«الشرق الأوسط» في مهرجان «القاهرة السينمائي الدولي» (4): أفلام عن المرأة وحقوقها في زمننا

سعودي ومصري ومغربي

أحد مشاهد فيلم «لعزيزة» (المغرب)
أحد مشاهد فيلم «لعزيزة» (المغرب)
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان «القاهرة السينمائي الدولي» (4): أفلام عن المرأة وحقوقها في زمننا

أحد مشاهد فيلم «لعزيزة» (المغرب)
أحد مشاهد فيلم «لعزيزة» (المغرب)

ليس من الصعب إيجاد نظم جديدة مع انتقال مهرجان القاهرة السينمائي إلى إدارة جديدة، لكن من الصعب تطبيق تلك النظم. السبب في أن المهرجانات الغربية تقدّس الوقت عموماً ولا يمكن لعرض ما أن يتأخر أكثر من خمس دقائق إذا ما فعل، يعود إلى أن النظام ومراعاة الوقت هما في أسس التربية والسلوك الاجتماعي.
في الحادي والعشرين من الشهر اختفى فيلم سويدي منتظر بعنوان «حدود» (Border) من عروض المهرجان كلياً من دون سبب معروف. ففي وقت العرض، أو قبله بدقائق، قُدم اعتذار شفهي للحاضرين يعلن أن الفيلم لن يعرض فخرج هؤلاء وفي أيديهم تذاكرهم وساعتان مهدرتان كانوا يستطيعون قضاءها في مشاهدة فيلم آخر لو أرادوا.
كذلك حدث مساء أول من أمس حيث تأخر عرض فيلم آخر لنحو ثلاثة أرباع الساعة. هذه المرّة كان هناك تبرير قدّمه نائب المدير الفني، الناقد أحمد شوقي، مفاده، على ذمة من حضر، أن ضيوف الفيلم وصلوا متأخرين.
- فيلم سعودي خالص
إذا ما كانت الحالة الأولى عارضة، ومن غير المنتظر أن تقع مجدداً، فإن الحالة الثانية يجب ألا تُقبل. الحق هنا على الضيوف الذين يدركون أنهم مطلوبون في وقت محدد للصعود إلى المنصة وتقديم الفيلم، ورغم ذلك يأخذون وقتهم، وفي الطريق وقت غيرهم، غير عابئين بالوقت الذي لا بد من احترامه.
بعضهم يتعمد ذلك ليزيد من جرعة الاعتزاز الكاذب بالنفس، لكن مهما كان التبرير فإن النتيجة وخيمة على المهرجان والجمهور على حد سواء. الطريقة الوحيدة الناجعة (طالما أن هذا حدث سابقاً وسيتكرر لاحقاً) هي إعلام فريق الفيلم أن أقصى تأخير ممكن هو خمس دقائق بعدها ستبدأ عروض الفيلم بهم أو من دونهم.
مرتان أو ثلاثة مرات من هذا التطبيق وسنرى الممثلين والممثلات والمخرج والمنتج حاضرين في المواعيد المحددة لهم لرغبتهم في الظهور وتقديم الفيلم. هذا مع العلم أن عدم ظهور معظمهم هو أفضل من ظهوره.
ليس هناك أفضل من أن يبدأ الفيلم عروضه في الوقت المحدد ومن دون تقديم نجومه وصانعيه إلا من باب التأكيد على أن هناك لقاءً صحافياً في الصالة ذاتها لمن يرغب.
في أفضل الأحوال يمكن للمخرج وحده أن يصعد ويقدّم الفيلم ويعلن، باختصار، ما يريد. وهذا ما فعله المخرج السعودي محمود صباغ عندما قدّم فيلمه الجديد «عمرة والعرس الثاني» في عرضه العالمي الثاني مباشرة بعد تقديمه في مهرجان لندن السينمائي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
قام محمود صبّاغ بتقديم الفيلم بإيجاز وشكر حضور الدبلوماسيين السعوديين، في مقدمتهم سفير المملكة في القاهرة، من دون أن يشغل كل ذلك إلا قدراً محدوداً جداً من وقت المشاهدين. لكن ما استوقف الناقد هو عبارة المخرج التي أكد فيها على أن المخرج يصر على «الفيلم السعودي الخالص». وأضاف أن كلمة «الخالص» كلمة خطرة لأنها صعبة التطبيق.
ليس فقط أن الفيلم بكامل تمويله سعودي، وهو أمر مهم جداً، بل كذلك فإن حكايته هي من جذور المجتمع السعودي، على الرغم من أننا، خلال عرض الفيلم، نلاحظ بعد التغريب صوب وجه لم نتعرّف عليه في السينما السعودية السابقة.
«عمرة والعرس الثاني» دراما عن المرأة التي أنجبت إناثاً فقط، وبذلك اعتبر الزوج (وأمه) نفسه طليق اليد لاختيار عروس ثانية تنجب له ذكراً. في المفهوم بأسره خطأ بياني واضح، والمخرج يورده من خلال موقفه المتعاطف مع تبعات ذلك القرار على عمرة (كما تقوم بالدور جيداً شيماء الطيّب) أن تسعى لتغيير موقف زوجها إن استطاعت. لا تستطيع أن تجذبه غرامياً ولا أن تتحدث وإياه لعله يفكر ثانية فيما سيقدم عليه، وكل ما تستطيعه هو التوجه إلى من يكتب لها استخارات غير مجدية.
على عكس فيلمه الأول «بركة يقابل بركة»، يختار محمود صباغ معالجة الفكرة على نحو جاد. المأزق الاجتماعي المتبلور إلى معاناة تعايشها المرأة في مجتمع ما زال يستند إلى تقاليده أساساً، ليس معروضاً لغاية التفكه بل لتأطير المشكلة من دون خطب أو دعوات مباشرة. هذا القرار الشجاع كان يحتاج إلى بطانة فنية ذات قدر أعلى من التأثير. في الكثير من المعالجة يكمن حس العمل التلفزيوني (كما يتبدّى، مثلاً، في أداء شخصية أم الزوج). ليس لأن الفيلم شبيه بدراما يمكن التقاطها على شاشات التلفزة، بل لأنها تناسب الجمهور العائلي وتختار - كما كان حال الفيلم السابق للمخرج - وسيلة تواصل مباشرة مع القاعدة العريضة في الوقت الذي كانت فيه هناك فسحة لإضفاء مسحات جمالية وفنية ولو محدودة.
قضية المرأة في الأفلام السعودية قضية أساسية تتماشى والخطط التي بدأت لتفعيل دورها في المجتمع على نحو متكامل وشامل. يعرف المخرج صبّاغ أن الطريق طويل، لكنه في فيلميه حتى الآن أمّه باستقلالية تفكير وبمنهج مدروس الهدف وراءه ليس نقد الوضع القائم (أو غيابه) بل تجاوز مسألة النقد إلى العرض وترك الحكاية وشخصياتها تعكس كل ما يستطيع الفيلم عكسه من وقائع. في نهاية «عمرة والعرس الثاني» يواجه المشاهد السعودي وضعاً لا يمكن التغاضي عنه، فالفيلم لم يكن كوميدياً ليضحك فيه ولا تراجيديا ليبكي فيه أو يتأثر، بل حديث عريض عن الأم وأمها وبناتها وزوجها والجار والزوج وأمه، كل على النحو الذي يتمحور حول تلك المرأة (عمرة) التي لا يمكن إلا التعاطف معها والشعور بأزمتها العاطفية والإنسانية.
وعلى عكس ما تردد في السنوات الأخيرة، فإن السينما في السعودية لم تبدأ مع هيفاء المنصور عندما قامت، قبل سنوات قليلة، بتحقيق فيلمها الأول «وجدة». على أهمية ذلك الفيلم كونه إسهاماً كبيراً في دفع تلك السينما إلى الأمام، كان عبد الله المحيسن أول من سعى لإنجاز أفلام تحمل الراية السعودية. ما لم يستطع فعله هو تصوير أفلامه تلك (خلال الثمانينات والتسعينات) في المملكة فأنجزها في سواها. لكنها ما زالت تنتمي إلى الوطن السعودي لأسباب تمويلية (أنتج أفلامه بنفسه) وبسبب هوية مخرجها.
بعده وردت أفلام سعودية قصيرة (غالباً) وطويلة (في بعض المرّات)، لكن كل شيء يتغير الآن صوب الرغبة في تشييد الصرح، سواء عبر مؤسسة حكومية (Saudi Film Council) أو عبر إنتاجات مستقلة كتلك التي يعمد إليها محمود صباغ بنجاح حتى الآن.
- زهرة وعزيزة
قضايا المرأة تختلف من بلد لآخر. فما تعانيه بطلة فيلم «لعزيزة» المغربي يختلف عما تعانيه بطلة «عمرة والعرس الثاني»، وما في «صوفيا» (المغرب أيضاً) مختلف عن «زهرة الصبار» (مصري)، ليس فقط لاختلاف الحكايات الطبيعي، بل لاختلاف أوجه المشكلات التي تتعرض لها المرأة في مجتمعاتنا.
«زهرة الصبّار» المعروض بين أعمال هذا المهرجان ينتمي إلى تلك الباقة الحديثة من الأفلام التي تصوّر حال المرأة المصرية اليوم. اجتماعياً لديها حقوق عادلة، ولكن عليها تبعات ومسؤوليات ترزح تحتها. هذا كان حال فيلم محمد حمّاد «أخضر يابس»، فبطلة «زهرة الصبار» لهالة القوصي تعايش الوضع الذي يعيش فيه الناس لحل مشكلاتهم الآنية وحدها. هناك حكاية الشقيقة الكبرى التي تذبل من دون عريس أو مستقبل واعد، وهنا، في «زهرة الصبّار» مشكلة من شقين: الأول لفتاة شابة لا تملك سبيلاً لتحقيق طموحاتها، وامرأة كبيرة في السن خسرت في زمنها تلك الأحلام وتلجأ اليوم إلى ذكرياتها.
ينطلق الفيلم من تقديم عايدة وهي تمثل إعلاناً إذاعياً. تعود منه إلى البيت ويدلف بنا الفيلم منذ تلك اللحظة إلى المشكلات المحيطة. جارتها العجوز (منحة البطراوي) التي لم تدفع إيجار سكنها منذ عدة أشهر. معهما الشاب أحمد (مروان العزب) الذي يتبرع، كإنسان شهم، بمساعدتهما ما ينتج عنه إيواؤهما لدى ذلك الشاب الذي نال ظنون جيرانه على ذلك. بين محاولة عايدة التقدم في مجال التمثيل، ومحاولتها الإبقاء على عملها غير الثابت، تمررها المخرجة على شخصيتين رجاليتين ارتبطت معهما بعلاقة سابقة. الأول كاتب شاب يتحاشى الارتباط، والثاني (زكي عبد الوهاب) كاتب مخضرم هي التي تحاشت ذات يوم الارتباط به باحثة عن تحقيق أحلامها، التي أدت بها أيضاً إلى هجرة أمها. الآن، ها هي، ومعها صديقتها الأكبر سناً، تقصد منزل أمها الريفي، وتجد المخرجة هناك فسحة من الوقت لتوسيع رقعة اهتماماتها بإضافة وضع الأم وعلاقتها المتوترة بابنتها، لتخلص المخرجة إلى مشهد تلتقط فيه كاميرا علوية للنساء الثلاث مستلقيات على الحشيش الأخضر في مشهد رومانسي آخر من مشاهدها.
في «زهرة الصبار» نجد تلك العيون المستطلعة والعقول المرتابة والأنفس المتسائلة. عايدة (سلمى سامي) تقصد منزل صديق لها. قبل وصولها للعمارة التي يسكن فيها يستوقفها رجل يسألها عن سبب خروجها ليلاً ومن تكون. في مشهد آخر تمشي في طريقها فتجد امرأة لا تعرفها ميتة في مقعدها. رجلان يتقدمان يسألانها عن علاقتها بالميتة. في ثالث، جيران أحد الساكنين الذي استقبل عايدة والمرأة العجوز التي خسرت كذلك شقتها وشاباً من الحارة، في ليلة سابقة، لكي يأووا لديه لليلة، يهيجون مرتابين في تصرفات الساكن يريدون معرفة ما الذي كان هؤلاء يفعلونه في منزله.
كل هذا يضع على الفيلم أمارات دائمة مثل الوجه المطلي بعلامات الحزن والحسرة. ولذلك فإن المشاهد الخيالية التي تستعين بها المخرجة أحياناً، مثل مشهد الاستحمام في بحيرة ماء صافية، تتجلى كتطلعات إنسانية - رومانسية للحرية بمفهومها الأعمق مما لو لجأت إلى الرد على كل حالة بموقف ما.
«زهرة الصبّار» مُحاك جيداً كفكرة جديدة التناول لا من حيث مفارقاتها فحسب، بل من خلال أماكن حدوثها غير المستهلكة على العين. أحياناً ما تتحرك الكاميرا على نحو لا طائل فعلي (أو فني) منه مثل المشهد التي تلتقي فيه عايدة بصديقة محجبة تزوّجت للمال وصار لديها سيارة وسائق. الكاميرا تنحرف يميناً لتلقط الصديقة ويساراً لتلتقط عايدة أكثر من مرّة. مع «فلاش باك» كان يمكن إلغاؤه لأن الرسالة التي يتضمنها (الصديقة كانت منفتحة وذات علاقات متحررة) كان يمكن تمريرها بطريقة أخرى.
لفيلم «لعزيزة» («العزيزة») لمحسن البصري هم مختلف، ولو أن المشكلة ما زالت نسائية. هنا يهاجر الزوج بيت الزوجية بينما كانت الأم حاملاً. ثم تنجب ابناً والابن يكبر ويدخل المدرسة. كل شيء يبدو شبه مستقر إلى أن يظهر الأب مجدداً مطالباً باستعادة ابنه. الدوامة كبيرة والنهاية تمنح الأم القدرة على الاختيار الصعب. المخرج المغربي في فيلمه الثاني يوفر معالجة هادئة لموضوع ساخن وينجح في توفير كل عناصر موضوعه بالتأني ذاته.
ما يُثير الانتباه أن أساليب اختيار المخرجين تختلف حسب اختلاف الجغرافيا. «لعزيزة» لديه أسلوبه المتشرب بتأثيرات السينما المغاربية - الفرنسية. «زهرة الصبّار» مصري الحكاية وعناصر السرد الدرامي المختلفة و«عمرة بن عمرة» يستند إلى بطانته السعودية كاملة. هذا الاختلاف ثقافي بالدرجة الأولى ولو أن الأعمال الثلاثة تطرح قضايا تمس المرأة أساساً. لجانبها، هناك أفلام تمس الرجل أيضاً، الذي مر «عيده» المبتكر قبل يومين من بداية المهرجان. البعض صار يطالب له بالحقوق والمساواة، لكن الثابت أن عليه حقوقاً لم يسددها بعد بدوره.


مقالات ذات صلة

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق محمد سعد في العرض الخاص لفيلم «الدشاش» (الشركة المنتجة للفيلم)

هل استعاد محمد سعد «توازنه» بفضل «الدشاش»؟

حقق فيلم «الدشاش» للفنان المصري محمد سعد الإيرادات اليومية لشباك التذاكر المصري منذ طرحه بدور العرض.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق تماثيل وقوالب من الفخار مصنوعة قبل الميلاد (مكتبة الإسكندرية)

«صناعة الفخار»... وثائقي مصري يستدعي حرفة من زمن الفراعنة

يستدعي الفيلم الوثائقي «حرفة الفخار» تاريخ هذه الصناعة التي تحمل طابعاً فنياً في بعض جوانبها، على مدى التاريخ المصري القديم، منذ أيام الفراعنة.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق لقطة من الفيلم تجمع «شاهيناز» وأولادها (الشركة المنتجة)

«المستريحة»... فيلم مصري يتناول النصّابين يمزج الكوميديا بالإثارة

تصدَّرت مجسّمات دعائية للأبطال دار العرض عبر لقطات من الفيلم تُعبّر عنهم، فظهرت ليلى علوي في مجسّم خشبيّ جالسةً على حافة حوض استحمام مليء بالدولارات.

انتصار دردير (القاهرة )

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».