السرد برائحة البشر والمدينة

ترجمة عربية لرواية ياسمين الرشيدي «حدث ذات صيف في القاهرة»

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

السرد برائحة البشر والمدينة

غلاف الرواية
غلاف الرواية

في ثلاث لوحات سردية تكتسي فيها صورة العاصمة المصرية بالقلق والضجر والإحساس بالخوف والرعب، تدور رواية «حدث ذات صيف في القاهرة» للكاتبة المصرية ياسمين الرشيدي، التي كتبتها بالإنجليزية، وترجمها للعربية الشاعر أحمد شافعي، وصدرت حديثاً عن «دار الشروق».
تمهّد الكاتبة لمناخات الأصياف الثلاثة التي تتكئ عليها إطاراً زمنياً لروايتها في ثمانينات القرن العشرين، بجملة تبدو مفتاحاً رمزياً لمسارات الصراع: «كان الحر في البيت لا يُطاق» لتنفتح رسائل بطلتها الضمنية على الداخل والخارج، وتتأمل عبر 30 عاماً، اتسعت فيها دوائر الصراع وتشابكت على شتى المستويات، ملامح مدينتها القاهرة، وهي تتذبذب ما بين الرتابة والجنون داخل مربعها الحار.
- السرد ببطء
يبدو إيقاع السرد بطيئاً، ما يتيح للبطلة مساحة آمنة لململة واسترجاع أصوات الماضي والحاضر، وتأمُّل ما يدور بداخلها من تصورات ورؤى وأحلام وهواجس، حول ما حدث، وما قد يحدث، في محيط عائلة، أحد أفرادها تحوم حوله شبهات سياسية وجنائية بالتورط في عملية اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات؛ ما يجعل بؤرة الصراع داخلياً وخارجياً مشدودة إلى حافتي الشك واليقين معاً... فهذا أب يختفي من المشهد مُبكراً مع صيف 1984، ويظهر في ظروف غامضة مع نهاية صيف 2014، بينهما نحو 30 عاماً من الزمن الثقيل، والمكان لا يتغير: القاهرة.
تضع الرشيدي في شخصية «الأم» الكثير من مفاتيح روايتها، فالأم التي تُتمتم بالفرنسية في لحظات الارتباك، تكتنز أسراراً تُشاركها مع بخاخة الزرع، وحواف الشبابيك، ومروحة معدنية قديمة، فتصدمك بتفاصيلها البيتية بالغة الصغر في قاع عالم ضيّق، مخنوق، لا يتسع كثيراً للبوح. الأم الشاخصة أمام شاشة التلفزيون تقريباً على مدار الرواية، تضع الابنة، بطلة الرواية، تحت مِجهر التعاليم النمطية، المُراقبة، من عينة «امضغي الأكل ببطء». تفقد الأم مع مرور الزمن الإحساس، تراقبها الابنة دوماً وتضعها هي الأخرى تحت المجهر «ولكن ماما كانت قد توقفت عن مراعاة الزمن»، هكذا تقول منذ صيف 1984، ثم تعيد الانطباع ذاته مع صيف 1998. بعبارة أخرى «لم تتكلم ماما قط عن الدنيا التي تغيرت، لكنها بقيت متشبثة بقوة في دنياها، أرى ذلك في حركاتها، في طريقة جلوسها كل صباح وفي يدها أطراف شعرها، تمشّطه، وتُمشطه إلى ما لا نهاية، كالسادرة في شرودها، شعرها الآن أقصر، لا يكاد يوجد ما تُمشطه».
في هذا السياق تصل الرواية إلى لحظة درامية في صيف 2014، لكن الأم الشاردة تتعامل بفتور وهي تنطق «بابا رجع»، منصرفة كعادتها إلى قنوات التلفزيون، لكن هذه المرة تشاهد «توك شو»، أحد أبرز علامات هذا الزمن المُرتبك.
- أثر الغياب
لم تُجب الرواية عن تساؤلات سياسية ولا تاريخية فاصلة، وانحازت للتعامل مع الافتراضات، مثل اختفاء الأب، الذي لم تقل مباشرة إنه كان في السجن، لكن تربط بينه وبين سجل عائلته التي تورط أحد أفرادها في اغتيال الرئيس السادات، لم تسرد شيئاً عن سنين الاختفاء، وكأنها أرادت التعامل مع أثر الغياب وتبعاته على نفسها، وعلى انسحاق أمها أمام التطور الدرامي الهائل لأحداث القاهرة السياسية، وغياب اهتمامها بالتبعية بما صار يجري.
في مقابل شرود الأم تتعامل البطلة مع تطور الأحداث بدرجة وعي أعلى، يُسهم في تشكيلها وإذكائها صديقها «الأناركي» الناصري حتى النخاع «ديدو»، الذي كان يُحرضها دوماً على التحرك والمشاهدة والتدوين، حتى كشفت عن رغبتها في تسجيل أحداث القاهرة عبر فيلم تظل حائرة في الاستقرار على سيناريو خاص به، وإن كانت تقبض على «مزاجه» العام. ويبدو أن البطلة كانت تحاول التقاط ثيمة «القاهرة» ما بين ثلاثة فصول أو ثلاثة «أصياف»، جعلت من كل فصل توابع لزلزال كبير ضرب القاهرة. الصيف الأول تبع اغتيال السادات بثلاثة أعوام، والصيف الثاني المذبحة الإرهابية الأشرس في الأقصر بكل ما وضعته من معادلات للعداء والانتقام بين الدولة والجماعات الإسلامية، والصيف الثالث بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 التي لم تتطرق إليها مباشرة في النص، وإنما تعاملت مع تبعاتها، فيعُتقل صديق طفولتها الأناركي، ويخرج الأب من بئره. وتستعاد هنا أصداء التاريخ عن ثورتي 1919 و1952، وغيرها من الأحداث التي لا تزال رائحتها في دبيب البشر ونظراتهم، تطل من مرايا السرد على شكل صور مشوهة، مبتورة تعكس ندوب التاريخ، وشلل المدينة، وحكايات وسط البلد وأحاديث سيتردد صداها في غرفة المعيشة، حيث بدأت الأم تتعرف على «اللاب توب» و«تويتر»، مُفردات تضيفها إلى «التلفزيون» الذي توالدت قنواته على مدار الرواية، في مسار رمزي موازٍ، فبدأ في صيف 1984 بقناتين أولى وثانية رئيسيتين، وثالثة تم تدشين بثها على استحياء، حتى تم استنساخ عشرات القنوات، بعشرات الأصوات، بمئات الأمزجة.
إنه ضجيج أرادت الرشيدي أن تسرِّب تحت قشرته الكثير من الرسائل والإشارات عن صورة مدينتها الحلم، وظللته برماد خامد في نهاية الرواية بمشهد لبطلتها وهي تتبادل مع أمها الحديث في «بلكونة» سارحة على نيل القاهرة.


مقالات ذات صلة

«لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

ثقافة وفنون «لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

«لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

تطرح قصص «لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة» للكاتبة المغربية هدى الشماشي تساؤلات وجودية في محاولة للتوفيق بين حيوات أبطالها ومآسيهم الخاصة المتواترة عبر العصور

«الشرق الأوسط» (عمان)
ثقافة وفنون «في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

ثمة خصوصية للنقد الأدبي التطبيقي حين يصدر عن مبدع عموماً وشاعر بشكل خاص، إذ تتحول الممارسة النقدية في تلك الحالة إلى غوص رهيف في أعماق النص بعين خبيرة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب الكاتبة والناشرة رنا الصيفي

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

رغم كل ما يقال عن فاعلية «تيك توك»، دون غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج للكتب،فإن المؤثرين الذين ينشرون مساهماتهم، ولهم باع على هذه المنصة...

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب أندريه سبونفيل

لماذا ترعب الأصولية الظلامية الفيلسوف الفرنسي سبونفيل؟

يُعتبر الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل أحد فلاسفة فرنسا الكبار حالياً. وقد كان أستاذاً في السوربون ومحاضراً لامعاً في أهم الجامعات الأوروبية والعالمية.

هاشم صالح
ثقافة وفنون سعيد حمدان الطنيجي

قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى القرن الـ19

يصدر قريباً عن مركز أبوظبي للغة العربية، كتاب «مائة قصيدة وقصيدة مغناة» من الشعر العربي، والذي يحتوي على قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى نهايات القرن التاسع

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)

«عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

«عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية
TT

«عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

«عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

من خلال رؤية فانتازية تطرح رواية «عملية تجميل» للروائية المصرية زينب عفيفي مفهوم الجمال من خلال لعبة مع الزمن، حيث العُمر يعود أدراجه الأولى، مخالفاً سنن الحياة، وهو يُراوغ الكمال وأساطيره، فتنطلق الرواية من مدينة تتبدّل وجوه أصحابها ليصبحوا جميعاً في عمر الشباب، كأنما تم صبهم في قالب عمري واحد، لتجمعهم تجربة جماعية أقرب في تأثيرها لما يفعله الوباء.

صدرت الرواية أخيراً عن «الدار المصرية اللبنانية» بالقاهرة، وفيها تبدو البطلة العجوز كأنما تم استثناؤها من هذا الوباء الذي أصاب الطبيعة البشرية وتفاعلها مع الزمن، حيث يعود الناس لسن الشباب بدلاً من التقدم في العُمر، كأن البطلة بتجاعيد وجهها تقف خارج أسوار هذا الزمن الجديد، فيما يقف طبيب التجميل «الساحِر» كما يُطلق عليه الأهالي، في بؤرة تلك المدينة بتكوينها الإنساني والنفسي الجديد، في ثنائية تصنعها الرواية عبر بطليها الرئيسين؛ التمسّك بالحقيقة من جهة، واحتراف صناعة الزيف من جهة أخرى. كما أنها تروج للجمال وتقدمه منزوع التجاعيد، بينما تقف آثار الزمن على أعلى سلم المُغريات، فيُسلّم أهل المدينة وجوههم سواء كانوا نساء أو رجالاً مسلوبي الإرادة إلى يد «الطبيب» الذي يصطفون أمام عيادته بالطوابير ليهبهم ذوات جديدة، بوجوه بلاستيكية لامعة تتمرد على الشيخوخة العالقة في خلاياهم، وتترك كل واحد منهم في صراع عنيف بين صورته الخارجية وشعوره الداخلي بالعُمر، مما يُحرك دوافع أبطال العمل في اتجاهات متباينة.

تفريغ المدينة

تربط الكاتبة بين الثورة العلمية التي تركت بصمتها على وجوه أهل المدينة والتغييرات التي بدأت تمسخ وجه المدينة نفسها من تغييرات في معمارها، وتجريد لأشجارها، وعبث بدروبها القديمة، فيما تبدو كأنها «استراتيجية» كاملة لتخليص البشر والحجر من هُويتهم، وتفريغ التاريخ الحيّ من جوهره: «عادت الاحتجاجات إلى شوارع المدينة وعلى منصات التواصل الاجتماعي تهاجم بشكل ساخر طرق التشويه التي عَلَت الوجوه، مثلما نالت من جمال المدينة بتحويل بعض الحدائق العامة إلى ميادين خالية من الأشجار، أو تقاطِع التراجع للخلف للسيارات في الاتجاه العكسي، وغاب اللون الأخضر الذي ظلّ يميزها منذ سنوات طويلة».

وتكشف شخصيات الرواية عن وجهات النظر التي تتراوح بين دعاوى التغيير والتحديث، وكثير من المجادلة حول مفهوم «الجمال»، و«القبح»، و«التجميل» الذي تتمسك بطلة الرواية وراوِيتها الرئيسية «شيريهان» بنظرتها «المثالية» حياله، متجردةً من ماديته، والانحياز للزمن ورومانسيته، وجماليات مروره: «تجاعيد جبيني هي دهشتي أمام الحياة، وتلك المحيطة بفمي لأنها تُظهر كم ضحكت وكم قبّلت».

يفرض هذا الواقع «العبثي» الجديد بصمته على تلقي أهل المدينة للحياة والحب، فتسود حالة من الاختلاط والتشويش، التي تجعل الشباب ينجذبون لسيدات في عمر أمهاتهن بعد أن صرن يُشبهن بناتهن، فتختلط التركيبة العمرية للمدينة، ويبدو «التصابي» أسلوب الحياة الاصطناعي المهيمن، حيث الصور «الكاذبة» تبدو بمثابة واجهة مجتمعية جديدة، ويبدو الدكتور «ماهر» طبيب التجميل وصاحب الاختراع الذي يُعيد الكهل شاباً، يبدو أقرب إلى صورة «المُخلّص» الذي يتدافع الناس في طوابير من أجل «إكسير» الشباب الذي قام باختراعه، ثم سرعان ما ينفض يديه من التبعات الكارثية التي تحلّ على أهل هذه المدينة نتيجة تشويه هذا الإكسير لطبيعتهم البشرية.

تجربة جماعية

تضع الرواية هذا الاختراع الطبي المستخدم في عمليات التجميل التي يتسارع من أجلها الناس، معادلاً للتخريب التكنولوجي والرأسمالي الذي يتهرب من مسؤوليته الأخلاقية، وذلك بعد أن تجعل المدينة تخوض «التجميل» بوصفه تجربة جماعية كبرى، بدأت كتجربة مُغوية، وانتهت بالعبث بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمدينة، علاوة على تفجير الجنون والصراع النفسي العنيف لدى أصحابه، وجعلت الرواية الطبيب «الساحِر» ممثلاً لهذا التهرب من المسؤولية الأخلاقية، وهو الطبيب الذي يخطو نحو الستين من عمره فيما وجهه في الثلاثين، ويتحدث عن اختراعه على أنه انتصار لم يتم تقديره من سكان المدينة: «نيتي كانت نشر الجمال والسعادة، عيوب التطبيق ليست من شأني، لم يكن هدفي تدمير المدينة وتحويلها إلى مشفى للأمراض النفسية».

ومن ثم، يبرز «الهروب» من العُمر، والحقيقة، والذاكرة، بوصفه أحد مرتكزات الرواية، في مقابل ما بدا كأنه مزاد على «الحق في الحياة» حيث تسود الفوضى، مع تمسك «المتصابين» بعد عمليات التجميل، بالخروج إلى ساحة ميدان المدينة للمطالبة بحقهم في الاستمرار في وظائفهم ما داموا شباباً، فيما الشباب يرفعون صور هؤلاء المتصابين قبل وبعد تناولهم إكسير الشباب في احتجاج على حقهم في «فرص الحياة»، أما بطلة الرواية التي تجاوزتها الحياة والحُب فتطل على هذا المشهد الجمعي المستعِر، عبر صوتها «الفرد» في مواجهة جنون الخارج: «ما أجده غريباً ليس تقدمي في السن، ليس أنني صرت عجوزاً، ولا تحوّل كل صديقاتي إلى شابات... ما يزعجني أنني أشعر بالحزن لأنني تقدمت في العمر بنفس الطريقة التي تقدم بها من حولي وصاروا كلهم شباباً، ومات الحلم بداخلي أن أعيش حياة طبيعية».