عرضت «نتفليكس» منذ فترة قصيرة فيلم «ماري أنطوانيت» للمخرجة صوفيا كوبولا. الفيلم الذي صدر أول مرة في عام 2006 لم يجذب إعجاب النقاد بقدر ما أثار انتقادهم. كان هناك إجماع على أنه افتقد إلى العُمق، وأن المخرجة استعملت الأزياء والإكسسوارات الباذخة لتسليط الضوء على آخر ملكات فرنسا، بدل التركيز على كثير من جوانب حياتها الأخرى. لكن بالنسبة لمتابعي الموضة، فإن صوفيا كوبولا قامت بما هو أكثر من مجرد توظيف الأزياء الفخمة والإكسسوارات المنمقة التي اشتهر بها البلاط الفرنسي في القرن الثامن عشر... فقد أدخلت ماري أنطوانيت التي كانت مجرد فتاة صغيرة، لا حيلة لها، عندما انتقلت من النمسا إلى فرنسا، إلى القرن الحالي بتعمدها وضع حذاء رياضي تحت سريرها، وفي مرمى البصر، بما لا يترك أدنى شك بأن الأمر لم يكن خطأً أو سهواً... كان رسالة نسوية تعترض على الصورة التي رسمها الرجل للأنوثة.
قد تكون ماري أنطوانيت قد أذعنت لهذه الصورة لأنها كانت مطلوبة ومتوقعة منها في ذلك الزمن، لكن صوفيا كوبولا تنتمي إلى عصر مختلف تماما، وهو ما عبرت عنه في لقطة قصيرة جدا. الممثلة البريطانية إيما تومسون هي الأخرى أكدت على هذه النقطة مؤخرا بخرقها الأعراف والبروتوكول. فقد حضرت إلى قصر باكنغهام لتسلم وسام شرف على مساهمتها في السينما والفن من دوق كمبريدج ، الأمير ويليام، وهي تلبس بدلة رجالية مع حذاء رياضي باللون الأبيض من توقيع المصممة ستيلا ماكارتني. ورغم أننا لا يجب أن نفاجأ بهذه الخطوة في عام 2018 الذي يشهد حملة «مي تو» (#MeToo) إلى جانب حركة نسوية ترفع رايتها كثيرات من المصممات والمفكرات على حد سواء، فضلا عن ظهور عدة نجوم في مناسبات السجاد الأحمر بفساتين أو بدلات رفيعة مع أحذية رياضية، فإن حضور مناسبة في قصر باكنغهام بحذاء رياضي تبقى خطوة غير مسبوقة تثير كثيرا من التساؤلات.
في التوقيت نفسه تقريبا، ظهرت ماري، أميرة الدانمارك، خلال زيارة رسمية لإيطاليا، بحذاء رياضي من «نايكي» نسقته مع فستان أنيق. إلا إن ما شفع لها أن المناسبة كانت جولة سياحية على معالم روما لا تستدعي ارتداء حذاء بكعب.
كل هذا يشير إلى أن الموضة لا تزال تتمرد على المتعارف عليه، وأنها لم تكتف بما حققته إلى حد الآن على منصات عروض الأزياء وشوارع الموضة العالمية، والآن جاء الدور على القصور. صحيح أن العائلة الملكية البريطانية ظلت محافظة على بعض الرسميات، تحت اسم البروتوكول، لكن الملاحظ أنها بدأت تخفف منها بالتدريج بعد انضمام أفراد من الشعب إليها، مثل كيت ميدلتون ومؤخرا ميغان ماركل. كان الأمر إيذانا بدخول الملكية عصرا جديدا تُرحب فيه بتجديد دمائها حتى تبقى مواكبة للعصر.
بيد أننا، ومن ناحية أخرى، لا بد لنا من الاعتراف بأن أي حركة تمردية تحدث داخل القصر الملكي، أو من قبل فرد من أفراد العائلة الملكية، كما هي الحال بالنسبة لماري؛ أميرة الدنمارك، هي إشارة إلى تغير اجتماعي عالمي، سيتم الاستشهاد به بعد عقود من الزمن. فالموضة، كما بتنا نعرف، جزء لا يتجزأ من أي مجتمع، وهو ما يجعلها وسيلة سهلة لدراسة تغيراته وثقافته. ليس أدل على هذا من ثورة الموضة في الستينات من القرن الماضي، عندما قدم الراحل إيف سان لوران ما أصبح يُعرف بـ«لو سموكينغ»؛ أي التوكسيدو للمرأة. كان ذلك في 1966، ويُعد الآن نقلة نسوية بكل معنى الكلمة. وهذا ما تعيشه الموضة حاليا، خصوصا أن هناك عناصر كثيرة مشتركة بين الماضي والحاضر. فمما تذكره كتب الموضة، مثلا، أن مطعم «لو كوت باسك» في نيويورك منع نان كامبنر، وهي سيدة مجتمع شهيرة ومعروفة بأناقتها، من الدخول بسبب ارتدائها التوكسيدو. لم يكن الجاكيت هو المرفوض؛ بل البنطلون. وفي حركة مشابهة، فإن من شروط دخول مطعم «لا بوتيت ميزون» الواقع بمنطقة «مايفير» وسط لندن أن يكون المظهر أنيقا وعصريا، والملاحظ أنه خفف من لغته في المدة الأخيرة بفرض «مظهر أنيق ولا بأس أن يكون مع حذاء رياضي».
ما انتبه إليه المطعم أن مزج الأنيق والـ«سبور» بمعنييه «الكاجوال» والرياضي، أسلوب يطغى على الموضة حاليا ولا يتعارض مع الأناقة، بل سيحدد حقبة بكاملها، من 2010 إلى 2020، فقد كانت عروض الأزياء للموسمين الحالي والمقبل، على حد سواء، ميدانا مفتوحا للأسلوب الـ«سبور». من فيرجيل أبلو، مؤسس ماركة «أوف وايت» التي تشهد مبيعاتها انتعاشا كبيرا بجنوحها وترويجها لهذا الأسلوب، وهو ما أهله ليصبح مصمم دار «لويس فويتون» للأزياء الرجالية، إلى «ستيلا ماكارتني» و«غوتشي» و«ديور» وغيرهم. كانت الأناقة والراحة وجهان لعملة واحدة، ومن الصعب على أي مواكب للموضة أن يفصل بينهما. بل يمكن القول إن الحذاء ذا الكعب العالي أصبح نشازا، إلا في حالة كان بتصميم منمق للغاية أو هندسيا بشكل لافت يصبغ عليه صفة فنية. فالتصاميم الأنثوية بمفهومها التقليدي لم تعد مناسبة في زمن اكتسبت فيه الأنوثة معاني مختلفة، ودخلت فيه الحركات النسوية مرحلة جديدة تتوخى فيها الراحة أولا وأخيرا؛ بدل إرضاء الرجل. ويبدو أنها بعد أن ذاقت حلاوة الأحذية الرياضية «السنيكر»، لم تعد تستغني عنها في مناسبات المساء والسهرة. لحسن الحظ أن المصممين يتفننون في تصاميمها وألوانها ورسماتها، كما باتوا يطرحونها بأسعار خيالية؛ بعضها تُبرره الأحجار والتطريزات، وبعضها الآخر لا يبرره سوى اسم الدار.
ويمكن القول إن عالم الموضة لم يعرف ثورة كتلك التي يشهدها حالياً من خلال الأحذية الرياضية منذ اقتحام الجينز خزانة المرأة في القرن الماضي. فقد باتت تشكّل 60 في المائة من مجموع الإنتاج العالمي من الأحذية؛ حسب ما أفادت به أرقام منظمة التجارة العالمية. وتضيف دراستها أن مبيعاتها ارتفعت للسنة الرابعة على التوالي بنسبة 10 في المائة لتصل قيمتها الإجمالية إلى 30 مليار دولار. ولا ينكر كثير من بيوت الأزياء أنها أصبحت محركا اقتصاديا مهما عوضها ما فقدته بعد تراجع أهمية حقائب اليد التي كانت الدجاجة التي تبيض لها ذهبا في تسعينات القرن الماضي. السبب أنها ليست وقفاً على المرأة، بل تشمل الرجل أيضا. والمقصود هنا ليس أي رجل، بل الأنيق والناجح الذي لا يرى فيها تعارضا مع بدلة رسمية مفصلة على الجسم، ويراها تريحه وتعكس مظهرا مواكبا للعصر، بل ويتطلبه بالنظر إلى إيقاع الحياة السريع.
الأحذية الـ«سبور»... تدخل القصور
بعد أن فرضت نفسها على ساحة الموضة ومناسبات المساء والسهرة
الأحذية الـ«سبور»... تدخل القصور
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة