تحولت جادة الشانزليزيه التي يعتبرها الفرنسيون الأجمل في العالم طيلة يوم أمس إلى ساحة حرب من الكر والفر بين المتظاهرين أصحاب «السترات الصفراء». واستبقت السلطات الأمنية ممثلة بوزارة الداخلية ومديرية الشرطة في العاصمة «السبت الأسود» المنتظر، بأن أعلنت تحريم اقتراب المحتجين والمتظاهرين من «المربع الذهبي» الممثل بالقصر الرئاسي والجمعية الوطنية وساحة الكونكورد ومقر رئاسة الحكومة. ومن أجل ذلك، عمدت إلى إغلاق الطرق المفضية إليها بشاحنات الشرطة والحواجز المعدنية ورصت صفوف الفرق الأمنية كاملة التسلح والحماية ومنعت السير فيها كما أغلقت محطات المترو.
وردا على مطلب المتظاهرين التجمهر في ساحة الكونكورد، جاء رد مديرية الشرطة بالرفض. لكنها اقترحت بدل ذلك السماح لهم بالتجمع في ساحة كبيرة تجاور برج إيفل وتسمى «شان دو مارس» الأمر الذي رفضه المحتجون الذين رأوا فيه محاولة من السلطات إبقاءهم بعيدين عن «مراكز القرار» وعن أعين السلطات وخصوصا منعهم من الاقتراب من القصر الرئاسي.
بيد أن هذه الاستراتيجية الأمنية جاءت غير مكتملة لأن المتظاهرين المصرين على الوصول إلى ساحة الكونكورد ساروا باتجاهها من عدة جهات خصوصا من أعلى جادة الشانزليزيه حيث قوس النصر. وكان المحتجون الذين أطلقوا حركتهم، بداية، للتعبير عن رفضهم للزيادات التي قررتها الحكومة على المشتقات النفطية، قد بدأوا بالتوافد على باريس من كافة المناطق بالقطارات والحافلات والسيارات الخاصة. وبعضهم أمضى خمس ساعات للوصول من جنوب فرنسا أو من غربها للمشاركة في هذا اليوم الذي أريد له أن «يتوج» حركتهم الاحتجاجية ولإفهام الحكومة أن رهانها على تعب المحتجين وابتعاد الرأي العام الفرنسي عنهم ليس في محله.
ومنذ ما قبل الظهر، ازدادت أعداد «السترات الصفراء» في جادة الشانزليزيه الذي قطع السير فيها وبدأ هؤلاء بالنزول نحو ساحة الكونكورد. وشيئا فشيئا، تراجع رجال الأمن أمام الجموع «الزاحفة» وسط أجواء بعيدة عن العدائية. لكن عند اقترابهم من ساحة شانزليزيه ــ كليمنصو، التي لا يفصلها إلا القليل عن قصر الإليزيه، توقفت القوى الأمنية عن التراجع واحتمت وراء الحواجز المعدنية و«السد» الذي شكلته حافلات الشرطة المجهزة لهذا الغرض. ثم استقدمت الشاحنات الحاملة لخراطيم المياه. وبعد استفزازات من هنا وهناك، خصوصا من «مشاغبين» يظن أنهم ينتمون إلى اليمين المتطرف، وبعضهم أيضا من اليسار المتطرف، عمدت القوى الأمنية إلى تفريق المتظاهرين بالقوة من خلال اللجوء إلى خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع وكان هدفها دفع «السترات الصفراء» إلى التراجع إلى أعلى باتجاه قوس النصر وإبعادها عن «المربع الذهبي». عندها، فقدت الشانزليزيه صورتها التقليدية وساد الهرج والمرج والكر والفر وتطايرت أحجار الطرقات والحواجز المعدنية والحواجز المستخدمة لحماية الأشغال العامة وحاويات القمامة وكل ما وقع بأيدي المتظاهرين والمشاغبين.
وعمد المتظاهرون إلى إقامة حواجز مرتجلة على الجادة المذكورة فيما ألقت القوى الأمنية القبض على العشرات مما تعتبرهم مسؤولين عن العنف. وكل ذلك، تحت أنظار القليل من السياح الأجانب الذين فاجأتهم هذه المشاهد غير التقليدية التي لم يألفوها لجادة معروفة بأناقة متاجرها ومطاعمها.
حقيقة الأمر أن باريس وتحديدا الشانزليزيه كانت «قلب» الحدث الفرنسي طيلة يوم أمس. فالقنوات الإخبارية التلفزيونية والإذاعية ووسائل التواصل الاجتماعي كافة كانت مركزة على ما يحصل فيها من تطورات تعكس مدى الاتصال بين السلطة من جهة وهذه الشرائح من الناس التي نزلت إلى الشوارع ليس فقط للاحتجاج على زيادة الرسوم على المحروقات بحجة تعجيل «النقلة البيئوية» نحو الطاقة النظيفة وإنما أيضا للاحتجاج على تدهور أوضاعها الاجتماعية والمعيشية. ويرى الكثير من المحللين الذين تكاثر ظهورهم على الشاشات هذه الأيام أن ثمة «ظاهرة تراكمية» تشكلت من سياسات أصابت بالدرجة الأولى الطبقتين الوسطى والدنيا ولصالح الفئات الأكثر ارتياحا. وعنوان ذلك كله «غياب العدالة الاجتماعية» التي يرون أنها «غائبة» عن الإصلاحات الحكومية التي كانت باكورتها إلغاء الضريبة على الثروة بحجة حمل أصحاب الثروات للاستثمار في الاقتصاد الفرنسي والمساعدة على إيجاد فرص عمل. بعد ظهر أمس، أطل وزير الداخلية كريستوف كاستانير على شاشات التلفزة ليعطي جملة من الأرقام عن الحركات الاحتجاجية. وبحسب ما قاله، فإن 8 آلاف من السترات الصفراء كانوا متواجدين في شوارع باريس حتى قبيل الظهر وأن المجموع العام على الأراضي الفرنسية لم يتعد الـ23 ألفا وهي أرقام لا تقارن بتلك التي تجمهرت السبت الذي قبله. وخلاصة كاستانير أن الحركة الاحتجاجية إلى تراجع وأن المتسببين في العنف هم مجموعات اليمين المتطرف الذين استجابوا لدعوة مارين لو بان، رئيسة حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف. من خلال كلام وزير الداخلية، يبدو أن الحكومة تريد تحقيق أمرين: الأول، التأكيد على أن الحركة الاحتجاجية لا تحظى بشعبية أو بدعم والدليل على ذلك تراجع الأعداد التي نزلت بالأمس إلى الشوارع ليس فقط في باريس وإنما أيضا في بقية المناطق. والثاني، رمي المسؤولية على اليمين المتطرف وعلى مجموعة من «المخربين». وسارعت مارين لو بان للرد على ذلك نافية أن تكون دعت إلى التجمع في جادة الشانزليزيه أو اللجوء إلى العنف وحتى التظاهر هناك بشكل عام.
هكذا، يجد الرئيس الفرنسي نفسه اليوم في وضعية لم يكن ينتظرها. وحتى اليوم، لم تنفع محاولات الحكومة نزع هذا اللغم الذي يزيد من صعوبات الرئيس والحكومة ويأتي ليمسح الفائدة السياسية والإعلامية التي جناها ماكرون من احتفالات نوفمبر (تشرين الثاني) وتحول باريس ليومين إلى «عاصمة العالم» مع تواجد كبار رؤساء الدول والحكومات فيها. ومشكلة ماكرون اليوم أنه لا يستطيع التراجع عن قراراته السابقة بشأن المحروقات تحت ضغط الشارع الذي لم تعد احتجاجاته مرهونة بها فقط. كذلك ليس بوسع الرئيس الفرنسي أن يستمر في سياسته وكأن شيئا لم يحصل لأنه عندها سيؤكد حكم الكثيرين من أنه «منفصل» عن واقع الشعب. أما الصعوبة الأخرى، فإن هذه الحركة الاحتجاجية غير مرتبطة بحزب أو نقابة وبالتالي ليس ثمة من تستطيع الحكومة التحاور معه كما يحصل عند الإضرابات أو المظاهرات التقليدية. ولذا، فإن الجميع سيترقب ما سيقوله ماكرون يوم الثلاثاء القادم لمعرفة ما إذا كان ذلك سيهدئ من غضب «السترات الصفراء» أم أنه سيفاقمها.
الشانزليزيه «ساحة حرب» بين المتظاهرين والقوى الأمنية
وزير الداخلية يتهم اليمين المتطرف بتأجيج النزاع
الشانزليزيه «ساحة حرب» بين المتظاهرين والقوى الأمنية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة