الحلقة الأولى: الطائفية والقومية.. تعصب دفع العالم إلى الهاوية

في ذكراها المئوية.. {الشرق الأوسط} تفتح ملف الحرب العالمية الأولى

وليام الثاني آخر امبراطور ألماني (يمين) مع امبراطور روسيا نيكولاس الثاني في صورة تعود إلى عام 1913
وليام الثاني آخر امبراطور ألماني (يمين) مع امبراطور روسيا نيكولاس الثاني في صورة تعود إلى عام 1913
TT

الحلقة الأولى: الطائفية والقومية.. تعصب دفع العالم إلى الهاوية

وليام الثاني آخر امبراطور ألماني (يمين) مع امبراطور روسيا نيكولاس الثاني في صورة تعود إلى عام 1913
وليام الثاني آخر امبراطور ألماني (يمين) مع امبراطور روسيا نيكولاس الثاني في صورة تعود إلى عام 1913

في مثل هذا اليوم، قبل قرن من الزمن، أعلنت الإمبراطورية النمساوية - المجرية الحرب على صربيا، لتنطلق سلسلة أحداث أدخلت العالم في الحرب العالمية الأولى
وحددت ملامح القرن العشرين.
جاء إعلان الحرب على صربيا بعد شهر من اغتيال ولي عهد النمسا والمجر الأمير فرانز فرديناند في ولاية سراييفو في 28 يونيو (حزيران) 1914، لتمتد وتتسع كنار شرسة حصدت الملايين من الأرواح وغيرت خريطة العالم وتوازن القوى فيها. وجاء إعلان السلام بتوقيع معاهدة فرساي في 28 يونيو 1919، بعد خمس سنوات تماما من انطلاق الشرارة الأولى. ومع التطورات السياسية الخطيرة التي يشهدها العالم اليوم لا بد من العودة إلى الوراء والنظر في تفاصيل الحرب التي انعكست على ما نعيشه اليوم.
و«الشرق الأوسط» ترصد من خلال حلقات تنشر عبر الأيام المقبلة مجريات تلك الأحداث وتداعياتها في إعادة رسم خرائط قارات عدة.

كانت تلك أول حرب تشارك فيها عدة دول على مستوى العالم في التاريخ، إذ شهدت أوروبا اندلاع ما غدا بعد سنوات قليلة حربا عالمية بمشاركة دول كبرى خارج القارة، بينها الولايات المتحدة الأميركية واليابان.
وكان الأثر الأبلغ هو إعادة رسم خرائط أوروبا وولادة دول جديدة فيها على أنقاض إمبراطوريات قوية، كذلك في الشرقين الأدنى والأوسط وشمال أفريقيا، حيث أفلت شمس الدولة - أو السلطنة - العثمانية التي ضمت تحت لوائها منذ القرن الميلادي السادس عشر معظم ما هي اليوم دول عربية مستقلة.
هذا على الصعيد الجغرافي، لكن العواقب على الصعيدين السياسي والآيديولوجي ما كانت أقل أهمية، إذ قبل أن تضع الحرب أوزارها أسقطت الثورة الشيوعية الحكم القيصري في روسيا، وقامت دولة «الاتحاد السوفياتي» السابق بقيادة فلاديمير لينين. وزرعت الهزيمة الألمانية مرارة قومية تبلوَرت بعد عقدين من الزمن بالحركة القومية الاجتماعية (النازية) بزعامة أدولف هتلر بالتوازي مع الحركة الفاشية في إيطاليا. أما في تركيا وآسيا فحملت نهاية الحرب خفق رايات القومية التركية «الأتاتوركية»، بينما كانت أحلام «القومية العربية» في وجه نهج «التتريك» الذي اتبعه «الإصلاحيون» الأتراك من «لجنة الاتحاد والترقي» عنصرا فاعلا في تفجر ما عُرف بـ«الثورة العربية الكبرى» على الحكم العثماني المستند إلى «شرعية» الخلافة. وفي الحلقة الأولى، تستعرض «الشرق الأوسط» دور دول محورية في الحرب العالمية الأولى، وهي صربيا، وألمانيا وروسيا.
من المعروف أن اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند، ولي عهد النمسا، في العاصمة البوسنية سراييفو، على يد مجموعة مسلحة من الشبان البوسنيين الصرب أشهرهم غافريلو برنسيب، ومعهم شاب مسلم اسمه محمد باشيتش، كان «الصاعق» أو العامل المسهّل لاندلاع حرب كانت الدوافع إليها تعتمل قبل بعض الوقت.
ولقد أدى الاغتيال في سراييفو على أيدي مجموعة حرّكتها الاستخبارات العسكرية الصربية إلى توجيه الإمبراطورية النمساوية - المجرية تهديدا لصربيا، ووقوف ألمانيا مع النمساويين، مقابل وقوف روسيا مع الصرب مدعومة من فرنسا. ولقد أيد الدولة العثمانية محور النمسا وألمانيا، وانضمت بريطانيا لصف فرنسا وروسيا بعد تهديد الألمان حياد بلجيكا. وانتهت تلك الحرب بهزيمة ألمانيا وحلفائها. وشهدت أيضا ولادة النظام الشيوعي في روسيا، وانهيار الدولة العثمانية ووقوع ولاياتها وأقاليمها، ومنها أراضي معظم الدول العربية الحالية، تحت انتداب القوى الأوروبية المنتدبة.

* النمسا
* لم يكن اندلاع الحرب العالمية الأولى حزنا على الأرشيدوق فرانز فرديناند (ولي عهد النمسا)، أو انتقاما له. فهو ما كان محبوبا في بلده، وحتى محبوبا من عمه الإمبراطور العجوز فرانز جوزيف، وذلك لأمور تداخلت في ظروف توليته منصبه بعد حادث غامض - معروف تاريخيا باسم «حادث مايرلينغ» - أدى لوفاة ابن الإمبراطور وولي عهده، تلاه موت أخي الإمبراطور بعد تعيينه وليا للعهد.. وهكذا وصل المنصب إلى ابنه فرانز فرديناند. ولقد تزوّج الأخير من نبيلة تشيكية لا تنتمي إلى مقام ملكي يؤهلها للاقتران بسليل أسرة هابسبورغ الإمبراطورية.
غير أن اغتيال الأرشيدوق بمدينة سراييفو، الذي تورّطت في إعداده أجهزة استخباراتية عسكرية صربية، كان فرصة لتصفية حسابات مستحقة بنظر النمساويين للإجهاز على جارة مقلقة تاريخيا كانت بؤرة لإثارة الأقليات. ولئن كانت الحروب آنذاك ترعب الناس العاديين فإن الحكومات الأوروبية كانت تعتبرها جزءا مهما للتوصّل إلى حلول وتحقيق غايات سياسية معلّقة. ويمكن اعتبار عواقب ما حدث في سراييفو ليست حربا فجّرها حادث اغتيال، بل كانت أشبه بحَمْلٍ مصيره الإجهاض الذي ارتكبه النمساويون بدعم ألماني.
لقد كانت الأجواء مواتية للانفجار عام 1914، بعد حربين محليتين عامي 1912 و1913. غير أن جريمة الاغتيال عجّلت في تحقيق ذلك ولكن من دون أن تقتصر على صربيا والنمسا. كذلك أجّجت الوضع مقالات الصحف الصربية التي أثنت على جريمة الاغتيال التي نفّذتها خلية بوسنية صربية أطلق عليها اسم «اليد السوداء» أعضاؤها فتيان لم يبلغوا سن العشرين، كانت تحرّكها الاستخبارات العسكرية الصربية. ولما طالبت النمسا بإجرائها التحقيق داخل صربيا رفضت الأخيرة بحجة أن ذلك يشكّل انتهاكا لسيادتها، وأيّدتها روسيا في ذلك بقوة، مقابل وقوف ألمانيا مع النمسا لتتحول المواجهة إلى تصادم بين الروس والألمان.. وكأن ذلك ما كان مطلوبا ومخططا له منذ حين نتيجة لشكوك وديون استحقّ موعدها.
أما بالنسبة للدولة العثمانية فإنها كانت قد لقّبت منذ منتصف القرن التاسع عشر بـ«رجل أوروبا المريض» عندما تراجع شأنها ووصلت إلى حالة متدنية من الضعف والانحدار. وأدى هذا الانحدار إلى حدوث فراغ بالبلقان سرعان ما ملأت معظمه إمبراطورية فتية ذات عرقية جرمانية تحت حكم أسرة هابسبورغ هي الإمبراطورية النمساوية المجرية. ولقد ورثت هذه الإمبراطورية مخلفات العثمانيين أرضا وشعوبا من القوميات أبرزها القومية السلافية (الصرب والكروات والبوسنيّون) ناقلة مشاكلهم معها لأنها بدورها كانت تضم 50 مليون نسمة لـ11 جنسية تمتد من حدود تركيا عبر وسط أوروبا وصولا إلى بولندا.
هذا الواقع فرض على الإمبراطور النمساوي أن يشبك مصالح ومشاكل أسرته الحاكمة مع ألمانيا من منطلقات قوميّة عرقيّة في وجه بناء روسيا وتعزيزها نفوذها القيصري على إنهاض القومية السلافية وقيادة الشعوب السلافية. وهذا الأمر جعل الإمبراطور الألماني لا يفوّت مناسبة تمر من دون التنديد والشجب والتحذير من تلك الحركة ورعاية روسيا لها نكاية للشعور الجرماني، الذي هو «قطب رحى» القيادة الألمانية، وتحد له. وما يؤيد هذا الادعاء قول فيلهلم الثاني للسفير السويسري في برلين يوم 10 ديسمبر (كانون الأول) 1912، تعقيبا على حرب البلقان الأولى في ذلك العام «نحن لن نترك النمسا في معاناتها، فإن لم تنفع الدبلوماسية سنشن حربا ضد ذلك العنصر (أي السلاف)».
والحال أن معظم العسكريين النمساويين ما كانوا مهتمين باحتمال أن يثير ما رأوه «حربا محدودة» على صربيا.. الدب الروسي. لكن الإقدام على أمر من هذا القبيل كان لا مفر منه لكي يتسنى للنمساويين القضاء الكامل على التهديد الصربي ومن ثم التهديد القومي السلافي (Pan-Slav threat). وهذا ما يتوافق مع ما كتبه الجنرال فولفغانغ هيلر، أحد كبار قادة هيئة أركان الجيش النمساوي، في يومياته يوم 24 يوليو (تموز)، (الواردة في كتاب «كارثة 1913: أوروبا تذهب إلى الحرب» للمؤلف والصحافي البريطاني ماكس هايستنيغز، ص 45)، إذ كتب «لن يتحقق النجاح الكامل ما لم تطبق (خطة الحرب على روسيا) التي تقضي بتفتيت صربيا والجبل الأسود كمملكتين مستقلتين، وبعدها تكون نهاية القضية السلافية. إن الحرب على صربيا يجب أن يليها مسحها عن الخريطة، وأي شيء غير هذا عديم القيمة، وخسارة لكل رصاصة تطلق».

* ألمانيا
* كانت ألمانيا عام 1914 دولة عسكرية أوتوقراطية يحكمها إمبراطور – أو قيصر Kaiser – يحلم بتوسيع حدودها العسكرية لتهيمن على أوروبا بأسرها، بما فيها روسيا، بل وتتعداها لبسط نفوذها على الدولة العثمانية المترامية الأطراف عبر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ناهيك عن مستعمراتها في أفريقيا.
وعلى الرغم من تفوّق ألمانيا صناعيا على كل قوى أوروبا، فإن هذا ما كان يعني الكثير للإمبراطور فيلهلم الثاني وجنرالاته. فهم كانوا يؤمنون بأن السيطرة أو الهيمنة تستوجب إعداد جيش قوي وبناء روح عسكرية تطغى على تفكير شعبها بدافع من الشعور بالتفوق العرقي والقومي التيوتوني – الجرماني القائم على بقايا أفكار «رجل ألمانيا الحديدي» أوتو فون بسمارك (1815 – 1898).. المؤسس الحقيقي للإمبراطورية الألمانية الجديدة وعمودها الفقري بروسيا (Prussia). كما أن نظرة الشك والريبة نحو روسيا، التي انتهجت سياسة تسليح سريع، بلغت حد الاقتناع بأن الروس سيقطفون ثماره بحلول عام 1916 ليخلق لهم حالة منافسة خطرة.
وكانت خطة رئيس الأركان السابق الماريشال ألفريد غراف فون شليفن (الكونت شليفن) المُعدّة منذ عام 1906 تقضي بشن هجوم ساحق على روسيا وفرنسا في آن واحد. وهذه كانت أيضا نظرة رئيس الأركان يومذاك المارشال هيلموت فون مولتكه «الأصغر» منذ عام 1912، حين اتفق رأيه ورأي الإمبراطور فيلهلم على أن الحرب السريعة هي الحل الأمثل في أوروبا.
في حينه كانت بريطانيا خارج حسابات الإمبراطور وفون مولتكه الحربية، لأن جيشها لم يكن بضخامة الجيشين الروسي والفرنسي، متجاهلين قوّتها البحرية. وبعد جريمة اغتيال الأرشيدوق في سراييفو كتب الإمبراطور النمساوي فرانز جوزيف إلى الإمبراطور فيلهلم، وجاء في رسالته التي سلمها الكونت ألكسندر هويوس قوله «أعتقد أنك مقتنع بعد هذه الحادثة المفجعة في البوسنة بأنه ما عاد من الممكن التفكير بالتغاضي عن صربيا أو التصالح معها». ولقد اجتمع الكونت هويوس يوم 4 يوليو بالإمبراطور الألماني ومستشاريه، وتلقى من الإمبراطور وعدا بإسناد ألماني مفتوح وغير مشروط لأي قرار تتخذه النمسا، وعرف هذا التعهد لاحقا بمسمى «الشيك المفتوح»، وهو البند الأول أو الموقف الرئيس الذي يدين ألمانيا بإشعال الحرب.
كذلك أكد الإمبراطور هذا الموقف للمبعوث النمساوي مساء 5 يوليو، عندما قال له «إذا كانت الضرورة ستدفعنا إلى الإقدام على عمل عسكري ضد صربيا فإنه سيكون مؤسفا الإحجام عن استغلال ما نراه فرصة سانحة». والحقيقة أن الألمان كانوا يأملون بالإسراع في شن الحرب وتحاشي إعطاء صربيا أي فرصة لتحريك أي جهود دبلوماسية، وتتجسد الخطوة الأولى بمهاجمة الجيش النمساوي العاصمة الصربية بلغراد واحتلالها بسرعة ووضع روسيا أمام «أمر واقع» (Fait Accompli). أيضا توقع الألمان أن الهجوم النمساوي السريع في غضون أسبوع يمثل 90 في المائة من المهمة، وأن ألمانيا ستسجل بالتالي نجاحا دبلوماسيا في البلقان بثمن بخس بناءً على فرضية أن «أوروبا لن تمزّق نفسها من أجل صربيا».
لكن الأمور تطوّرت بسرعة في أعقاب إعلان روسيا أنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام سعي النمسا لـ«تحطيم صربيا»، فباشرت ألمانيا بإعاقة الاتصالات اللاسلكية بين بطرسبورغ وباريس عاصمتي «الحليفتين» روسيا وفرنسا. ومن ثم ادعت أمام حكومات أوروبا أنها ما كانت تعلم شيئا عن الإنذار النمساوي لصربيا. ثم رفضت اقتراح بريطانيا عقد مؤتمر رباعي لإنهاء أزمة البلقان، وهو ما أكد أنها ما كانت تريد حل الأزمة أو إيجاد تسوية دبلوماسية. وفي ما بعد أخّرت ألمانيا إعلان الحرب على فرنسا حتى يوم 3 أغسطس (آب) معوّلة على أن بريطانيا ستبقى على الحياد استنادا إلى مباحثات أجراها الأمير هنريك شقيق الإمبراطور فيلهلم في لندن مع الملك جورج الخامس، الذي هو في واقع الأمر ابن خاله. ولكن عندما أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا لغزوها بلجيكا المحايدة – بناء على نص «معاهدة لندن» 1839 – استدعى المستشار الألماني ثيوبالد فون بيثمان - هولفيغ السفير البريطاني في برلين، وخاطبه بحدة قائلا «كل هذا من أجل كلمة واحدة (حياد) على قصاصة ورق؟!».

* روسيا
* أطلق على قيصر روسيا ألكسندر الثاني (1855 – 1881) لقب «القيصر المحرّر» لما قام به من إصلاحات سياسية لإنقاذ الغالبية الفلاحية من سكان روسيا من تسلّط الإقطاع والحد من سلطات طبقة النبلاء. كذلك حاول جمع شمل الشعوب السلافية المنتشرة في جنوب أوروبا، وتحديدا في جنوب شرقها أي منطقة البلقان. وكان معظم هذه المنطقة خاضعا للدولة أو السلطنة العثمانية، مما جعل روسيا حريصة على احتضان كل المنتمين للقومية السلافية (Pan-Slavism) والطامحين لنيل استقلالهم عن طريق الثورة على هيمنة دولة عظمى مسلمة.
ومن ثم غدا لتلك الحركة القومية تأثير كبير على السياسة العامة لروسيا دفعها إلى رفض اتفاق ما أطلق عليه مسمى «جامعة الإمبراطوريات الثلاث» لتنضوي تحته روسيا والنمسا والمجر، وذلك لاعتبار الأخيرتين المنافس الأول لنفوذ روسيا في البلقان، وكان يتزعم تلك الحركة الكونت نيكولاي بافلوفيتش إيغناتييف سفير روسيا في إسطنبول.
عندما وقعت جريمة اغتيال الأرشيدوق في سراييفو، فسّر بعض الباحثين ربط مسارعة روسيا لمساندة صربيا في وجه النمسا بأسباب دينية – طائفية تتعلق بالاختلاف الكاثوليكي (النمساويون والمجريون كاثوليك) والأرثوذكسي (الصرب والروس أرثوذكس)، غير أن الوازع الأساسي كان قوميا بامتياز يقوم على بعث القومية السلافية بقيادة روسيا ورعايتها. وهذا ما تبرزه برقية الأمير ألكسندر ولي عهد صربيا بعد تسلم الإنذار إلى قيصر روسيا وفيها يستعطفه بالقول «إنني ألتجئ إلى قلبك السلافي بالتبجيل في نجدة مملكة صربيا وإنقاذها». وتؤكدها أيضا مقولة الدبلوماسي ألكسندر سافاتسكي «إن هالة روسيا كقائدة للأمم السلافية والبلقان ستخبو إلى غير رجعة ما لم نقاتل».
ويفسّرها أكثر جواب دبلوماسي روسي آخر هو نيكولاي (نيقولا) دي فاسيلي لصديقه الملحق العسكري النمساوي، عندما حذّره الملحق من «الكارثة الداخلية» إذا ما تورّط القيصر الروسي نيقولا الثاني في الحرب، إذ قال «إن تعليقك يشوبه خطأ كبير في التحليل، واعتقادك بأن تخوّف روسيا من الثورة (الشيوعية) سيجعلها في وضع تعجز معه عن أداء واجبها القومي لا يعدو كونه خرافة». وفي ربيع عام 1915 بدأت الصحف والمعارضة في روسيا انتقاد إدارة الحكومة للأوضاع، فأقدم القيصر نيقولا الثاني على تسريح عدد من الوزراء وقادة الجيش، الذي تولّى قيادته شخصيا، وترك زوجته أليكس أوف هيسه – لاحقا صار اسمها بعد زواجها منه ألكسندرا فيودورفا – تدير الأمور الداخلية للبلاد. وكانت الملكة، وهي حفيدة فيكتوريا ملكة بريطانيا الشهيرة، شخصية غير محبوبة أطلق عليها الروس لقب «المرأة الألمانية» وكانت واقعة تحت تأثير الراهب المشعوذ غريغوري راسبوتين، الذي لعب دورا نافذا يومذاك في أروقة القصر القيصري.
وحمل عام 1917 كوارث جمّة لروسيا بدأت في شهر فبراير (شباط) عندما اندلعت اضطرابات هيّجها الجوع ونقص الطعام وصلت إلى العاصمة بطرسبورغ – التي كانت تعرف في تلك الفترة باسمها الروسي «بتروغراد» – فأمر القيصر الجيش بالتدخّل والقضاء عليها، فتمرّدت بعض القوات، وساند العسكريين المتمردين العمال والطلبة. ومع انهيار الاقتصاد وتعثّر التقدم العسكري الروسي إبان الحرب، لا سيما على جبهة بولندا، حيث فقد الجيش الروسي من العسكريين قيد الخدمة الفعلية فقط نحو ثلاثة ملايين قتيل، ناهيك عن ملايين الأهالي، أشعل الاستياء الشعبي الثورة.
من جانبهم، حاول الألمان الاستفادة من الثورة الروسية عبر تأييد الحركات السياسية المناوئة للنظام القيصري، وبخاصة زعماء الثورة الذي كانوا في المنفى، ودعم هؤلاء سياسيا وماديا. وكان بين هؤلاء الزعيم الشيوعي البلشفي فلاديمير إيليتش أوليانوف «لينين» وأتباعه. وقد عملت ألمانيا على إرجاعه من منفاه في سويسرا ودعمه بمبالغ ضخمة بلغت 40 مليون مارك ذهبي، وفق بعض التقارير. وبالفعل، استقل لينين قطارا ألمانيا يوم 9 أبريل (نيسان) 1917 ووصل إلى بتروغراد يوم 16 أبريل لقيادة الثورة الشيوعية على رأس الحركة البلشفية (البلاشفة) وتسلّم الحكم ليلة 25 – 26 أكتوبر (تشرين الأول) 1917.
ومع نجاح الثورة الشيوعية في روسيا انتهى حكم القياصرة الذي امتد منذ عام 1462، وتوقفت الحرب في الجبهة الشرقية بالنسبة للألمان، مما مكّنهم من تعزيز قواتهم على الجبهات الأخرى.
* مؤرخ وباحث كويتي



الكرملين: دائرة ترمب تتحدّث عن سلام وبايدن يسعى للتصعيد

TT

الكرملين: دائرة ترمب تتحدّث عن سلام وبايدن يسعى للتصعيد

أوكراني في منطقة دمّرها هجوم صاروخي في أوديسا الاثنين (رويترز)
أوكراني في منطقة دمّرها هجوم صاروخي في أوديسا الاثنين (رويترز)

أعلن الكرملين، الاثنين، أنه لاحظ أن دائرة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب تتحدّث عن خطة سلام محتملة بشأن أوكرانيا، في حين أن نظيرتها الحالية للرئيس جو بايدن لا تفعل ذلك، بل تسعى إلى تصعيد الصراع.

وأدلى المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، بهذه التصريحات، رداً على طلب للتعليق على ما قاله مايك والتز الذي اختاره ترمب مستشاراً للأمن القومي، خلال مقابلة مع قناة «فوكس نيوز»، الأحد.

وقال والتز إن ترمب «قلق للغاية» من تصعيد القتال بين روسيا وأوكرانيا، وإن الحرب يجب أن تنتهي «بشكل مسؤول».

رجل إنقاذ قرب مبنى أُصيب بصاروخ روسي في أوديسا الاثنين (رويترز)

وأشار والتز إلى ما وصفه بتدخل كوريا الشمالية وإيران في الصراع، واستخدام روسيا صاروخاً باليستياً فرط صوتي ضد أوكرانيا، وكذلك قرار بعض الدول الغربية بالسماح لأوكرانيا بإطلاق صواريخ زوّدتها بها لضرب مناطق داخل روسيا، وقال إن كوريا الجنوبية تدرس ما إذا كانت ستتدخل هي أيضاً في الصراع.

وقال والتز: «نحتاج إلى المناقشة بشأن من سيجلس على الطاولة، وما إذا كان اتفاقاً أم هدنة، وكيفية إحضار الطرفين إلى الطاولة، ثم ما هو إطار الاتفاق».

وذكر بيسكوف أن الكرملين أُحيط علماً بهذه التصريحات، وأن الرئيس فلاديمير بوتين أشار مراراً إلى أن روسيا مستعدة للحوار بشأن أوكرانيا.

ورداً على سؤال عن تصريحات والتز، قال بيسكوف: «نسمع في الحقيقة كلمة (سلام) أو (خطة سلام) من دائرة أنصار ترمب الذين رشحهم لمناصب في الإدارة المستقبليّة... لم نسمع مثل هذه الكلمات من إدارة (بايدن) الحالية، في حين تستمر الإجراءات التصعيدية الاستفزازية. هذا هو الواقع الذي نواجهه».

خبراء أوكرانيون يعاينون بقايا صاروخ روسي الاثنين في خاركيف (إ.ب.أ)

وأعلنت موسكو أن دفاعاتها الجوية أسقطت ثمانية صواريخ باليستية أطلقتها أوكرانيا، وسط تصاعد التوتر مع استخدام كييف صواريخ بعيدة المدى زوّدها بها الغرب ضد روسيا.

وأفادت وزارة الدفاع الروسية، في مؤتمر صحافي، بأن «الدفاعات الجوية أسقطت 8 صواريخ باليستية، و6 قنابل جوية موجّهة من طراز (JDAM) أميركية الصنع بالإضافة إلى 45 مسيّرة»، من دون تفاصيل حول نوع الصواريخ أو المكان الذي أُسقطت فيه.

في المقابل، ذكر مسؤولون أوكرانيون، الاثنين، أن صواريخ روسية ألحقت أضراراً ببنايات سكنية في مدينة خاركيف بشرق أوكرانيا وأوديسا في الجنوب، كما تسبّب هجوم بسرب من الطائرات المسيّرة في انقطاع مؤقت للتيار الكهربائي عن منطقة ميكولايف واستهدف أيضاً العاصمة كييف. وقالت القوات الجوية الأوكرانية إنها أسقطت 71 من أصل 145 طائرة مسيّرة أطلقتها روسيا خلال الليل. وأضافت أنها فقدت أثر 71 طائرة مسيّرة ربما بسبب التشويش الإلكتروني.

انفجارات في سماء كييف خلال هجوم روسي بالمسيرات الاثنين (أ.ب)

وسمع سكان العاصمة صوت أزيز تحليق طائرات مسيّرة فوق المدينة لعدة ساعات خلال الليل. كما سُمعت أصوات إطلاق نار من حين إلى آخر مع محاولة الدفاعات الجوية إسقاطها. وحثّ الرئيس فولوديمير زيلينسكي حلفاء بلاده الغربيين على تكثيف الضغط على روسيا لمنع وصول المكونات المطلوبة لأنظمة الأسلحة إليها. وقال: «هذه الهجمات الروسية على الأرواح الأوكرانية يمكن وقفها... بالضغط وبالعقوبات وبمنع وصول المحتلين إلى مكونات يستخدمونها لصنع أدوات لهذا الإرهاب».

وقال حاكم منطقة في شمال شرقي أوكرانيا وقوات الشرطة، إن هجوماً صاروخياً روسياً على مدينة خاركيف أدى إلى إصابة 23 شخصاً على الأقل، وألحق أضراراً بأكثر من 40 منشأة. وذكرت وزارة الداخلية الأوكرانية أن هجوماً صاروخياً آخر على مدينة أوديسا الجنوبية ألحق أضراراً أيضاً بالمباني السكنية، وتسبّب في إصابة 10. وقالت سلطات محلية إن الهجوم باستخدام الطائرات المسيّرة خلال الليل استهدف البنية التحتية للطاقة في منطقة ميكولايف جنوب البلاد؛ مما تسبّب في انقطاع التيار الكهربائي، كما تعرّضت منشآت صناعية في منطقة زابوريجيا في جنوب شرقي البلاد للقصف.

وقصفت مسيّرات أوكرانية منشأة للوقود والطاقة في منطقة كالوغا الروسية، وفق ما أفاد مصدر في الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، في أحدث هجوم عبر الحدود على منشآت الطاقة.

وكثّفت موسكو وكييف الهجمات المتبادلة بالصواريخ والطائرات المسيّرة عبر الحدود، وأطلقت روسيا الأسبوع الماضي صاروخها الجديد «أوريشنيك» على أوكرانيا؛ مما أثار دعوات دولية إلى وقف التصعيد.

وقال المصدر: «نتيجة عملية قامت بها الاستخبارات الدفاعية الأوكرانية، أُصيبت منشأة للوقود والطاقة في منطقة كالوغا في روسيا ليلاً».

وقال حاكم مدينة كالوغا الروسية، الواقعة إلى جنوب العاصمة موسكو، إن أنظمة الدفاع الجوي في المنطقة أسقطت ثماني مسيّرات، مؤكداً أن «مؤسسة صناعية» اشتعلت فيها النيران.

وأوضح المصدر الأوكراني أن «هدف الهجوم كان مستودع نفط لشركة (Kaluganefteprodukt JSC) التي تشارك في دعم العدوان الروسي المسلح على أوكرانيا».

وأعلن الجيش الأوكراني ارتفاع عدد قتلى وجرحى العسكريين الروس منذ بداية الحرب على أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، إلى نحو 732 ألفاً و350 جندياً، بينهم 1610 لقوا حتفهم، أو أُصيبوا، خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية.

جاء ذلك وفق بيان نشرته هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأوكرانية، عبر صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، وأوردته وكالة الأنباء الوطنية الأوكرانية (يوكرينفورم).

وحسب البيان، دمّرت القوات الأوكرانية منذ بداية الحرب 9429 دبابة، و19236 مركبة قتالية مدرعة، و20787 نظام مدفعية، و1254 من أنظمة راجمات الصواريخ متعددة الإطلاق، و1004 من أنظمة الدفاع الجوي.

وأضاف البيان أنه تم أيضاً تدمير 369 طائرة حربية، و329 مروحية، و19480 طائرة مسيّرة، و2764 صاروخ كروز، و28 سفينة حربية، وغواصة واحدة، و29948 من المركبات وخزانات الوقود، و3681 من وحدات المعدات الخاصة. ويتعذّر التحقق من هذه البيانات من مصدر مستقل.