوي وصادق، ويتحلى بالتواضع وروح الخدمة»، لكن بعد سنتين كاد يفقد منصبه، إثر استجوابه في البرلمان بسبب زياراته الخارجية وقفزة أسعار الخدمات الطبية والأدوية، وهي من المشاكل التي رآها الإصلاحيون متجذرة في المؤسسة الطبية الإيرانية. كذلك، اهتزت صورته وزيراً بعض الشيء بعد قضية المصوّرة الصحافية الكندية - الإيرانية زهراء كاظمي، التي توفيت في ظروف غامضة داخل سجن إيفين عام 2003 بعد 17 يوماً من اعتقالها، وذلك بسبب تقرير قدّمه عن أسباب الوفاة.

تجربة برلمانية غنية

بزشكيان ترشّح للانتخابات البرلمانية عن مدينة تبريز (كبرى المدن الآذرية في إيران) بعد سنتين من انتهاء مهمته الوزارية، وفاز ليغدو نائباً في البرلمان الثامن. وأعيد انتخابه في البرلمانات التاسع والعاشر والحادي عشر. ثم ترشح للمرة الخامسة في الانتخابات البرلمانية، قبل أن يترشح للرئاسة في الانتخابات المبكرة إثر مقتل الرئيس المتشدّد إبراهيم رئيسي في حادث تحطم طائرة خلال مايو (أيار) الماضي.

هذا، ورغم اعتباره نائباً إصلاحياً عبر 5 دورات برلمانية، نأى بزشكيان بنفسه عن المواجهات الحادة بين الإصلاحيين والسلطة، وخصوصاً بعد الصدام الكبير في أعقاب إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد في 2009، ورفض المرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي الاعتراف بنتائج الانتخابات. وباستثناء حالات نادرة، فإن مواقفه لم تتعارض كثيراً مع النواب المعروفين بولائهم الشديد للمرشد الإيراني علي خامنئي، ومن ثم تحوّل تدريجياً إلى أحد النواب الأكثر نفوذاً في البرلمان.

الاتفاق النووي

تزامن إعادة انتخاب بزشكيان في البرلمان العاشر، مع حكومة حسن روحاني والتوصّل للاتفاق النووي. ويومذاك حصد الإصلاحيون غالبية المقاعد في العاصمة طهران وشكّلوا كتلة باسم «الأمل»، وحصل بزشكيان على الأصوات المطلوبة لتولي منصب نائب الرئيس الأول، لمدة 3 سنوات متتالية. وكان رئيس كتلة، نائبه الأول حالياً، محمد رضا عارف.

إجمالاً، دعم الرجل الاتفاق النووي قبل وبعد توقيعه في 2015، وأيضاً بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق، وعدّه السبيل الضروري لحل مشاكل إيران الاقتصادية والسياسية الناتجة عن العقوبات والعزلة الدولية، وآمن بأن الاتفاق «فرصة تاريخية» للعودة إلى الاقتصاد الدولي. كذلك أيّد بقوة قبول إيران قواعد «قوة مهمات العمل المالي» (فاتف)، المعنية بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

وحينها، اقترح أن يقصر «الحرس الثوري» أنشطته المالية مع بنوك تابعة له للالتفاف على قوانين «فاتف»، منتقداً تدخل «الحرس» في بعض المجالات الاقتصادية. وفي المقابل، أشاد أكثر من مرة بدور الجهاز العسكري في الأمن الإيراني، ورأى أن البلاد لا يمكن أن تستمر من دون «الحرس الثوري»، ودعا إلى التركيز على هذا الدور، وارتدى الزي الرسمي لـ«الحرس الثوري» كغيره من النواب بعدما صنّفت الولايات المتحدة «الحرس» منظمة إرهابية. وبخلاف بعض النواب الإصلاحيين، كان بزشكيان من المؤيدين للتعاون العسكري الإيراني - الروسي في سوريا.

مع الإصغاء للناسإبان الاحتجاجات التي هزّت إيران أعوام 2017، و2019، و2021، كان بزشكيان جريئاً في طرح المشاكل، منتقداً تجاهل مطالب الشعب، خصوصاً حل الأزمة المعيشية. وأكد على ضرورة الاستماع إلى صوت الناس والاستجابة لاحتياجاتهم. ورأى أن قمع الاحتجاجات وحده ليس الحل، بل يجب معالجة الأسباب الجذرية للاستياء العام، بما في ذلك القضايا الاقتصادية والبطالة والتمييز. وأشار مراراً إلى أن الفساد الإداري على مختلف المستويات قد فاقم الأزمات.

وبشكل عام، يؤمن بزشكيان بالحوار الوطني والإصلاحات التدريجية من خلال الآليات القانونية والسياسية، ومع التأكيد على احترام الحقوق المدنية، فإنه يسعى إلى إيجاد حلول سلمية للأزمات الداخلية. وحقاً، انتقد عدة مرات غياب لغة الحوار في الداخل الإيراني، لكنه نأى بنفسه عن الدعوات الإصلاحية لإجراء استفتاء لحل القضايا العالقة، ولا سيما السياسة الخارجية، ومنها تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة.

رئاسته وتحدياته

مواقف وقاموس بزشكيان النائب لا تختلف اليوم عن تطلعات بزشكيان الرئيس بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، مع استبعاد أن يؤدي انتخابه إلى تغيير في موازين القوى بإيران. ويُذكر أن انتخابه أتى بعد 3 سنوات من رفض طلبه الترشّح للانتخابات الرئاسية في 2021، «لعدم أهليته السياسية» حسب «مجلس صيانة الدستور» حينذاك.

هذا، وكان قد ترشح لأول مرة لانتخابات الرئاسة عام 2013، لكنه انسحب لصالح حسن روحاني. ولكن في المرة الأخيرة، حصل على موافقة «مجلس صيانة الدستور»، في خطوة مفاجئة. وأدى القسم الدستورية يوم 27 مايو بعد أسبوع من مقتل رئيسي. وبعد 63 يوماً، وقف أمام البرلمان (30 يوليو - تموز) لأداء القسم رئيساً للجمهورية.

التوازن بين الولاء والإصلاح

حاول بزشكيان سواء في الانتخابات الرئاسية أو بعد تشكيل الحكومة، تقديم نفسه على أنه يؤمن بالحوار الداخلي، ويدافع عن حقوق المرأة، وعبّر عن انتقاد واضح للتدخلات الحكومية في الحياة الشخصية، والسياسات القمعية، مع التركيز على العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. وتعهّد أيضاً بإخراج إيران من العزلة الدولية، ورفع العقوبات عبر حلّ الأزمة النووية مع الغرب، كما تعهد بإصلاحات هيكلية في الاقتصاد، وإعادة انخراط شبكة البنوك الإيرانية بالأسواق المالية العالمية، عبر قبول قواعد «فاتف». وأظهرت مواقفه أنه يتبنى نهجاً متوازناً يعتمد على الدبلوماسية لتحقيق التنمية الاقتصادية ورفع العقوبات. وفي المقابل، دأب على انتقاد السياسات القائمة على الشعارات التي لا تقدم حلولاً عملية.

لكن بزشكيان واجه انتقادات بأنه لم يقدم حتى الآن أي برنامج أو حلول للقضايا التي أثارها في الانتخابات الرئاسية. ورداً على الانتقادات، تعهد بتعزيز موقع الخبراء في فريقه التنفيذي، وأن يكون أداء حكومته متماشياً مع رؤية خطة التنمية السابعة، وهو برنامج لـ5 سنوات يغطي المجالات كافة، أقرّه البرلمان العام الماضي.

من جهة ثانية، خلال حملته الانتخابية وبعد انتخابه، حرص بزشكيان على إظهار تواضع كبير، سواء في مظهره أو خطابه المعتدل. وحاول تعزيز صورته رئيساً من خلال تبنيه للبساطة والابتعاد عن المغالاة في وعوده، ما يجعل أسلوبه مختلفاً عن كثير من السياسيين الإيرانيين الذين يفضلون التوجهات النخبوية أو الثورية.

أيضاً، اتخذ بزشكيان من «الوفاق الوطني» شعاراً لحكومته، وحذّر من خلافات داخلية تعرقل التآزر الوطني، حتى بعد انتخابه واصل التحذير من عواقب الخلافات على الاستقرار الداخلي، إذ يرى أن الصراعات الداخلية ستقود البلاد إلى مزيد من الفقر والمعاناة تحت العقوبات.

في أي حال، يواجه بزشكيان تحديات داخلية كبيرة، لأن المعسكر الإصلاحي المهمش يسعى لاستعادة تأثيره في الحياة السياسية، رغم خيبة الأمل الشعبية من الإصلاحيين بعد فترات حكمهم السابقة. وهو حتى الآن يدفع باتجاه التوازن بين الولاء الشديد للمرشد علي خامنئي ودعواته للتغيير والإصلاح. وبينما يظهر تمسكاً شديداً بمسار المؤسسة الحاكمة، ويؤكد أهمية المرشد ودوره، يزعم تبني أجندة إصلاحية تهدف إلى معالجة الفجوة بين الشعب والحكام، ما يعكس رغبته في التغيير ضمن إطار النظام الحالي، لا عبر مواجهته المباشرة.

هذه الازدواجية من رئيس يدرك حدود صلاحيات الرئاسة، تحت حكم المرشد، تعكس استراتيجيته للبقاء في المشهد السياسي الإيراني. ومن ثم إحداث تغييرات تدريجية، من دون التعرض للمصالح الاستراتيجية الأساسية التي تسيطر عليها السلطة العليا في إيران.