يضم أحد أطراف مصنع شركة «بيغيلو» للصناعات الفضائية نموذجا عملاقا لمنزل لرواد فضاء المستقبل يتميز بتصميم فريد، وإمكانية توضيبه لنقله في صاروخ ومن ثم إعادة فتحه في الفضاء على شكل محطة فضائية ضخمة لإيواء عشرات الأشخاص براحة تامة، أو ليؤدي دور الوحدة الرئيسية في محطة قمرية.
وخلال مؤتمر صحافي في فبراير (شباط) الماضي، كشف روبرت تـ. بيغيلو، مؤسس الشركة أن هذا المنزل وفقاً للمعايير المعتمدة حالياً، سيكون بمثابة مركبة فضائية عملاقة. وتحمل هذه المنشأة العملاقة اسم «أوليمبوس» تيمناً بالمنزل الأسطوري المنسوب لآلهة الإغريق وتجسيداً لحجم طموحات بيغيلو الكبيرة في بناء مستوطنات على سطح القمر.
وأسفل المصنع، بنت الشركة هيكلاً معدنياً طويلا ونحيلا يمثل نسخة تطويرية من العمود الفقري لنموذج أكثر تواضعاً من وحدة B330 التي تعتزم الشركة بناءها. عند مقارنتها بأوليمبوس، تبدو هذه الوحدة أصغر حجماً ولكنها في الوقت نفسه أكبر من العلب المعدنية التي تؤلف المحطة الفضائية الدولية.
يقول بيغيلو إنه ملتزم بإتمام بناء وحدتي «بي 330 B330 «وتجهيزهما للإطلاق في عام 2021. في خطوة تنبئ ربما بتحول كبير لنصف قرن تقريباً من الطيران البشري إلى الفضاء المحتكر من قبل المؤسسات الحكومية كوكالة الفضاء الأميركية «ناسا» إلى مجال تجاري مفتوح للجميع. وتسعى إدارة الرئيس ترمب إلى تسريع هذا الانتقال عبر إنهاء التمويل الفيدرالي المباشر للمحطة الفضائية الدولية بعد عام 2024.
من جهته، قال جيم بريدينستين، مدير وكالة «ناسا» الأسبوع الماضي: «نحن أيضاً نرغب في كثير من الممولين الذين يتنافسون على التكلفة والابتكار. ويسعدنا أن نرى (ناسا) تتحول إلى زبون واحد من عدة زبائن».
ويرى بريدينستين أنه في حال أثبتت المحطات التجارية أنها أقل تكلفة على صعيد التشغيل، ستستفيد «ناسا» من تمويل إضافي لمتابعة تحقيق أهداف أخرى كإرسال رواد فضاء إلى القمر والمريخ.
ولكن المراهنة بمئات ملايين الدولارات على أعمال غير قائمة على أرض الواقع قد تتحول إلى وسيلة سريعة لخسارة الثروات. هذا غير أن السفر إلى الفضاء يبقى هواية خطرة قد تنتهي بموت بعض المسافرين.
تعتبر المحطة الفضائية الدولية اليوم المكان الوحيد الذي يستطيع بشر لا يتجاوز عددهم الستة أن يعيشوا فيه خارج الأرض. إنها إنجاز تقني احترافي، وهي المشروع الأعلى تكلفة الذي نفذته البشرية حتى يومنا هذا.
فقد أنفقت الدول التي شاركت في بنائها بقيادة الولايات المتحدة وروسيا، ما يقارب 100 مليار دولار على فترة امتدت لأكثر من عقدين، وكانت حصة الولايات المتحدة وحدها من الإنفاق بين ثلاثة وأربعة مليارات سنوياً.
تستخدم المحطة الفضائية الدولية التي لم تفرغ من الزائرين طوال 18 سنة متتالية، كمنصة اختبار لدراسة التأثيرات الطويلة الأمد للإشعاع وانعدام الوزن على رواد الفضاء. واكتسبت وكالة «ناسا» خبرة كبيرة في إدارة المحطة من خلال حل الكثير من المشاكل كانسداد الحمامات وأعطال أنظمة التبريد والكومبيوترات.
ولكن ما بات جلياً اليوم هو أن الحياة في المحطة الفضائية الدولية أصبحت عادية ورتيبة تشبه الحياة في مكتب منزلي يقع على ارتفاع 322 كلم ويتطلب السفر بسرعة 27359 كلم/ الساعة، حيث يقضي رواد الفضاء وقتهم في العمل وتناول الطعام والنوم وممارسة الرياضة ومتابعة اختباراتهم وأداء مهامهم. ونادراً ما ينفذ الطاقم الموجود فيها أي نشاطات كالنزهات الفضائية التي تبدو من عالم آخر فعلاً.
إن احتمال تقاعد المحطة الفضائية الدولية في إطار طلب الإدارة الأميركية للاقتصاد في الميزانية أذهل كثيرين، فالشركات الكبرى مثل بيغيلو وغيرها لا تزال تحتاج إلى سنوات لإطلاق محطاتها الفضائية، هذا إضافة إلى أن مشاريع مكلفة ومتطورة بهذا الحجم غالباً ما تتجاوز الجدول الزمني المحدد لها.
وهذا الأمر يشعر النقاد بالقلق من احتمال إيقاف المحطة الفضائية الدولية عن العمل قبل أن تصبح بدائلها جاهزة.
مساكن الفضاء المستقبلية
هل تصبح مخلفات اليوم الفضائية مساكن الفضاء المستقبلية؟ قبل عقدين تقريباً، تم إطلاق محطة فضائية دولية تجارية لفترة قصيرة. كانت تلك المحطة روسية الصنع وتولى تشغيلها أميركي يدعى جيفري مانبر، ولعلها كانت ستتكلل بالنجاح لولا أن «ناسا» أنهتها في ذلك الوقت.
بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، تعرقل البرنامج الروسي الفضائي بسبب الحاجة إلى المال، فرأى الجميع أن المحطة الروسية «مير» قديمة ومتصدعة، وأنها يجب أن تستبدل بمحطة فضائية دولية أفضل وأكبر.
إلا أن مانبر ورواد أعمال آخرين في الولايات المتحدة رأوا في «مير»، المحكوم عليها بالموت، مشروعاً قابلاً للصيانة. ووافقت «إينيرجيا»، الشركة المصنعة لـ«مير» على الدخول في شراكة مع الأميركيين لصناعة «مير كورب»، مشروع تجاري يقضي باستئجار المحطة من الحكومة الروسية.
ولكن الروس خضعوا لإصرار «ناسا» على إنهاء «مير» التي سقطت من المدار الأرضي في المحيط الهادي عام 2001. أما اليوم، فقد أسس مانبر مشروعاً ناجحاً في قطاع المحطات الفضائية بصفته الرئيس التنفيذي لشركة «نانو راكز» الناشئة، التي بسطت عملية إرسال التجارب إلى المحطة الفضائية وأطلقت أقماراً صناعية صغيرة تعرف باسم «كيوب سات» من المحطة.
قبل بضع سنوات، طلب مانبر من مهندسيه أن يدرسوا فكرة مجنونة كانت «ناسا» قد استبعدتها سابقاً: هل يمكن استخدام قطع من مخلفات الصواريخ المهملة في المدار الأرضي بعد الإطلاق وتحويلها إلى محطة فضائية غير مكلفة؟
مع التطور الحاصل اليوم في عالم الروبوتات، تبدو آفاق تنفيذ هذه الفكرة واعدة أكثر.
فقد فازت شركة «نانو راكز»، التي تتعاون مع «يونايتد لانش آليانس»، وهي شركة محاصة مملوكة من بوينغ ولوكهيد مارتن، بعقد من «ناسا» للبحث أكثر في هذه الفكرة، والتركيز على الطبقة الثانية من تنفيذ صاروخ «أطلس 5» الذي يشكل العمود الفقري لشركة «يونايتد لانش آليانس».
ترتكز هذه الفكرة على إضافة وحدات روبوتية صغيرة بين الطبقة الثانية التي تعرف باسم «سينتور» وحمولة القمر الصناعي في الأعلى.
ثالث الأسماء الكبرى التي دخلت في سباق المحطة الفضائية الخاصة هي شركة «آكسيوم سبيس» ومقرها هيوستن، يديرها مايكل تـ. سافريديني، الذي ترأس قسم «ناسا» المعني بالمحطة الفضائية الدولية حتى تقاعده عام 2015.
وكشف سافريديني إن محطة فضائية من تطوير «آكسيوم» مجهزة بأحدث التقنيات ستصل تكلفتها إلى نحو 50 مليون دولار سنوياً لتبدأ العمل، أي ما يعادل جزءاً بسيطاً من تكلفة المحطة الفضائية الدولية. وأضاف: «هناك أسباب لا تعد ولا تحصى لاعتماد هذا الخيار. لقد عملنا بجد للوصول إلى هذا الرقم...إنه رقم مفاجئ بالنسبة لنا أيضاً». تفتح هذه التكاليف المنخفضة الاحتمالات بتحقيق الربح، ولفت سافرديني إلى أن سوق هذه التقنية قد تصل إلى نحو المليار دولار. لم يقدم الأخير شرحاً تفصيلياً للأسواق المحتملة التي يتوقعها، ولكن العمل فيها قد يعتمد على إرسال أصحاب الثروات في رحلات لاستطلاع الموقع كفيليب ستارك، المصمم الفرنسي اللامع الذي يعمل على تصميم الجزء الداخلي من وحدة «آكسيوم»، إلى جانب توفير مساحة للجهات الصناعية الساعية إلى إنتاج مواد لا يمكن صناعتها إلا في الفضاء.
وقال سافريديني: «أنا واثق جداً من أنه يمكننا إنجاح خطة عملنا». ولكن الرقم الذي توصلنا إليه لم يكن مقنعاً للجميع.
وقد أصدر بول ك. مارتن، المفتش العام في وكالة «ناسا» هذا العام تقريراً يسلط الضوء على هذه المخاوف. وقال فيه: «نحن نبحث فيما إذا كانت هذه الأسس التجارية كافية لتمكين الشركات الخاصة من تطوير عمل مستقل ومنتج يحقق لها اكتفاء يغنيها عن أي تمويل فيدرالي كبير خلال ست سنوات».
3 محطات فضائية بحلول عام 2025
> تخطط الصين لإنجاز محطتها الفضائية الخاصة في أوائل 2020. ووعد مسؤولون صينيون بفتح هذه المحطة للباحثين حول العالم. كما تحدثت روسيا عن عزمها الاحتفاظ بنصفها من المحطة الفضائية الدولية حتى لو انسحب الأميركيون منها.
يتردد خبراء السياسات الفضائية، وحتى المتفائلين منهم الذين يأملون بأن تعتمد «ناسا» مقاربة تجارية، في توقع المدى الزمني الذي سيصبح فيه إرسال الناس إلى الفضاء مربحاً بالنسبة للشركات الخاصة.
وقال تشارلز ميلر، مسؤول سابق في «ناسا» الذي يرأس اليوم شركة «نيكسجين سبيس»: «إن فكرة الأعمال التجارية في الفضاء لا تزال ناقصة».
يتوقع ميلر وجود ثلاث محطات فضائية في المدار بحلول 2025 هي المحطة الفضائية الدولية، والمحطة الصينية وبدايات محطة تجارية ما. واعتبر أخيراً، أن الجدالات الصاخبة حول مستقبل المحطة الفضائية الدولية ستستمر.