جبهة إرهاب إيران تتسع في أميركا اللاتينية

على مشارف قمة العشرين

ملثمون في مواجهة مع الشرطة الأرجنتينية بعد موجة اعتقالات عام 1992 إثر تفجير سيارة مفخخة استهدف سفارة إسرائيل (غيتي)
ملثمون في مواجهة مع الشرطة الأرجنتينية بعد موجة اعتقالات عام 1992 إثر تفجير سيارة مفخخة استهدف سفارة إسرائيل (غيتي)
TT

جبهة إرهاب إيران تتسع في أميركا اللاتينية

ملثمون في مواجهة مع الشرطة الأرجنتينية بعد موجة اعتقالات عام 1992 إثر تفجير سيارة مفخخة استهدف سفارة إسرائيل (غيتي)
ملثمون في مواجهة مع الشرطة الأرجنتينية بعد موجة اعتقالات عام 1992 إثر تفجير سيارة مفخخة استهدف سفارة إسرائيل (غيتي)

ما الذي تخطط له إيران عبر استخدام حرسها الثوري بشكل مباشر، ومن خلال أذرعها الميليشياوية المتمثلة في جماعة «حزب الله» بقارة أميركا اللاتينية؟ السؤال المتقدم طرح بشكل عاجل الأيام الماضية في الأرجنتين التي تجري فيها الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال كبار قادة العالم في قمة العشرين، التي ستُعقَد في العاصمة بيونس آيرس نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، والأول من ديسمبر (كانون الأول) المقبل، بعدما اكتشفت السلطات الأمنية أن هناك عناصر مسلحة يُشتبه في صلتها بـ«حزب الله» اللبناني، وضبطت بحوزتهما ذخيرة وكمية من الأسلحة وصورة لراية الجماعة الشيعية.

الشرطة الأرجنتينية أكدت على وجود أوراق هوية باللغة العربية للرجلين، ولهذا كان الربط السريع بينهما وبين «حزب الله» بنوع خاص، وبدأت الأسئلة والشكوك حول النيات الخبيثة للقيام بعمليات إرهابية في الدولة التي شهدت قبلاً تفجيرات مرتين، 1992 و1994. عدة أسئلة تواجهنا ونحن بصدد تفكيك المشهد الأخير، وفي المقدمة منها: «ما الذي تخطط له إيران من إرهاب متصاعد في مقبل الأيام؟».
ليس سراً القول إن نظام الملالي في طهران يعد ويرتب منذ فترة لسيناريوهات مختلفة يمكنه من خلالها مواجهة ومجابهة الولايات المتحدة الأميركية بسبب العقوبات الاقتصادية الخانقة والقاتلة التي أوقعها على طهران، ويمكن أن تؤدي بالنظام الإيراني إلى السقوط دفعة واحدة، الأمر الذي يتبدى واضحاً جداً من خلال تصريحات قادة الحرس الثوري الإيراني التي تعزز فرضية استعداداتهم لتحويل العالم برمته إلى رقعة ملتهبة بالنيران. في هذا السياق يتذكر المراقبون لإرهاب إيران و«حزب الله»، وهما واحد في نهاية الأمر، الهجمات الدموية التي قاموا بها في مارس (آذار) من عام 1992، حين استهدف تفجير انتحاري بسيارة مفخخة مبنى السفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس، وتبنته مجموعة متطرفة لبنانية، أثبتت التحقيقات أنها تتحرك بتوجهات مباشرة من طهران، والمتابعون لسير الجماعات الإرهابية حول العالم يقولون إن تلك الفصيلة انحلَّت وانضمت إلى «حزب الله»، وإن هجوم السفارة الإسرائيلية لم يكن إلا انتقاماً لاغتيال الأمين العام لحزب الله عباس الموسوي في فبراير (شباط) عام 1992.
ويعنّ للمراقب للعقلية الإيرانية التساؤل: إذا كان اغتيال فرد يدور في فلك الدائرة الإيرانية الكبرى كان هذا ثمنه؛ فكيف يخطط الإيرانيون الآن للانتقام حال سقوط النظام الإيراني، وخياراتهم في أميركا اللاتينية قوية وواسعة بسبب سوء الأحوال الاقتصادية هناك، عطفاً على الأوضاع السياسية المأزومة، وقد أعادوا إرهاب 1992، مرة ثانية، في 18 يوليو (تموز) 1994، عندما شنَّت المجموعة الشيعية عينها هجوماً دموياً آخر استهدف مبنى الجمعية التعاونية اليهودية الأرجنتينية.
لم تكن الأرجنتين وحدها محط أنظار إيران و«حزب الله»، بل هناك دول كبرى أخرى، مثل البرازيل، باتت تمثل هاجساً مقلقاً لأمن القارة اللاتينية برمتها، الأمر الذي أشارت إليه صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية نقلاً عن إيمانويل أوتو لانغي، الزميل المشارك في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية، الذي أشار في جلسة استماع لمجلس النواب الأميركي في يونيو (حزيران) 2016 إلى أن «حزب الله» له جذور قوية في البرازيل، وأن نحو سبعة ملايين شخص من أصول لبنانية، بينهم مليون شيعي، يعيشون في البرازيل وولاؤهم لـ«حزب الله»، ولهذا كان من الطبيعي أن تلقي الشرطة في البرازيل القبض على رجل تتهمه الولايات المتحدة الأميركية بأنه أحد أهم مسؤولي التمويل في «حزب الله» اللبناني، وهو المدعو أسعد أحمد، المتهم بغسل أموال قيمتها عشرة ملايين دولار نيابة عن «حزب الله» في أحد الكازينوهات بمنطقة «شلالات أجوازو»، وقد وصفته وزارة الخزانة الأميركية بأنه «إرهابي دولي».
هل القضية بالنسبة إلى إيران وميليشياتها مجرد تحركات عشوائية، حتى وإن كانت مصحوبة بالعنف وموسومة بالإرهاب، أم أن المشهد أعمق وأكثر تعقيداً مما هو ظاهر على السطح؟
الجواب الشافي الوافي يأخذنا إلى نوع من الذكاءات الشريرة الإيرانية في اللعب على الأوتار الدولية السياسية المتناقضة، التي وصل بعضها إلى حد العداء للبعض الآخر، كما حال الولايات المتحدة الأميركية مع عدد من دول أميركا اللاتينية مثل فنزويلا تحديداً؟
المؤكد أن تحركات عناصر «حزب الله» وإيران في تلك المنطقة لا سيما المثلث الحدودي بين بارغواي والأرجنتين والبرازيل سياسة عليا لتمكين إيران من تصدير مفاهيمها الراديكالية لقطاعات من العالم تشاركها العداء لواشنطن، إضافة إلى محاولة رسم خريطة جديدة لعملياتها اللوجيستية، التي هي إرهابية بالضرورة، ولا مانع من توثيق العلاقات مع شعوب القارة اللاتينية لتحقيق مصالح اقتصادية لا سيما أن هناك مثلثاً يجمع إيران مع الصين وروسيا، وهذا المثلث يجد في أميركا اللاتينية، التي هي الخلفية الجغرافية التاريخية لأميركا، أفضل موقع وموضع لإحداث توازنات سياسية وجيواستراتيجية، قادرة على إصابة واشنطن بصداع مقيم.
والثابت أن الأهداف الخاصة بالتحركات الإيرانية الأخيرة في القارة اللاتينية تؤكد على نياتها منازلة واشنطن، فإن إيران التي تعاني في الحال وستزداد أوضاعها الاقتصادية سوءاً في المستقبل القريب، إنما تعمل جاهدة للاستفادة من شراكات مالية في بعض تلك الدول، وبعيداً عن أعين واشنطن بنوع خاص، ولها في هذا السياق طريقان؛ الأول هو تهريب المخدرات، أما الثاني فيتمثل في غسل الأموال. وبالتبعية الموضوعية فإن «حزب الله» يسارع قبل الانهيار لتحصيل أكبر قدر ممكن من العائدات المالية التي تمكِّنه من مواصلة أعماله، ذلك أن تبرعات إيران، وباعتراف حسن نصر الله الأمين العالم للحزب، هي التي تقيم أود الحزب اللبناني، ومن دونها لن يبقى هناك مصدر دخل.
أما المسار الثاني، فيتصل بمحاولة إحداث عمليات إرهابية في القارة اللاتينية ضد المصالح الغربية عامة والأميركية خاصة، حال تحولت المواجهة بين طهران وواشنطن إلى سجال عسكري، وتالياً فإن عناصر «حزب الله» والحرس الثوري يمكن لهما التسلل إلى الداخل الأميركي عبر الحدود، أو وسط قوافل المهاجرين غير الشرعيين بنوع خاص، كما فعل عدد منهم اندسوا وسط المهاجرين لأوروبا الأعوام الماضية، ليشكل الفريقان مجموعات عمليات مسلحة لانتقامات إيران، وهو الأمر الذي لم يغب عن أعين الاستخبارات المركزية الأميركية ورجال المباحث الاتحادية ووزارة الخزانة وبقية الأجهزة المعنية.
في تقريرها السنوي حول الإرهاب لعام 2015 سلَّطت وزارة الخارجية الأميركية الضوء على شبكات الدعم المالي التي يحتفظ بها «حزب الله» في أميركا اللاتينية، وخلص التقرير إلى أن الحزب قادر على العمل في جميع أنحاء العالم، وبالفعل أحبطت إحدى مؤامرات «حزب الله» الأخيرة في بيرو، وشارك فيها عنصر من الحزب متزوج من مواطنة أميركية.
نحن إذن أمام محاولات إيرانية مستقرة ومستمرة، هدفها ترسيخ النشاطات الإيرانية في أميركا اللاتينية، الأمر الذي يشكل جزءاً من استراتيجية إيرانية شاملة تتعدى أهدافها إلى حد أبعد بكثير تحقيق الهيمنة في الشرق الأوسط، وفي إطار هذه الاستراتيجية، فإن إيران التي تعتبر نفسها مطوّقة على أيدي الولايات المتحدة الأميركية، والتي تدير بإصرار وحزم الأزمة النووية أمام الغرب تسعى إلى وضع تحدٍّ ثوري أمام الولايات المتحدة الأميركية في ساحتها الخلفية، وفي مناطق جغرافية أخرى في آسيا وأفريقيا.
لأجل ذلك تستغلّ إيران جيداً فوائدها النسبية: الآيديولوجية والمفردات البلاغية الخطابية المناوئة لأميركا، وإلى جانب ذلك البترو – دولارات التي يمكن استخدامها لأغراض سياسية، ووجود سكان من أصول عربية شيعية يقطنون في بلدان رئيسية في أميركا اللاتينية، ويشكلون رافعة لتطوير المصالح الإيرانية.
هل يغيب الإرهاب الإيراني وتابعه «حزب الله» عن أعين إدارة الرئيس ترمب؟
المقطوع به أن الإيرانيين و«حزب الله» يهيئون أنفسهم للحظة المواجهة الخشنة والانقضاض، من ثم، على المصالح الأميركية في أميركا اللاتينية، وكذلك في الداخل الأميركي نفسه، ولعل ما توقعه الأميركيون آخذ في الحدوث بالفعل، ففي شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي أدى تحقيق مشترك لجهاز المباحث الاتحادية، وإدارة شرطة مدينة نيويورك، إلى اعتقال شخصين قيل إنهما يعملان باسم الجناح الإرهابي لـ«حزب الله» الذي يُطلق عليه اسم تنظيم الجهاد الإسلامي، والذي تردد أنه انضمَّ قبلاً إلى «حزب الله».
المثير أن أحدهما أفاد في التحقيقات بأنه بتوجيه من مشغليه في «حزب الله» نفَّذ مهمات في بنما لتحديد مواقع السفارتين الأميركية والإسرائيلية، فضلاً عن تقييم نقاط الضعف في مجرى قناة بنما، وكذلك السفن التي تعبر القناة، وذلك وفق إيجاز صحافي صدر عن وزارة العدل الأميركية.
أما الشخص الآخر، فقد قام بإجراء عمليات استطلاع لأهداف محتملة في أميركا، بما في ذلك منشآت عسكرية وأخرى تابعة لأجهزة إنفاذ القانون في مدينة نيويورك... ما النتيجة التي خلص إليها الأميركيون؟
يمكن القول دون تهويل إن قارة أميركا اللاتينية قد باتت عرضة لمحاولات استغلال واحتلال مالي وآيديولوجي من جهة إيران، وذلك وفي دول تتآكل اقتصادياً يكون من اليسير للغاية أن ينتشر الفساد، وهذا بدوره أفضل باب لولوج الإرهاب الأعمى، بسبب توافر الأموال السائلة، فبحسب تقرير سري للأجهزة الاستخباراتية الأميركية نجح «حزب الله»، بفضل شبكات علاقاته في أميركا اللاتينية في تبييض ما بين 600 و700 مليون دولار بين 2014 و2016، وذلك بعد مقاطعة ومراجعة معلومات مصرفية سرية حصلت عليها الأجهزة الأميركية من مصارف وبنوك وشركات عاملة في منطقة المثلث الحدودي المشار إليها سلفاً. هل هي جبهة إرهاب جديدة تفتحها إيران حول العالم؟ القصة في مبتدئها مرتبطة ارتباطاً جذرياً بتطورات المشهد الأميركي الإيراني القائم والقادم.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.