ماكرون أمام تحدٍ كبير... أم سقوط عظيم؟

باريس تحبس أنفاسها في «سبت حاسم}

ماكرون أمام تحدٍ كبير... أم سقوط عظيم؟
TT

ماكرون أمام تحدٍ كبير... أم سقوط عظيم؟

ماكرون أمام تحدٍ كبير... أم سقوط عظيم؟

تحبس فرنسا اليوم أنفاسها ويقض الخوف مضاجعها. إنه الخوف من المجهول وتحديدا مما سيحمله لها «السبت الأسود» الذي يطل برأسه منذراً بمزيد من العنف والفوضى ليس فقط في العاصمة باريس بل أيضا في المدن الرئيسية والمتوسطة. ومصدر الخوف أيضاً أن الحركات الاحتجاجية لم تعد فقط محصورة بـ«السترات الصفراء» التي انطلقت في السابع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وتتأهب اليوم لـ«الفصل الرابع» و«للنزول» مجددا إلى باريس إذ انضمت إليها الحركة الطلابية التي تشمل تلامذة التعليم الثانوي والجامعي ولكل مطالبه.
ولقد عرف يوم الخميس الماضي مشاهد من العنف لا تختلف كثيرا عما يجري في فرنسا منذ أكثر من ثلاثة أسابيع. إلا أن ما حصل في مدينة مانت لاجولي الواقعة شمال غربي باريس أثار استياء الفرنسيين. عشرات من الشبان راكعون وأيديهم فوق رؤوسهم ووجوههم إلى الحائط وحولهم رجال الأمن من الشرطة وقمع الشغب بكامل معداتهم. إنهم مزيج من تلامذة ومن شبان من الخارج تم إيقافهم لأن الشرطة اعتبرت أنهم مثلوا تهديدا للأمن بسبب المظاهرة الاحتجاجية التي كانوا يقومون بها رفضا «لإصلاحات» وزير التربية التي أدخلها على شهادة البكالوريا وولوج المرحلة الجامعية. وكانت الصدمة عظيمة لدى الفرنسيين حتى أن جان ميشال بلانكيه، وزير التربية نفسه، لم يتردد في التعبير عن صدمته هو عندما شاهد مقاطع من الفيديو المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي كافة وعلى منصات القنوات التلفزيونية والصحافة.

لم يعد أصحاب «السترات الصفراء» والطلاب وحدهم في الساحة الاحتجاجية الفرنسية، إذ انضمت إليهم شرائح قطاعية إضافية لتزيد المشهد تعقيدا: القطاع الزراعي، سائقو الشاحنات، سائقو سيارات الإسعاف وغيرهم من أصحاب المطالب الذين يرون أن «الضعف» الذي ألم بالحكومة يشكل الفرصة المناسبة لانتزاع شيء ما في «مهرجان» المطالب المتكاثرة.
غير أن الأساس يبقى تحرك «السترات الصفراء» الذي لم يكن أحد يتوقع له أن يصل إلى ما وصل إليه وأن يرخي هذا الجو من الخوف فوق رؤوس الفرنسيين، ويشلّ العمل الحكومي، ويبيّن التوتر في أعلى هرم السلطة، ويغيّب رئيس الجمهورية عن المسرح رغم الأحداث العنيفة تاركا رئيس حكومته في خط المواجهة الأول.
سُميت الحركة الاحتجاجية «السترات الصفراء» استنادا إلى السترة الصفراء التي يفترض أن توجد في كل سيارة في فرنسا ـ ويتوجب على سائقها ارتداؤها حين حصول حادث من أي نوع كان. أما جديد هذه الحركة فهو أنها لم تخرج من عباءة أي حزب من الأحزاب أو النقابات، بل انطلقت من خلال عريضة وضعت على الإنترنت، ومن أشخاص مجهولين تطالب بوقف زيادات الرسوم على المشتقات النفطية التي ما فتئت الحكومة تزيدها شهرا وراء شهر، خصوصاً على مادة الديزل (المازوت).
حجة الحكومة أن الزيادات ليس غرضها تحميل المواطنين، خصوصاً سكان الأرياف والمزارعين وكل من يحتاج لسيارته للتنقل، مزيدا من الرسوم التي تضاف إلى الكم الكبير من الضرائب التي يدفعها الفرنسي العادي - التي هي الأعلى في أوروبا -، بل التسريع في «النقلة البيئوية» التي التزمت بها فرنسا وكل البلدان التي وقعت على «اتفاقية باريس للبيئة» في ديسمبر (كانون الأول) من العام 2015.
إذن، الغرض نبيل وتحقيقه يمرّ عبر رفع الرسوم للانتقال من الاعتماد على «الطاقة الملوثة» والانتقال إلى «الطاقة النظيفة».
وكان من المفترض أن ترتفع الرسوم المشار إليها بدءا من العام 2019 وتستمر في الأعوام التالية: 2020 و2021 و2022. وبصورة عامة، ومن غير هذه الزيادات، فإن الدولة تجني من الرسوم المفروضة على المحروقات ما لا يقل عن 35 مليار يورو سنويا ويفترض بالرسوم الجديدة أن توفر لها 4 مليارات إضافية.

طفح الكيل
حقيقة الأمر أن الرسوم المشار إليها لم تكن سوى الشرارة التي أطلقت الحريق الذي انتشر كالنار في الهشيم. وأساس المشكلة أن الدولة تتصرّف منذ أن وصل إيمانويل ماكرون إلى رئاسة الجمهورية في ربيع العام 2016 بكثير من الفوقية. ومشكلتها أنها صمّت أذنيها عن مطالب «السترات الصفراء»، معتبرة أنها موجة عابرة سبق أن واجهت أعتى منها في السابق، وبالذات، عند إطلاق إصلاح قانون العمل والقوانين الناظمة لقطاع السكك الحديد وقوانين أخرى كثيرة تندرج في سياق طموح الرئيس ماكرون في إحداث «تحولات عميقة» في المجتمع الفرنسي... الذي وصفه ماكلاوم يوما بأنه «رافض للتغيير».
وانطلاقا من هذا المعطى، رفضت الحكومة الاستجابة لمطلب محدد. وأكد ماكرون ورئيس الحكومة إدوار فيليب والوزراء المعنيون أن الدولة «لن تتراجع» وأن الرسوم الجديدة «باقية». وراهنت الدولة على تراخي الحركة الاحتجاجية التي انطلقت بإعاقة السير في المدن وعلى الطرقات السريعة، ومحاصرة مستودعات الطاقة الرئيسية.
وحصل أول «نزول» محدود إلى العاصمة في السبت الأول. وكما في كل حركة احتجاجية، تندس مجموعات «مشاغبة» تنتمي إلى اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف، لا تتردّد في اللجوء إلى العنف والاشتباك مع القوى الأمنية. وحقاً، استخدمت الحكومة هذه الحجة لنزع الشرعية عن الحركة الاحتجاجية، كما استخدمت حجة تحريكها من الخارج، وتحديداً من اليمين المتطرف ومن حزب مارين لوبن «التجمع الوطني». لكن النتيجة جاءت عكسية، إذ زاد تعاطف الرأي العام معها، ووصل حتى بعد أعمال العنف التي شهدتها العاصمة إلى 80 في المائة. والأهم من ذلك أن الحركة التي كان لها مطلب واحد في البداية أصبحت أكثر راديكالية، لا بل إن مطالبها تكاثرت لتشمل، إضافة إلى إلغاء زيادات الرسوم على المحروقات، خفض الضرائب ورفع مستوى الحد الأدنى للأجور والمعاشات التقاعدية، وحتى إلغاء مجلس الشيوخ وإجراء استفتاء.
كان واضحاً، لمن يريد أن يفتح عينيه، أن حركة «السترات الصفراء» تعكس مزاجاً شعبياً رافضاً للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتبعها عهد ماكرون منذ البداية. والأمر الثاني أن الرئاسة والحكومة يغلب عليهما طابع التكنوقراطية التي لا تعرف حقيقة مشاكل الناس، لا بل إنها تنظر إليها بفوقية. ومن هنا، فإن السائل الذي أشعل الحركات الاحتجاجية، وحوّلها إلى ما أصبحت عليه كان بالدرجة الأولى ردّ فعل ماكرون نفسه، ثم الحكومة، وكلاهما لم يفهم طبيعتها أو عمقها. والأمر الثالث أن السلطات تعاملت بكثير من «الارتجال» مع «السترات الصفراء»، وهو ما ظهر في القرارات التي اتخذت التي جاءت إما متأخرة أو منقوصة. ولم يعد سراً وجود «خلافات» على رأس السلطة، وتحديداً، بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة... وكيفية تعاطي الأول مع الثاني.
كان أول الغيث رفض إدوار فيليب، الآتي إلى الحكم من صفوف حزب «الجمهوريون» اليميني، التجاوب مع رغبة ماكرون في الاستجابة جزئياً لمطالب «السترات الصفراء» قبل أقل من أسبوعين. ومع ذلك، خطا ماكرون نصف خطوة بإعلانه اعتماد «آلية» تكون مهمتها النظر في زيادات الرسوم وتكييفها وفق تحولات السوق النفطية. إلا أن هذه الخطوة «الناقصة» دفعت بـ«السترات الصفراء» إلى جادة الشانزليزيه في أول «سبت أسود».
وجاء «السبت الأسود» الثاني ليقلب الأمور رأساً على عقب بسبب بما عرفته باريس وعدد من المدن الكبرى من أعمال شغب واشتعال الحرائق، ومعارك كرّ وفرّ بين المحتجين ومن اندس في صفوفهم والقوات الأمنية... وعجز الأخيرة عن السيطرة على الوضع. وتبين للسلطات أن التمسك بالموقف الرافض الاستجابة لمطالب المحتجّين، بحجة أن التراجع عنه يعني «انكسار» الدولة بوجه الشارع، أصبح مستحيلاً، لا سيما، أن جميع الأحزاب - وبينها أصوات من داخل الحزب الرئاسي «الجمهورية إلى الأمام» - ما فتئت تحثّ الحكومة على التخلي عن تصلّبها. ومن هنا، جاء إعلان رئيس الحكومة أول من أمس في البرلمان، بعد اجتماع ليلي في قصر الإليزيه برئاسة ماكرون، عن «تجميد» الزيادات على المحروقات، بما فيها الغاز والكهرباء طيلة ستة أشهر. ولأن رد الفعل جاء سلبيا واعتبار الحركة الاحتجاجية أن التدابير الحكومية «مجزوءة ومتأخرة»، دخل قصر الإليزيه على الخط ليعلن أن الرئيس ألغى كل الزيادات لسنة 2019 كاملة.

رئاسة تخطتها الأحداث
الواضح أن الرئاسة الفرنسية، التي عُرف عنها خلال عام ونصف جديتها وتمكّنها من إدارة شؤون الدولة بيد من حديد، تخطّتها الأحداث. لقد تراجعت بعدما أكدت سابقاً أنها «لن تتزحزح»، ولم تكتف بإلغاء الزيادات... بل أبطلت قراراً سابقاً بتشديد المعايير التقنية المفروضة على السيارات، وألغت الزيادات المقرّرة - ككل بداية عام - على أسعار الغاز المنزلي والكهرباء، وسعت لاسترضاء المزارعين وكل من رفع مطلباً...
من ناحية ثانية، قرار ماكرون «المزايدة» على رئيس الحكومة وضع الأخير في موقف حرج، ونزع عنه «هيبة» الموقع الذي يحتله. ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد. فبالنظر إلى مطالبة غالبية الطيف السياسي بأن تتراجع الحكومة عن قرارها العام الماضي إلغاء «الضريبة على الثروة»، اعتبر بعض الوزراء وعلى رأسهم إدوار فيليب أنه من المفيد تنفيس الاحتقان و«فتح كوة» للنقاش في هذا الملف المتفجّر الذي جعل الناس ينظرون إلى ماكرون على أنه «رئيس الأغنياء». ولذا، لم يستبعد رئيس الحكومة في خطابه أمام النواب، أول من أمس، أن تعمد الحكومة إلى مراجعة قرارها، والنظر فيما إذا كان حقيقة يدفع المستفيدين من إلغاء الضريبة المذكورة إلى الاستثمار في الاقتصاد الفرنسي. كذلك فعل الناطق باسم الحكومة بنجامين غريفو ووزيرة الثقافة مارلين شيابا.
إلا أن الرد من ماكرون جاء صاعقاً، إذ أغلق الباب تماماً أمام هذه الاحتمالات، بتأكيده في مجلس الوزراء يوم الأربعاء أن «ما تقرر لن يعاد النظر فيه». واختار ماكرون، الذي يدير العمليات عن بعد الصمت منذ عودته من العاصمة الأرجنتينية بوينس أيرس الأحد الماضي. وأعلن ريشار فران، رئيس مجلس النواب والمقرّب منه، أنه سيتوجه إلى الفرنسيين «الأسبوع القادم»، والسبب في ذلك أنه «لا يريد صبّ الزيت على النار» الأمر الذي يبدو غريباً، إذ أن وظيفة رئيس الجمهورية إيجاد الحلول لمشاكل المواطنين لا تأجيجها.

ماذا سيجري اليوم؟
من المبكر السعي لمحصلة نهائية للحركات الاحتجاجية المتشابكة والمتواصلة لأنها لم تتكامل فصولا. لكن الاختبار الأخطر بالنسبة للدولة هو ما سيجري اليوم السبت الذي يدشّن «الفصل الرابع» من «انتفاضة السترات الصفراء».
وتحسباً لما سيحصل، عمدت الدولة إلى حشد نحو 90 ألف رجل أمن منهم 8 آلاف لباريس وحدها، في محاولة منها للسيطرة على الوضع، وتلافي تكرار مشاهد العنف التي أدمت باريس والكثير من المدن السبت الماضي. وللمرة الأولى سيشاهد الباريسيون في شوارعهم مدرّعات قوى مكافحة الشغب في غير مناسبة احتفالات العرض العسكري الذي ينظم سنوياً يوم 14 يوليو (تموز). وبموازاة ذلك، عمدت السلطات إلى إغلاق المراكز السياحية الرئيسية، وعلى رأسها برج إيفل ومتحف اللوفر ومتحف أورساي. وحثّت بلدية باريس أصحاب المتاجر في منطقة الشانزليزيه والجادات المتفرعة عن ساحة «الإيتوال»، حيث قوس النصر، إلى اتخاذ تدابير وقائية، لا بل الإغلاق.
كل يوم سبت في فرنسا يأتي بجديد. وبعدما كان يوماً عاديا، ككل أيام السنة التي تشهد مظاهرات واحتجاجات في كل أنحاء البلاد، تحوّل شيئا فشيئاً إلى يوم «أسود»... بدا «داكناً» بعض الشيء في مستهل الأحداث، لكنه مع كل أسبوع تزداد «دكانته» حتى أصبح اليوم «حالكاً». وربما كان من الأدق الحديث عن «سبت أحمر»... نظراً لأعداد الجرحى بالمئات من المحتجين ورجال الأمن، أو بسبب الحرائق التي لفّت الأحياء الباريسية الراقية السبت الماضي.

صورة قوس النصر
كم هي بعيدة صورة قوس النصر يوم 11 نوفمبر (تشرين الثاني) عن صورته يوم السبت الماضي.
في التاريخ الأول، كان ملتقى قادة العالم الذين اجتمع منهم 75 ملكاً ورئيساً ورئيس حكومة... جاءوا كلهم للاحتفال بالمئوية الأولى لانتهاء الحرب العالمية التي أدمت بدايات القرن الماضي. أما السبت الماضي، فقد تحوّلت باريس ذاك اليوم الممطر إلى ساحة حرب حقيقية... قنابل مسيلة للدموع وقنابل صوتية من جهة، مقابل حجارة الأرصفة والعبوات وكل ما وقع تحت أيدي المحتجين، وخصوصاً، مجموعات المشاغبين من اليسار المتطرف «البلاك بلوك» أو اليمين المتطرف التي «تتسلق» كل القطارات الاحتجاجية وغرضها الاشتباك مع القوى الأمنية وزرع الفوضى.
باريس عادت مجدّداً لتتحول إلى «عاصمة العالم». والمشهد الباريسي تحوّل إلى حدث كوني نقلته القنوات الإخبارية دقيقة وراء دقيقة. العالم كله تسمّرت أنظاره على مجموعات من الشباب الذين يغطون رؤوسهم ووجوههم كيفما اتفق، ويضعون أقنعة واقية من الغاز الذي انهمر بكثافة على المحتجين. ويُحسب لهم أنهم نجحوا في إرباك القوى الأمنية التي وفّرت منها مديرية الشرطة في العاصمة ووزارة الداخلية أكثر من 5500 رجل أمن، بينهم كثيرون من وحدات مكافحة الشغب بمنظرهم الخارجي المخيف، ومئات السيارات وعشرات الشاحنات المجهّزة بخراطيم المياه.
لكن ذلك كله لم يكن ذا فائدة. وكانت الخطة الأمنية تقضي بمنع الوصول إلى «المربع الذهبي»، الذي قلبه القصر الرئاسي في شارع فوبور سانت هونوريه، لكنه يمتد جنوبا ليضم ساحة «الكونكورد»، بمسلتها الفرعونية وفنادقها الفخمة مثل فندق لو كريون الملاصق لمبنى السفارة الأميركية، إضافة إلى مبنى المجلس النيابي بأعمدته الإغريقية... ووصولا إلى مبنى رئاسة الحكومة.
غير أنه ما خلا هذه المنطقة البالغة الحماية، كان مسرحاً لأعمال عنف لم ينج منها قوس النصر الذي كان الإمبراطور نابوليون بونابرت قد أمر بتشييده لتخليد انتصاراته العسكرية وإنجازاته المدنية.
وخلال ثلاثة أسابيع من التحرّكات سجّل مئات التوقيفات وعشرات الجرحى. والحقيقة أن المحصلة تبدو ثقيلة للغاية: 820 جريحا في أوساط المحتجين و200 في صفوف رجال الأمن. والقبض على 1600 شخص منهم وأوقف ما لا يقل عن 100 شخص... حتى أن المحاكم في باريس وخارجها بدت عاجزة عن التعاطي مع هذه الأعداد الكبيرة من الموقوفين. وبجانب الخسائر المادية ومنها الممتلكات والسيارات المحروقة، فإن الخسارة الأكبر هي تدهور صورة باريس قبل أيام من أعياد الميلاد ونهاية السنة، وما لذلك من تأثير على المدى البعيد على جاذبية هذه المدينة.
يبقى سؤال يتعين طرحه: كيف انحدرت الأمور إلى هذا الدرك في بلد ديمقراطي كفرنسا، يكفل دستوره حق التظاهر والاحتجاج، بل كان البلد الأول في العالم الذي أوجد شرعة لحقوق الإنسان مباشرة بعد ثورة العام 1789؟
حقيقة الأمر أن الفرنسيين حائرون، ويبدون عاجزين عن فهم ما حصل للرئيس إيمانويل ماكرون، الشاب الطموح الذي قبض على الرئاسة وهو تحت سن الأربعين. وجاء ببرنامج إصلاحي «جذري» يريد بموجبه إحداث «تغييرات عميقة» في المجتمع الفرنسي... فشل سابقوه أو لم يرغبوا في القيام بها.


مقالات ذات صلة

روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

حصاد الأسبوع من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)

روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

مطلع الشهر الماضي ذهب الأوروبيون إلى صناديق الاقتراع لتجديد عضوية البرلمان الأوروبي، فيما أجمعت الآراء على وصفها بأنها أهمّ انتخابات في تاريخ الاتحاد،

شوقي الريّس (بروكسل)
حصاد الأسبوع أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية

ترمب اختار فانس للدفع بـ«الترمبية» قدماً... وتغيير هوية حزب ريغان

لسنوات عدة، كان الحزب الجمهوري الأميركي يمرّ بتغيير جذري، حيث يتبنى بشكل متزايد الشعبوية الاقتصادية في الداخل والانعزالية في الخارج، ويغيّر مواقفه في العديد من

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع الرئيس ترمب وزوجته ميلانيا وجي دي فانس وزوجته أوشا خلال مؤتمر الحزب الجمهوري في ميلووكي (أ.ف.ب)

«حزب ترمب الجمهوري»... جديد الأولويات ومتعدد الأعراق

> أورين كاس، المستشار الاقتصادي السابق لحملة المرشح الجمهوري الرئاسي السابق السيناتور ميت رومني الرئاسية، توقّع في سنوات سابقة «نشوء تيار محافظ متعدّد الأعراق

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
حصاد الأسبوع صورة لداخل مجلس النواب الأردني (الديوان الملكي)

الأردن على طريق الانتخابات النيابية المقبلة

يتوجه الأردنيون في العاشر من سبتمبر (أيلول) المقبل لاختيار مجلسهم النيابي العشرين، الذي خصص من مقاعده 41 مقعداً للأحزاب من أصل 138 مقعداً، في تجربة هي الأولى من

محمد خير الرواشدة (عمّان)
حصاد الأسبوع ميلونشون يحيي مناصريه اليساريين (آ ف ب /غيتي)

«صراع الأضداد» في فرنسا يحمى وطيسه

فرنسا غارقة اليوم في أزمة سياسية - مؤسساتية لم تعرف مثيلاً لها منذ ستينات القرن الماضي التي أفضت وقتها وتحديداً يوم 28 أبريل (نيسان) 1969 إلى استقالة رئيس الجمهورية، الجنرال شارل ديغول، مؤسس «الجمهورية الخامسة» الذي كان في السلطة في عامه الحادي عشر. وما بين ذلك التاريخ واليوم، تَعاقب على السلطة سبعة رؤساء: جورج بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان وفرنسوا ميتران وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرنسوا ميتران والرئيس الحالي إيمانويل ماكرون الذي انتُخب لولاية أولى ربيع عام 2017. وخلال هذه العهود، استقر في قصر الأليزيه رؤساء من اليمين ومن اليسار وعرفت فرنسا ثلاث مراحل مما يسمى «التعايش» أو «المساكنة» بين رئيس للجمهورية ينتمي إلى معسكر سياسي ورئيس حكومة من معسكر آخر.


روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
TT

روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)

مطلع الشهر الماضي ذهب الأوروبيون إلى صناديق الاقتراع لتجديد عضوية البرلمان الأوروبي، فيما أجمعت الآراء على وصفها بأنها أهمّ انتخابات في تاريخ الاتحاد، الذي منذ أكثر من سنتين تشتعل حرب على تخومه وتهدد باتساع دائرتها وإيقاظ أشباح الماضي الذي قام المشروع الأوروبي بهدف وأده، وهذا بينما تتنامى داخل حدوده القوى التي منذ ثمانية عقود أفرزت أقسى الحروب التي شهدتها القارة في الأزمنة الحديثة. ولقد جاءت النتائج لتؤكد الصعود المطّرد للموجة اليمينية المتطرفة التي كانت قد أمسكت بزمام الحكم منذ سنتين في إحدى الدول الأعضاء الكبرى المؤسسة، إيطاليا، وأصبحت قاب قوسين من الوصول إلى سدّة الرئاسة الفرنسية... فيما بدت جذورها راسخة في العديد من البلدان الأعضاء الأخرى. ولكن، على الرغم من الصاعقة التي ضربت الصرح السياسي الفرنسي، ظل صعود هذه الموجة دون منسوب الطوفان الذي كانت تنذر به الاستطلاعات ويهدد - وفقاً لأفضل الاحتمالات - بجنوح المركب الأوروبي عن مساره التأسيسي. أمام هذا المشهد المعقد، كان القرار الأول الذي اتخذه البرلمان الجديد في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الفائت بعد انتخاب رئيسة له، تأكيد الدعم لأوكرانيا وترسيخ الانقسام الحاد بين الكتل السياسية الذي لم يشهد له مثيلاً منذ تأسيسه في عام 1979.

صور بارديلا مرفوعة خلال حملة الانتخابات الفرنسية (إيبا/شاترستوك)

يتّسم البرلمان الأوروبي الجديد الذي افتتح ولايته الاشتراعية العاشرة هذا الأسبوع في العاصمة البلجيكية بروكسل بكونه الأكثر تشرذماً، على صعيد الكتل التي تشكلت داخله بعد انتخابات التاسع من الشهر الماضي، والأكثر جنوحاً نحو اليمين. إذ أصبح أكثر من نصف أعضائه ينضوون تحت الرايات اليمينية المحافظة واليمينية المتطرفة. بيد أن عجز القوى المتطرفة عن الانصهار ضمن كتلة واحدة، أدّى إلى تشكيل 8 كتل سياسية، للمرة الأولى منذ عشرين سنة، تتصدرها كتلة الحزب الشعبي الأوروبي الذي يضمّ 26 في المائة من الأعضاء. وحقاً، ينذر هذا التشرذم بولاية يتخلّلها المزيد من النقاش الحاد، يصعب فيها التوازن عند الاستحقاقات الحسّاسة ويتعذّر الاتفاق، ذلك أن القوى المعتدلة التي كانت تشكل مجتمعة 70 في المائة من أعضاء البرلمان الأول عام 1979، ما عادت تمثّل اليوم أكثر من 45 في المائة فقط.

أهمية الاستقرار السياسي

تعدّ هذه الولاية على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للاستقرار السياسي داخل الاتحاد، خاصةً بعد صعود اليمين المتطرف والزلزال الذي نجم عن الانتخابات الأخيرة في فرنسا، حيث لا يزال المخاض مستمراً لتشكيل حكومة جديدة. وفي حين تجهد القوى المعتدلة للتأكيد بأنها تمكّنت من صدّ الموجة اليمينية المتطرفة - مع خشية كثيرين من أن تكون هذه آخر فرصة لقطع الطريق أمام الانقلاب السياسي الكبير - تكثّف هذه القوى مساعيها لفرض حظر على التعامل مع بعض القوى اليمينية المتطرفة التي تصنّفها قريبة من روسيا، وتعمل على منعها من تولّي مناصب حساسة في المؤسسات الأوروبية.

كتلة الحزب الشعبي الأوروبي تضم اليوم في البرلمان الجديد 188 عضواً، تليها كتلة الحزب الاشتراكي التي تتكوّن من 136 عضواً لا يتجاوزون نسبة 20 في المائة من المجموع للمرة الأولى منذ انطلاق البرلمان. وتأتي في المرتبة الثالثة كتلة «وطنيون من أجل أوروبا» اليمينية المتطرفة بـ84 عضواً، التي يقودها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وزعيمة «التجمّع الوطني» الفرنسي مارين لوبان، ثم تأتي في المرتبة الرابعة الكتلة اليمينية الأخرى التي تتزعمها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني وتضمّ 87 عضواً تحت شعار «المحافظون والديمقراطيون من أجل أوروبا»... التي فشلت حتى الآن كل محاولات ضمّها إلى كتلة الحزب الشعبي الأوروبي. أما الكتلة الأخيرة التي تتجاوز بقليل 10 في المائة من مجموع أعضاء البرلمان، فهي الكتلة الليبرالية الوسطية، التي كانت أكبر الخاسرين في الانتخابات الأخيرة بعدما فقدت المرتبة الثالثة التي كانت تحتلها عادةً بين الكتل السياسية في البرلمان الأوروبي.

"تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان"

البرلمان الأكثر جنوحاً نحو اليمين

بذلك يكون هذا البرلمان الجديد الأكثر جنوحاً نحو اليمين في تاريخ الاتحاد الأوروبي. ويبقى الذكور يشكلون فيه أكثرية الأعضاء (60 في المائة)، مع أن بعض البلدان، مثل قبرص، لم تنتخب أي رجل للبرلمان الجديد، بينما تشكّل النساء ثلث الأعضاء المنتخبين في كلٍ من ألمانيا وإيطاليا.

من ناحية أخرى، كان التطور اللافت والمفاجئ في المعسكر اليميني المتطرف نجاح رئيس الوزراء المجري أوربان في لمّ شمل القوى اليمينية المتطرفة القريبة من موسكو ضمن كتلة برلمانية جديدة «وطنيون من أجل أوروبا». ولقد قامت هذه الكتلة على أنقاض كتلة «الهوية والديمقراطية»، وتضمّ كلاً من الحزب الليبرالي النمساوي و«التحالف المدني» الذي يقوده رئيس الوزراء التشيكي السابق أندريه بابيس، إلى جانب حزب «فوكس» الإسباني، وحزب «الرابطة» الإيطالي بزعامة ماتّيو سالفيني، واليمين الهولندي المتطرف، وحزب «التجمع الوطني» الفرنسي بزعامة مارين لوبان.

ويعود الفضل في تشكيل هذه الكتلة الجديدة، التي تعمّدت تهميش رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، إلى أوربان وحلفائه في أوروبا الشرقية. ويهدف هذا التجمع الجديد إلى التأثير في سياسات البرلمان الأوروبي وعرقلة مشروع الاندماج الذي يتجه نحو توسعة جديدة للاتحاد تشمل دول البلقان وبعض بلدان القوقاز، إلى جانب أوكرانيا.

رئيس الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني (رويترز)

دور فيكتور أوربان

وتأتي هذه الخطوة أيضاً، وسط تزايد القلق بين الشركاء الأوروبيين من الدور الذي يلعبه فيكتور أوربان في الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد، وجولاته على كييف وموسكو وبكين في «مهمة سلام» لم تكلفه بها الدول الأعضاء التي وجهت إليه انتقادات شديدة واتهمته بخدمة مصالح الكرملين، وبدأت أخيراً بمقاطعة الاجتماعات الوزارية التي تنظمها الرئاسة المجرية.

هذا، وكان «التجمّع الوطني» الفرنسي الذي تقوده لوبان، والذي يشكّل القوة الرئيسية في هذه الكتلة الجديدة بعد حصوله على 30 مقعداً في انتخابات الشهر الماضي، قد تريّث في الإعلان عن انضمامه إلى الكتلة في انتظار نتائج الدورة الثانية من الانتخابات الاشتراعية الفرنسية التي كان يأمل أن يحصل فيها على الغالبية المطلقة ويكلّف نجمه الصاعد الشاب جوردان بارديلا تشكيل الحكومة الجديدة. إلا أنه بعد ظهور النتائج النهائية للانتخابات الفرنسية وتراجع «التجمع الوطني» إلى المرتبة الثالثة، صرّح بارديلا - الذي كان قد انتُخب عضواً في البرلمان الأوروبي – بـ«أن أعضاء (التجمع الوطني) في البرلمان الأوروبي الجديد سيلعبون دورهم كاملاً ضمن كتلة كبيرة سيكون لها تأثير واضح على موازين السلطة ومعادلاتها في أوروبا». وتعهّد بارديلا، بالتالي، مواصلة العمل من أجل «منع إغراق بلدان الاتحاد بالمهاجرين، ورفض السياسات البيئية المتطرفة، ومصادرة السيادة الوطنية».

وما يُذكر أنه على الرغم من تغيّب بارديلا عن الاجتماع التأسيسي للكتلة الجديدة، فإنه انتُخب رئيساً لها بالإجماع، يعاونه ستة نواب للرئيس، تبرز من بينهم المجرية كينغا غال كنائبة أولى.

تشكيك بإمكانية توحيد اليمين

في أي حال، تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة هذه الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان الجديد، وتستبعد نجاحها في العمل بتوجيهات موحدة في ضوء اختلاف مصالحها وأهدافها الخاصة. وكانت الكتلة السابقة «الهوية والديمقراطية»، التي قامت على أنقاضها الكتلة الجديدة، وكان ينتمي إليها حزب «البديل من أجل ألمانيا» - الذي طُرد منها بسبب التصريحات النازية لزعيمه - دائماً معزولة من القوى البرلمانية الأخرى، بما فيها الكتلة التي تتزعمها ميلوني. وهنا نشير إلى أنه رغم الانسجام العريض بين مواقف ميلوني ومواقف أوربان من معظم الملفات الأوروبية، فإن الزعيمين يختلفان بوضوح حول الحرب الدائرة في أوكرانيا؛ إذ تصطف ميلوني ضمن الموقف الرسمي للاتحاد، بعكس حليفها اللدود في الائتلاف الحكومي الذي ينافسها على زعامة المعسكر اليميني المتطرف في إيطاليا، زعيم حزب «الرابطة» ماتيو سالفيني.

جدير بالذكر، أن البرلمان الأوروبي الجديد انتخب في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الماضي المالطية روبرتا متسولا، من الحزب الشعبي، رئيسة لنصف الولاية الاشتراعية حتى مطلع عام 2027. ونالت متسولا، التي كانت ترأس البرلمان السابق منذ وفاة الإيطالي دافيد ساسولي، 562 صوتاً من أصل 720، وهذا رقم قياسي لم يحصل عليه أي من الرؤساء السابقين؛ الأمر الذي يدلّ على أنها حصلت أيضاً على تأييد عدد من نواب اليمين المتطرف بجانب تأييد الكتلتين الكبريين اللتين تتوافقان عادة على توزيع المناصب القيادية في مؤسسات الاتحاد.

ولقد قالت متسولا في كلمتها قبل البدء بالاقتراع السري: «أدعوكم إلى التمسك والالتزام بمبادئنا وقيمنا التأسيسية، والدفاع عن سيادة القانون، وعن الإنسانية في الشرق الأوسط ورفض اجتياح أوكرانيا». وشددت، كما فعلت عند انتخابها للمرة الأولى، على إعطاء البرلمان الأوروبي صلاحية اقتراح التشريعات المقصورة حالياً على المفوضية.