جاكوب ريس ـ موغ... النسخة البريطانية لـ«جيل الشباب» الشعبوي اليميني في الغرب

كاثوليكي أرستقراطي ثري وابن أحد رموز «عصر فليت ستريت الذهبي»

جاكوب ريس ـ موغ... النسخة البريطانية  لـ«جيل الشباب» الشعبوي اليميني في الغرب
TT

جاكوب ريس ـ موغ... النسخة البريطانية لـ«جيل الشباب» الشعبوي اليميني في الغرب

جاكوب ريس ـ موغ... النسخة البريطانية  لـ«جيل الشباب» الشعبوي اليميني في الغرب

مع أن جاكوب ريس - موغ لا يشغل حالياً أي منصب سياسي باستثناء شغله أحد مقاعد مجلس العموم البريطاني عن حزب المحافظين الحاكم، فإن كثيراً من المتابعين ينظرون إليه على أنه ظاهرة فعالة ومؤثرة في سياسات الحزب، وأحد أقوى زعماء التيار اليميني المتشدد داخل الحزب. وما يزيد في أهمية ريس - موغ أن جرأته في طرح مواقفه المحافظة المتشدّدة، لا سيما في شأن خروج بريطانيا من أسرة الاتحاد الأوروبي وموضوع الهجرة، تضعه ضمن كوكبة من الساسة الأوروبيين الذين خدمتهم الشعبوية السياسية بالتوازي مع فوز دونالد ترمب بانتخابات الرئاسة الأميركية، ونجاح تياره السياسي في فرض مواقفه نفسها على الحزب الجمهوري. الجدير بالذكر أنه كان هناك انطباع في أميركا بأن «المؤسسة الحزبية» التقليدية للجمهوريين يستحيل أن تنقلب على نفسها، وتتبنى ترشيح ملياردير لم يسبق له انتخابه لأي منصب سياسي في البلاد. اليوم، ريس - موغ ينتمي إلى جيل جديد من الساسة اليمينيين الشعبويين، الذين يبرزون باطراد في عدد من دول أوروبا، كما حصل في النمسا وإيطاليا... وقبلهما في المجر، وربما في ألمانيا أيضاً في حال تمكن وزير الصحة ينس شبان من تحسين وضعه الحالي المتخلف في المنافسة المحتدمة على زعامة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي وخلافة المستشارة أنجيلا ميركل.

العلاقة الجدلية بين بريطانيا وأسرة الاتحاد الأوروبي، خصوصاً، وسياسات لندن على المسرح الدولي بصفة عامة، سلّطت الضوء خلال السنوات القليلة الماضية على وجوه سياسية راديكالية وطموحة.
هذه الوجوه برزت على حد سواءً في معسكري اليمين واليسار، ولكن إذا كان القيادي الراديكالي اليساري جيرمي كوربن - وهو أحد الأكبر سناً بينهم - قد نجح في الظفر بزعامة حزب العمال، فإن راديكاليي اليمين أخفقوا حتى الآن في انتزاع زعامة حزب المحافظين. وهذا، مع أنهم ما زالوا ناشطين في معركة نفوذ وتصفية حسابات يخوضونها ضد التيار المعتدل في الحزب الذي جاء منه كل من رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون و«خليفته» رئيسة الوزراء الحالية تيريزا ماي.
الاستفتاء الخاص بخروج بريطانيا كان محطة حاسمة في تاريخ البلاد الحديث، وأسهم بصورة كبيرة في إعادة رسم ملامح المعادلات والمطالب وصراع الهويات والمصالح في البلاد. ومع أن كثيرين رأوا في الكاتب الصحافي ووزير الخارجية السابق بوريس جونسون وزميله الكاتب الصحافي والوزير الحالي مايكل غوف «اللاعبين» الرئيسيين في معسكر اليمين المحافظ المتحمس للخروج من أوروبا، فإن جاكوب ريس - موغ كان الشخصية التي لا يستطيع أحد تجاهلها، على الرغم من مواقفها المثيرة للجدل حتى داخل هذا المعسكر.
على الأقل، كان هذا هو الانطباع قبل بضعة أسابيع. إلا أن ريس - موغ يبدو اليوم ظاهرة من العبث ألا يحسب حسابها، لا سيما مع تزايد تهديد اليمينيين الشعبويين المتشدّدين لهيمنة الأحزاب المحافظة والليبرالية التقليدية في الساحات السياسية في أوروبا خصوصاً، ناهيك بالقارة الأميركية حيث يحكم اليمينيون أكبر دولتين في «العالم الجديد»؛ الولايات المتحدة الأميركية والبرازيل.

بطاقة هوية

ولد جاكوب ويليام ريس - موغ يوم 24 مايو (أيار) 1969 في حي همرسميث بغرب العاصمة البريطانية لندن. أبوه ويليام ريس - موغ رئيس تحرير صحيفة «التايمز» وعضو مجلس اللوردات لاحقاً، وهو من عائلة كاثوليكية ومعروفة بميولها السياسية المحافظة. أما أمه جيليان موريس، فهي ابنة سياسي محافظ سبق له أن كان عمدة حي سانت بانكراس بلندن. جاكوب، هو الابن الرابع للعائلة بين 5 أولاد (3 بنات وولدان)، ووحدها شقيقته أنونزياتا تصغره سناً.
العائلة كانت امتلكت منزلاً ريفياً بمقاطعة سومرست بجنوب غربي إنجلترا عام 1964، وكان جاكوب الصغير جزءاً من ذلك المجتمع الريفي المسيحي المحافظ، يواظب على حضور قداس الأحد. وبعد ذلك انتقلت إلى منزل أكبر في قرية قريبة، ما زال يقيم فيه، مقسماً وقته بينه وبين بيته اللندني. أنهى جاكوب تعليمه المتوسط والثانوي في كلية إيتون، إحدى أعرق مدارس بريطانيا والعالم، ثم التحق بجامعة أكسفورد (كلية ترينيتي) المرموقة حيث درس التاريخ، ونشط في تنظيم الطلبة المحافظين، فاختير رئيساً لرابطة حزب المحافظين في الجامعة. وبعد التخرّج من أكسفورد عام 1991، انطلق جاكوب نحو عالم المال والأعمال الذي كان قد أولع به في سن صغيرة عندما تعرف إلى قيمة المال والاستثمار لأول مرة في سن العاشرة. وكانت محطته الوظيفية الأولى العمل في بنك روتشيلد للاستثمار، ولكنه انتقل عام 1993 إلى شركة لويد جورج ماناجمنت للإدارة المالية في هونغ كونغ. وإبان عمله في هونغ كونغ التقى هناك بحاكمها السابق - قبل إعادتها إلى الصين - كريس باتن، وهو سياسي محافظ بارز سابقاً ونشأت بينهما صداقة. ثم في عام 2003، عاد إلى لندن للعمل في قسم الأسواق الناشئة في الشركة، وظل يعمل فيه حتى عام 2007 عندما انتقل مع بعض زملائه لتأسيس شركة إدارة مالية خاصة بهم أطلقوا عليها اسم سومرست كابيتال ماناجمنت. وراهناً تقدر ثروته الشخصية - مع زوجته - ما بين 50 و150 مليون جنيه إسترليني.

دخول عالم السياسة

في عام 1997 خطا جاكوب ريس - موغ، في سن السادسة العشرين، خطواته الأولى في عالم السياسة عندما رشّحه حزب المحافظين للمنافسة على مقعد في دائرة سنترال فايف، باسكوتلندا، وهي دائرة من الحصون المضمونة لحزب العمال. وكما كان متوقعاً سقط في تلك الانتخابات التي حقق فيها حزب العمال انتصاراً انتخابياً كاسحاً على مستوى البلاد كلها، وحمل زعيمه توني بلير إلى منصب رئاسة الحكومة... منهياً 18 سنة من حكم المحافظين بلا انقطاع.
وكانت المحاولة الثانية لدخول البرلمان في الانتخابات العامة التالية عام 2001، وهذه المرة رشحه حزبه في دائرة ذي ريكن، بغرب وسط إنجلترا قرب حدود ويلز، غير أنه خسر مجدداً أمام نائب الدائرة العمالي بيتر برادلي. لكن هذه الهزيمة لم تفت في عضده، بل نجح في أن يصبح بين عامي 2005 و2008 رئيس رابطة حزب المحافظين في لندن وويستمنستر.

عضوية البرلمان

وأخيراً، بعد المحاولتين الفاشلتين، ضمن ريس - موغ ترشيح حزبه له في دائرة مضمونة للمحافظين، بجانب كونها في مقاطعة سومرست حيث بيته الريفي. وبالفعل في عام 2010 خاض وربح معركة المقعد النيابي لدائرة شمال شرقي سومرست. واحتفظ بالمقعد في انتخابات عامي 2015 و2017.
آيديولوجياً. وكما سبقت الإشارة، يعتبر ريس - موغ في أقصى يمين حزب المحافظين، وهو عضو في جماعة «كورنرستون غروب» الحزبية ذات التوجهات التقليدية المتشددة قومياً واليمينية المحافظة اقتصادياً.
وهذا الموقع الآيديولوجي الصريح جعله أحد الساسة المحافظين الأكثر تمرداً على النهج التوافقي المعتدل لرئيس الوزراء المحافظ السابق ديفيد كاميرون، والأكثر إزعاجاً له. ولقد عارض حكومة كاميرون في عدد من سياساتها من زواج المثليين إلى التدخل العسكري في سوريا. كذلك عرف عنه إتقانه تعمد الإرباك وإضاعة الوقت بالخطب الطويلة والمداخلات اللجوجة، واللماحة والظريفة غالباً.
في موضوع خروج بريطانيا من أسرة الاتحاد الأوروبي، كان ريس - موغ ليس فقط من كبار مؤيدي الخروج، بل والتحالف من أجل هذا الهدف مع «حزب استقلال المملكة المتحدة» الذي جعل مغادرة أوروبا محور وجوده.
وفي هذا السياق، يجدر التذكير بأن كاميرون كان من دعاة البقاء داخل أسرة الاتحاد، لكنه في ضوء ارتفاع شعبية «حزب استقلال المملكة المتحدة» في استطلاعات الرأي، وخشيته من التسبب بشق حزب المحافظين، تعهد بإجراء استفتاء شعبي على الخروج... مع أنه كان مضطراً لذلك. وكانت، النتيجة أن تيار الخروج ربح الجولة، فاستقال كاميرون، وورثت رئيسة الوزراء الحالية تيريزا ماي الأزمة بكل تعقيداتها وتداعياتها.
جاكوب ريس - موغ لم يكتفِ في ذلك الاستفتاء الذي أجري عام 2016 بأن شارك بحماسة وانتظام في الحملات الشعبية - رغم مظهره النخبوي وتصرفاته الأرستقراطية - في الشارع والميادين العامة، بل انضم لاحقاً إلى جماعة الضغط المتشددة التي أطلقت على نفسها اسم «الخروج يعني الخروج»، وأيضاً «المجموعة الأوروبية للأبحاث» المناصرة للخروج والمناوئة للتكامل الأوروبي.
وبما يخص ميوله القومية المتشددة، تشير الصحافة البريطانية إلى مناسبات كثيرة صدرت فيها عن ريس - موغ مواقف مثيرة للجدل، كما صدرت عنه تصريحات تدل على نمط تفكيره «الرجعي» الذي يقلق كثيرين من الليبراليين واليساريين، بل حتى المحافظين المعتدلين. ومنها، على سبيل المثال، أنه انتقد ديفيد كاميرون، عندما كان كاميرون زعيماً لحزب المحافظين، لأنه كان يسعى إلى زيادة لرفع نسبة الأقليات العرقية في قوائم ترشيحات الحزب للانتخابات، وكانت حجة ريس - موغ أن اعتماد حصة ثابتة للأقليات العرقية «سيعقد اختيار المرشحين الأكثر أهلية من الناحية الفكرية والثقافية»، وأن «95 في المائة من البريطانيين من البيض، ولا يجوز أن تختلف تركيبة قوائم المرشحين عن حقيقة نسيج البلاد ككل».
أيضاً في مايو 2013، شارك وألقى خطاباً في حفل العشاء السنوي لـ«مجموعة بريطانيا التقليدية» اليمينية المتطرفة التي تدعو إلى إعادة غير البيض من البريطانيين إلى بلدانهم الأصلية. واللافت أنه بعد ذلك العشاء، قال إنه على الرغم من تلقيه معلومات عن توجهات «المجموعة» وأفكارها قبل أن يشارك، فإنه شارك لكنه «ليس عضواً فيها وليس مؤيداً لها».

بعد استقالة كاميرون

نتيجة استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي التي أدت إلى استقالة كاميرون، فتحت الباب على مصراعيه أمام التيار الحزبي المناوئ لأوروبا كي يستقوي بذريعة «الخيار الديمقراطي» لتسريع إنجاز الخروج. ولدى فتح باب التنافس لخلافة كاميرون على زعامة الحزب، وبالتالي، رئاسة الحكومة، أعلن جاكوب ريس - موغ في البداية تأييده ترشيح وزير الخارجية السابق بوريس جونسون، ولكن عندما اختار جونسون أن يعزف عن الترشح حوّل تأييده لمرشح آخر من معسكر «الخروج» هو مايكل غوف. ثم، عندما خرج غوف من حلبة المنافسة، أيد الوزيرة آندريا ليدسون (من المعسكر نفسه) وكانت المنافسة الأخيرة لتيريزا ماي، قبل أن تقرر بدورها الانسحاب أمام ماي.
غير أن صعود ريس - موغ داخلياً في بريطانيا، يستحق أن ينظر إليه في سياق آخر، يتصل بالمتغيرات الدولية.
وكلها حتى اللحظة تسير لمصلحة صعوده السياسي. إذ إنه يبرز بين المرشحين المستقبليين لزعامة حزب المحافظين في الفترة التي ترتفع فيها أسهم اليمين الشعبوي في أماكن كثيرة من أوروبا، وكذلك في الولايات المتحدة.
وحقاً، عرف عن جاكوب ريس - موغ أنه لفترة ما في عام 2016 كان مناصراً لدونالد ترمب، مع أنه حاول النأي عنه لاحقاً. ثم، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 التقى ستيف بانون، المخطط الاستراتيجي السابق في البيت الأبيض كي يبحث معه إمكانات التعاون بين جماعات اليمين في بريطانيا وأميركا وفرص نجاح تعاونها.
كل هذا، يوحي بأن ريس - موغ «مشروع زعيم» جديد لحزب المحافظين البريطاني، مع أن ترشحه، ومن ثم فوزه، بسبب عداوة خصومه له، قد يهدد وحدة الحزب... أو على الأقل رقعة جذبه المطلوبة لفوزه في الانتخابات، وتولي الحكم.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.