وجد أستاذ الفلسفة الدكتور فؤاد معصوم نفسه محاصرا في قبول منصب ذي رمزية عالية ومسؤولية كبيرة، وهو منصب رئيس جمهورية العراق، بينما لدواعي العمر والتفرغ لكتابة المذكرات اعتذر عن البقاء عضوا في المكتب السياسي لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي كان أحد آبائه المؤسسين. ومثلما انسحب من قيادة الحزب الذي يرأسه جلال طالباني، فإنه اعتذر أيضا عن قبول الترشح للانتخابات البرلمانية الحالية حيث كان يرأس لدورتين كتلة التحالف الكردستاني في البرلمان العراقي.
يجد معصوم نفسه دائما في حالة تحد لوضع قد لا يختاره هو طائعا بدء من دراسته الفلسفة الإسلامية في جامعة الأزهر بالقاهرة في سبعينات القرن الماضي، وانتهاء بمناصب عديدة عرضت عليه خلال السنوات الأخيرة. في سياق محاولته الكتابة عن «إخوان الصفا» لنيل شهادة الدكتوراه، ذهب الطالب «محمد فؤاد معصوم وشهرته فؤاد معصوم، إلى الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي لأخذ رأيه فيما هو عازم عليه. لكن طه حسين نصح طالب الفلسفة العراقي ولم يسأله ربما، عن قوميته أو مذهبه، أن لا يتناول موضوعا إشكاليا كهذا بالنسبة لعراقي، قائل له: (أنت عراقي، وحين تكتب عن (إخوان الصفا) فإنك إما أن تكون معهم أو عليهم»، وهي إشارة إلى صعوبة أن يكون الباحث العراقي محايدا حيال مثل هذه القضية لأسباب مذهبية.
فالتنوع المذهبي العراقي هو بالنسبة لعميد الأدب العربي قضية إشكالية على صعيد المعرفة، قبل أن تتحول إلى أزمة تعصب طائفي جرت البلاد إلى ويلات الحرب الأهلية (أعوام 2006 - 2008) وتحاول أن تجرها اليوم إلى أتون صراع طائفي لا يبقي ولا يذر. غير أن معصوم، وهو سليل الأسرة الدينية الذي يجد نفسه دائما يقف مع الحقيقة مهما كانت مرة، كان قد أخبر طه حسين بأنه لن يأخذ بنصيحته لأنه لن يكون «هنا أو هناك بل مع الحقيقة».
الحقيقة تبدو اليوم ضائعة أو مغيبة إلى حد كبير بالنسبة للطبقة السياسية العراقية التي تسيدت المشهد السياسي في العراق بعد عام 2003. ومع أن معصوم الذي كان يعد جزء رئيسا من قيادة الحركة الكردية منذ نعومة أظفاره، إلا أنه بصفته أستاذ فلسفة يجد نفسه دائما في حالة بحث عن الحقيقة حتى في معترك السياسة ودهاليزها. وهذا هو ما جعله مؤهلا لأن يقف دائما على مسافة مقبولة من كل الأطراف مهما كانت متناحرة وأيا كان مستوى الخلاف، وهو ما انعكس على طريقة انتخابه رئيسا للجمهورية.. فعلى الرغم من أنه تنافس مع أكثر من 100 شخصية عربية طامحة أو طامعة لتولي هذا المنصب وبصرف النظر عن ندية هذا أو ذاك مع شخصية بحجم فؤاد معصوم، فإن فوزه بأغلبية كبيرة داخل البرلمان، كان قد فاق قضية التوافقات السياسية وأن المنصب من حصة الكرد استنادا لهذه التوافقات. السيرة السياسية للرجل تجعل من الصعب إيجاد فروق بين السياسي والأكاديمي فيه؛ فهو يميل في السياسة.. رصين ويميل في البحث العلمي لما هو شفاف ومرن وحيوي. معصوم الذي انتمى إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الزعيم الكردي الراحل مصطفى بارزاني منذ نعومة أظفاره، وجد نفسه في مواجهة حاسمة مع الحقيقة عندما أسس مع رفيق دربه جلال طالباني حزب الاتحاد الوطني الكردستاني عام 1976. قيادة الحزب الحالية بقيت تحفظ لمعصوم مكانته التاريخية داخل هرمية الحزب، وإن كان بعيدا عن القيادة التنفيذية له حاليا. وهذه المكانة التي يحتلها لأنه أحد رموز الحركة الكردية سواء على صعيد كونه «بيشمركة» في جبال كردستان أو أستاذا للفلسفة في جامعة البصرة، أو ممثلا للكرد في القاهرة، أو مفاوضا في مواجهة صدام حسين، هي ما جعلت المكتب السياسي لحزبه يرشحه لمنصب رئاسة الجمهورية. ومع كل ما يمكن توقعه من صعوبات يمكن أن يواجهها أي رئيس جمهورية في العراق يتعين عليه السهر على دستور مختلف عليه بدءا من ديباجته حتى آخر مادة فيه، فإن معصوم الواقف مع الحقيقة دائما سيكون هو الأجدر من غيره في الحفاظ على التوازن العرقي والمذهبي والسياسي في بلد موزاييكي مثل العراق.
ولعل التحدي الأول الذي يواجهه الآن الرئيس فؤاد معصوم هو الاستحقاق الدستوري الثالث والمتمثل بتكليف مرشح الكتلة الأكبر لرئاسة الوزراء. واستنادا للعرف التوافقي الجاري في العراق، فإن مرشح رئاسة الوزراء هو من حصة المكون الشيعي. ودستوريا، فإن أمام رئيس الجمهورية مهلة أسبوعين بعد ترديده القسم لتكليف هذا المرشح. لكن حتى الآن فإن ولادة هذا المرشح لن تكون بالسلاسة النسبية التي وفد بها مرشحا رئاستي البرلمان والجمهورية. صحيح أن كلا من رئيس البرلمان (سليم الجبوري) والجمهورية (فؤاد معصوم) وصلا إلى منصبيهما بعد تسوية خلافات بدت صعبة أول الأمر داخل كتلتيهما (تحالف القوى العراقية بالنسبة للجبوري) و(التحالف الكردستاني بالنسبة لمعصوم). لكن الفارق أن كلتا الكتلتين السنية والكردية أجرتا انتخابات داخلية فازا فيها لتولي هذين المنصبين.
وعلى الرغم من أنه لم تعد أمام كتلة التحالف الوطني الشيعية سوى مهلة دستورية لا تبدو قابلة للتمديد، فإنه بدأت أنواع من الضغوط وربما الإحراجات على رئيس الجمهورية بقصد توصيفه هو لا التحالف الوطني من هو مرشح الكتلة الأكبر. ومع أن الضغوط تبدو جزءا من العملية السياسية في العراق، فإن الرئيس معصوم رجل السياسة والقانون معا ونائب رئيس لجنة كتابة الدستور العراقي لن يمنح أحدا ما يريده أو يتمناه بعيدا عن الحقيقة التي أخذ على عاتقه التمسك بها منذ اختياره واحدة من أعقد المسائل الفلسفية في تاريخ الإسلام التي حذره منها طه حسين نفسه. كل الدلائل تشير إلى أن معصوم سيلتزم بالسياقات الدستورية ومنها تفسير المحكمة الاتحادية لمفهوم الكتلة الأكبر التي يولد منها رئيس الوزراء بصرف النظر عما إذا كانت هذه الولادة طبيعية أم قيصرية. وإذا كان هذا التحدي الدستوري مرهونا بزمن قياسي، فإن مهمة معصوم الأخرى الأكثر صعوبة هي كيفية تفكيك الخلاف العميق بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان.
ولعل أبرز ما سوف يواجهه معصوم هي الكيفية التي يتمكن بها من وضع الخلافات على السكة الدستورية الصحيحة. وانسجاما مع منهجه في الالتزام بالحقيقة، فإن طرفي النزاع؛ بغداد وأربيل، أتاحا له فرصة البحث في حيثيات الخلاف وأسبابه، فقد لا يجد صعوبة كبيرة في كيفية التعامل معه في حال صدقت نوايا خصوم اليوم وشركاء الأمس التاريخيين.
هو محمد فؤاد بن الشيخ ملا معصوم، كان والده رئيس علماء كردستان ومن دعاة التقارب المذهبي والتعايش الديني. ولد الدكتور فؤاد معصوم في مدينة كويسنجق عام 1938، وهو رفيق درب الرئيس جلال طالباني. تنحدر أسرته من قرية خبانين التابعة لمنطقة هورامان، وعائلته وعائلة الرئيس جلال من أكبر العوائل الدينية في كويسنجق. تلقى تعليمه في المدارس الدينية بكردستان حتى بلغ عمره 18 عاما، ثم توجه عام 1958 إلى القاهرة ليكمل تعليمه العالي في جامعة الأزهر، وحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية من جامعة الأزهر عام 1975 وموضوع أطروحته «إخوان الصفا: فلسفتهم وغايتهم». انضم فؤاد معصوم إلى الحزب الشيوعي، وبعد سفره إلى سوريا ولقائه بسكرتير الحزب الشيوعي السوري خالد بكداش، وعلى خلفية مواقف بكداش من القضية الكردية، استقال من الحزب، وانضم للحزب الديمقراطي الكردستاني عام 1964. في عام 1968، عمل مدرسا في كلية الآداب في جامعة البصرة ومحاضرا في كليتي الحقوق والتربية بجامعة البصرة أيضا، وكان ممثل الحزب الديمقراطي الكردستاني في البصرة.
وعين معصوم ممثلا للثورة الكردية في القاهرة في عام 1973، وبقي فيها حتى عام 1975. في عام 1976، كان أحد مؤسسي الاتحاد الوطني الكردستاني. وفي عام 1992 تولى رئاسة الكابينة الأولى لحكومة إقليم كردستان. وهو عضو المكتب السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني منذ تأسيس الحزب في عام 1976. في عام 2003 وبعد سقوط نظام صدام حسين انتقل إلى بغداد، وكان عضوا في الوفد الممثل لإقليم كردستان في بغداد، وعضوا في رئاسة مجلس كتابة الدستور العراقي. وفي عام 2004، أصبح أول رئيس مؤقت للجمعية الوطنية (برلمان معين بعد سقوط نظام صدام حسين)، ليكون بعدها في عام 2005 عضوا منتخبا في مجلس النواب. وترأس كتلة التحالف الكردستاني في دورتين نيابيتين (2005 – 2010).
فؤاد معصوم.. الأزهري الذي لم يأخذ بنصيحة طه حسين
رئيس العراق الجديد.. تقع على عاتقه مسؤولية الحياد في بلد التنوع المذهبي والعرقي
فؤاد معصوم.. الأزهري الذي لم يأخذ بنصيحة طه حسين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة

