رئيس جمعية المصرفيين العرب: فتح البورصة السعودية للاستثمار الخارجي سينشط السوق المحلية والعالمية

جورج كنعان أكد لـ {الشرق الأوسط} أن اهتمام المستثمرين العرب بسوق بريطانيا لن يتراجع في حال انفصلت عن الاتحاد الأوروبي

جورج كنعان
جورج كنعان
TT

رئيس جمعية المصرفيين العرب: فتح البورصة السعودية للاستثمار الخارجي سينشط السوق المحلية والعالمية

جورج كنعان
جورج كنعان

تحظى لندن اليوم بمكانة فريدة من نوعها في أوساط المستثمرين والمؤسسات المالية العربية. لا تكاد الاستثمارات العقارية وفي الأسواق البريطانية المالية تتباطأ، في حين لا تزال بعض الأسواق الأوروبية تحاول استعادة نشاطها. يفضّل المستثمرون العرب وضع رأس مالهم في السوق البريطانية لتعدد الخدمات التي توفر لهم ولتنويع محفظة استثماراتهم وتحقيق هامش ربحي مرتفع. يحدّث جورج كنعان، الرئيس التنفيذي لجمعية المصرفيين العرب بلندن، «الشرق الأوسط» عن جاذبية لندن للمستثمرين العرب والخليجيين دون غيرها من العواصم الأوروبية، وتصدّرها لمشروع إصدار «الصكوك» الإسلامية وعن أداء المؤسسات المالية العربية في ظل القوانين المالية الصارمة الجديدة وغيرها من القضايا. جاء الحوار كما يلي:
* بداية نريد أن نعرف أكثر عن «جمعية المصرفيين العرب».. تاريخها ونشاطاتها؟
- أسست الجمعية بشكل غير رسمي عام 1975, عندما توجه عدد كبير من المصرفيين العرب، وخاصة اللبنانيين منهم إلى لندن بعيدا عن الحرب الأهلية. كان المصرفيون اللبنانيون والسوريون والفلسطينيون والمصريون والعراقيون يشتغلون لصالح مؤسسات مالية دولية في بيروت، التي كانت تعد بمثابة المركز المالي في العالم العربي آنذاك. أصبح المصرفيون العرب يهتمون بالشؤون المالية للشرق الأوسط من العاصمة البريطانية. فكان من الطبيعي لهؤلاء المصرفيين المغربين أن يجتمعوا تحت مظلة تنظيمية واحدة، بحكم وضعهم الاجتماعي المتشابه، وعروبتهم، واهتماماتهم المتجانسة وأعمارهم المتقاربة. رسم المصرفيون العرب الجمعية قانونيا عام 1980 وتجاوزوا البعد الاجتماعي المحض إلى تنظيم ندوات وحلقات دراسية وغيرها من الأنشطة. تزامن ذلك مع ارتفاع أسعار النفط وما خلفه من ارتفاع السيولة في منطقة الشرق الأوسط وازدهار الأعمال فيها. أثارت هذه التطورات اهتمام المستثمرين الأجانب والمؤسسات والمصارف الدولية، وأصبحت لندن مركز حوار وتبادل بين هؤلاء والمصرفيين ورجال الأعمال العرب. ثم مع تطور البنيات التحتية وقطاع الضيافة في بلدان الخليج، قلت أهمية لندن وجمعية المصرفيين العرب كمكان للاستشارة والتوجيه والتبادل. ومع ذلك فقد حافظت الجمعية على عدد من وظائفها، كإنتاج وتوزيع المجلة وتنظيم ورشات عمل وندوات.
عادت لندن ومعها جمعية المصرفيين العرب لتلعب دورا أساسيا في الربط بين منطقتنا والغرب مع اندلاع الانتفاضات العربية عام 2011. وتلعب الجمعية حاليا دور مركز للاستشارة حيث يتجه إليها رجال الأعمال المهتمين بالمنطقة لتطوير علاقاتهم والاستفادة من الندوات والورشات. فضلا عن ذلك، أصبحت الجمعية تجمع بين مصرفيين عرب يمثلون مؤسسات مالية مختلفة، وعدد متزايد من ممثلي صناديق التحوط، وشركات الأسهم الخاصة وشركات إدارة الأموال العرب. بالإضافة إلى عدد مرتفع من العرب الذين يشتغلون في بنوك الاستثمار والبنوك الدولية والمستقرين في لندن. أخذت الجمعية بهذه الاعتبارات وبالإقبال المتزايد للمصرفيين العرب على لندن، وأصبحت تركز نشاطها على خدمة هذه الجالية المتميزة، عن طريق التظاهرات الاجتماعية وندوات وورشات عمل تناقش قضايا تهمهم من قوانين جديدة وأنظمة ضريبية والأسواق المالية وأسواق العملات.
كما سنبدأ قريبا سلاسل من الندوات المتخصصة، نستقبل فيها محافظي البنوك العربية ومسؤولين سياسيين واقتصاديين في المنطقة.
* تغيّرت القوانين المنظمة للأسواق المالية وأصبحت أكثر صرامة بعد الأزمة المالية 2007 - 2008. كيف تأقلمت المؤسسات المالية العربية مع هذه التغييرات؟
- من الأساسي التمييز بين عالمين عند دراسة القوانين الجديدة؛ عالم الأسواق المالية في الغرب ونظيرتها في العالم العربي.
يتميز عالم الأسواق في الغرب بأدوات ومنتوجات مالية متطورة، لحقتها خسائر جسيمة خلال سنوات الأزمة المالية وتأثرت بشكل كبير بتداعياتها. استوجبت هذه الخسارة تدخل المؤسسات المالية الدولية وإنقاذ عدد من البنوك من الإفلاس المحتم، لتفادي انهيار الأسواق الدولية. كما قامت هذه السلطات المالية بإغلاق بعض البنوك كما حصل في نيويورك وترويض بعض البنوك الاستثمارية الأخرى وفرض قيود وقوانين صارمة على رؤوس الأموال. تدخل هذه الإجراءات كافة، والتي قيدت نشاط بعض المؤسسات المالية الضخمة، في إطار «هندسة مالية» حذرة.
أما فيما يتعلق بالمصارف العربية، فالأمر يختلف. يتميز النظام البنكي في العالم العربي بقوانين «محافظة». تقنن معظم الدول العربية بنوكها بصرامة شديدة من حيث القروض ومخاطر الاستثمار ونسب رأس المال الاحتياطي وغيرها. يرجع ذلك إلى كون عدد كبير من المصارف العربية تدار من طرف مالكيها، مما يجعلهم أكثر حرصا على تطبيق القوانين المالية التنظيمية والالتزام بها. كما تتميز البنوك العربية كذلك بسيولة عالية ومستوى جيد من الرسملة. كل هذه العوامل ساعدت القطاع البنكي العربي في التحصن من تداعيات الأزمة المالية العالمية. الاستثناء الأبرز في هذا السياق هو دبي، حيث تأثر القطاع المصرفي بالسوق الداخلية أكثر من السوق المالية العالمية.
تتبين قوة القطاع المصرفي في الشرق الأوسط تجاه الصدمات الخارجية من خلال تجربة الانتفاضات العربية. لم تتأثر بنوك المنطقة، في معظمها، بالحراك السياسي واللا - استقرار، ولنا في مصر وتونس خير مثال.
ولعله من الطريف أنه في الفترة التي تلت الأزمة المالية العالمية والتي عانت خلالها البنوك الغربية من قوانين صارمة تقيد حريتهم في إعطاء قروض والتحكم في رأس المال بطلاقة، تدخلت البنوك العربية لتوفير السيولة ومساعدة قطاع العقارات، خاصة في العاصمة لندن. وعلى الرغم من أن البنوك العربية لم تتأثر بالأزمة بشكل كبير، فإنها تخضع لنفس القوانين المالية الدولية، مع أن التزامها بها يتفاوت.
* ستصبح بريطانيا أول دولة غربية تصدر أدوات مالية إسلامية للتمويل من خلال مشروع إصدار «صكوك» بقيمة 200 مليون جنيه إسترليني في الشهور المقبلة. ما أهمية هذه الخطوة؟ وماذا يعني ذلك بالنسبة للأسواق المالية الإسلامية؟
- يعكس هذا المشروع رغبة لندن في أن تصبح عاصمة المال الإسلامي. يجدر التذكير هنا أن لندن اتخذت عددا من الإجراءات في هذا الاتجاه على مر السنوات، وتعد مركزا أساسيا في قطاع التمويل الإسلامي، مع أن هذا الأخير لا يزال هامشيا بالمقارنة مع التمويل التقليدي. فلندن اليوم في قيد تطوير النظام القانوني لاحتضان هذا المشروع، بالإضافة إلى شبكة واسعة من المؤسسات والأشخاص قادرين على تطوير الأدوات الإسلامية الملائمة. كذلك عبرت الحكومة عن اهتمامها وتعلقها بهذا المشروع وتؤيد الجهود المبذولة في هذا السياق. ويمثل إصدار «الصكوك» الإسلامية خطوة في بالغ الأهمية حيث إنها ستنشط سوق المال الإسلامي وتجذب المستثمرين والمؤسسات المالية الدولي المهتمة بها.
* ما أهم البنوك الإسلامية والعربية والدولية التي تحتضن هذا المشروع؟
- أود أن أذكّر هنا أن معظم البنوك العربية النشيطة هي البنوك «التقليدية»، أي إنها مختصة في التمويل المالي بصفته التقليدية البحتة.
أما فيما يخص مشروع بريطانيا للمال الإسلامي، فهو محمول من طرف عدد من البنوك، منها الإسلامية والعربية - الإسلامية والعربية التقليدية والبنوك الدولية المختلطة، على غرار مصرف قطر الإسلامي، مصرف أبوظبي الإسلامي، وبعض البنوك الأخرى المتوافقة مع تعليمات الشريعة الإسلامية. بالإضافة إلى ذلك، نجد الفروع الإسلامية لمؤسسات دولية نذكر منها المؤسسة العربية المصرفية «إتش إس بي سي» والبنك البريطاني الإسلامي.
* ما هي في رأيكم أهم التحديات أمام هذا المشروع، خاصة أنه الأول من نوعه في دولة غربية؟
- لا أرى أي تحديات عويصة في الأفق. صحيح أن هذه أول تجربة إصدار صكوك إسلامية من دولة غربية، لكن الطلب موجود. بالعكس، أظن أن هذه الخطوة ستمكن سوق المال الإسلامي من الانتعاش وستلبي حاجات المستثمرين المهتمين بالأدوات الإسلامية. كما أعتقد أنه إذا تحقق هذا المشروع، ستليه إصدارات أكبر لإشباع طلب السوق ومواكبة احتياجات المستثمرين العرب والمصرف الدولية التي تهدف إلى تطوير فروعها الإسلامية.
* أصبحت لندن إحدى الوجهات الأساسية للرأسمال الشرق الأوسطي. ما سبب اهتمام المستثمرين العرب، وخاصة الخليجيين منهم، بالعاصمة البريطانية أكثر من غيرها من المراكز المالية العالمية؟
- تتمتع لندن بمكانة فريدة في العالم العربي، بحكم عوامل تاريخية ولغوية واقتصادية وجغرافية. تؤوي لندن جالية عربية كبيرة، تصل اليوم إلى أزيد من 110.000 نسمة. لجأت إلى العاصمة البريطانية بعيدا عن اللا - استقرار السياسي أو بحثا عن ظروف عيش أفضل. أصبحت لندن جراء هذه التدفق المنتظم للمهاجرين العرب، المركز الأساسي للإعلام العربي في الخارج، سواء تعلق الأمر بالصحافة المكتوبة أو القنوات الفضائية أو دور النشر.
فضلا عن ذلك، لطالما جذبت لندن المصرفيين العرب لكونها مركزا ماليا بامتياز ولاحتضانها أكبر وأهم المؤسسات المالية الدولية.
أدت هذه العوامل وغيرها إلى تأقلم الجالية العربية، بمختلف جنسياتها وانتماءاتها السياسية والدينية، في العاصمة البريطانية وتطوير مناخ أعمال واستثمار ملائم. كذلك فتحت مصارف عربية فروعا لها في لندن، تسهل خدمة الزبون العربي. كما أن السوق البريطانية تتميز بسيولة عالية ونظام ضريبي واضح ومشجع للاستثمار وعلى نظام قانوني شفاف يحمي المستثمر. كما أن المستثمرين العرب عادة ما يفضلون تنويع أصولهم المالية، وتعد الأصول المقومة بالجنيه الإسترليني أصولا مهمة لكونها محمية من التضخم والتخفيض.
يساهم الاستقرار السياسي في بريطانيا في جذب المستثمرين العرب، حيث إنهم يفضلون استثمار فائض دخلهم في بيئة مستقرة ومربحة.
ويحظى قطاع العقار السكني والتجاري في لندن باهتمام فائق من طرف المستثمرين العرب، كونه قطاعا مربحا وآمنا للاستثمار إلى حد كبير.
* بما أنكم تطرقتم إلى الاستقرار السياسي، أتعتقدون أن التوترات الحالية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي وإمكانية خروجها منه قد تؤثر سلبا على جاذبية لندن للاستثمارات العربية؟
- من الصعب توقع ما قد ينجم عن سيناريو خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. أعتقد أن في حال ما صار ذلك، لن تتأثر وتيرة تدفق الاستثمارات العربية على بريطانيا بشكل ملحوظ. لكن المستثمرين قد يدركون حاجة تنويع محفظة استثماراتهم وموازنتها.
* فتحت سوق الأسهم السعودية المجال أمام الأجانب للاستثمار المباشر. ما تأثير هذا القرار على الأسواق المالية في المنطقة؟
- يعد هذا القرار خطوة إصلاحية في غاية الأهمية، سواء بالنسبة للسوق المحلي والجهوي أو الأسواق المالية العالمية. فتح سوق مالي بأهمية سوق الأسهم السعودي يتيح فرصا كثيرة أمام المستثمرين المحليين والأجانب، من حيث ارتفاع السيولة وتطوير الأدوات المالية وتوسيع نطاق الاستثمارات وشبكة المستثمرين. يمكن ترقب حركة عالية ونشيطة في الأسواق المالية المحلية جرّاء هذا الانفتاح.



هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
TT

هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)

في ظلّ الضغوط المتزايدة التي فرضتها العقوبات الغربية وارتفاع أسعار الفائدة بشكل مذهل، تتزايد المخاوف في الأوساط الاقتصادية الروسية من احتمال حدوث موجة من الإفلاسات التي قد تهدّد استقرار الكثير من الشركات، لا سيما في ظل استمرار الرئيس فلاديمير بوتين في التمسّك بحربه في أوكرانيا.

وفي كلمته خلال مؤتمر الاستثمار الذي نظمته مجموعة «في تي بي» هذا الشهر، لم يفوّت بوتين الفرصة للتفاخر بما عدّه فشل العقوبات الغربية في إضعاف الاقتصاد الروسي، فقد صرّح قائلاً: «كانت المهمة تهدف إلى توجيه ضربة استراتيجية إلى روسيا، لإضعاف صناعتنا وقطاعنا المالي والخدماتي». وأضاف أن النمو المتوقع للاقتصاد الروسي سيصل إلى نحو 4 في المائة هذا العام، قائلاً إن «هذه الخطط انهارت، ونحن متفوقون على الكثير من الاقتصادات الأوروبية في هذا الجانب»، وفق صحيفة «واشنطن بوست».

وعلى الرغم من التصفيق المهذّب الذي قُوبل به الرئيس الروسي، فإن التوترات بدأت تظهر بين النخبة الاقتصادية الروسية بشأن التأثيرات السلبية المتزايدة للعقوبات على الاقتصاد الوطني. فقد حذّر عدد متزايد من المسؤولين التنفيذيين في الشركات الكبرى من أن رفع البنك المركزي أسعار الفائدة لمكافحة التضخم -الذي تفاقم بسبب العقوبات والنفقات العسكرية لبوتين- قد يهدد استقرار الاقتصاد في العام المقبل. وقد تتسبّب هذه السياسة في تسارع موجات الإفلاس، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية الحساسة مثل الصناعة العسكرية، حيث من المتوقع أن يشهد إنتاج الأسلحة الذي يغذّي الحرب في أوكرانيا تباطؤاً ملحوظاً.

حتى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، أشار في منشور على شبكته الاجتماعية «تروث سوشيال» إلى أن روسيا أصبحت «ضعيفة جزئياً بسبب اقتصادها المتداعي».

تحذيرات من الإفلاس

ومع تزايد توقعات أن «المركزي الروسي» سيضطر إلى رفع الفائدة مرة أخرى هذا الشهر، انضم بعض الأعضاء المعتدلين في الدائرة الداخلية لبوتين إلى الانتقادات غير المسبوقة للسياسات الاقتصادية التي أبقت على سعر الفائدة الرئيس عند 21 في المائة، في وقت يستمر فيه التضخم السنوي في الارتفاع ليصل إلى أكثر من 9 في المائة. وهذا يشير إلى احتمالية حدوث «ركود تضخمي» طويل الأمد أو حتى ركود اقتصادي في العام المقبل. وبالفعل، يتوقع البنك المركزي أن ينخفض النمو الاقتصادي بشكل حاد إلى ما بين 0.5 في المائة و1.5 في المائة في العام المقبل.

كما تسبّبت العقوبات الأميركية الجديدة التي شملت فرض عقوبات على 50 بنكاً روسياً، بما في ذلك «غازبروم بنك»، وهو قناة رئيسة لمدفوعات الطاقة، في زيادة تكاليف المعاملات بين المستوردين والمصدرين الروس. وقد أسهم ذلك في انخفاض قيمة الروبل إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022. وقد أدى هذا الانخفاض في قيمة الروبل إلى زيادة التضخم، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 0.5 في المائة بين 26 نوفمبر (تشرين الثاني) و2 ديسمبر (كانون الأول)، وفقاً للبيانات الرسمية.

وفي هذا السياق، حذّر رئيس هيئة الرقابة المالية الروسية، نجل أحد أقرب حلفاء بوتين، بوريس كوفالتشوك، من أن رفع أسعار الفائدة «يحد من إمكانات الاستثمار في الأعمال، ويؤدي إلى زيادة الإنفاق في الموازنة الفيدرالية». كما انتقد الرئيس التنفيذي لشركة «روسنفت» الروسية، إيغور سيتشين، البنك المركزي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، مؤكداً أن ذلك أسهم في زيادة تكاليف التمويل للشركات وتأثر أرباحها سلباً.

وفي تصريح أكثر حدّة، حذّر رئيس شركة «روس أوبورون إكسبورت» المتخصصة في صناعة الأسلحة، سيرغي تشيميزوف، من أن استمرار أسعار الفائدة المرتفعة قد يؤدي إلى إفلاس معظم الشركات الروسية، بما في ذلك قطاع الأسلحة، مما قد يضطر روسيا إلى الحد من صادراتها العسكرية.

كما شدّد قطب صناعة الصلب الذي يملك شركة «سيفيرستال»، أليكسي مورداشوف، على أن «من الأفضل للشركات أن تتوقف عن التوسع، بل تقلّص أنشطتها وتضع الأموال في الودائع بدلاً من المخاطرة بالإدارة التجارية في ظل هذه الظروف الصعبة».

وحذّر الاتحاد الروسي لمراكز التسوق من أن أكثر من 200 مركز تسوق في البلاد مهدد بالإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف التمويل.

وعلى الرغم من أن بعض المديرين التنفيذيين والخبراء الاقتصاديين يشيرون إلى أن بعض الشركات قد تبالغ في تقدير تأثير أسعار الفائدة المرتفعة، في محاولة للحصول على قروض مدعومة من الدولة، فإن القلق بشأن الوضع الاقتصادي يبدو مشروعاً، خصوصاً أن مستويات الديون على الشركات الروسية أصبحت مرتفعة للغاية.

ومن بين أكثر القطاعات تأثراً كانت صناعة الدفاع الروسية، حيث أفادت المستشارة السابقة للبنك المركزي الروسي، ألكسندرا بروكوبينكو، بأن الكثير من الشركات الدفاعية لم تتمكّن من سداد ديونها، وتواجه صعوبة في تأمين التمويل بسبب ارتفاع تكاليفه. وقالت إن بعض الشركات «تفضّل إيداع الأموال في البنوك بدلاً من الاستثمار في أنشطة تجارية ذات مخاطر عالية».

كما تحدّث الكثير من المقاولين علناً عن الأزمة الاقتصادية المتزايدة في روسيا. ففي أوائل نوفمبر، أشار رئيس مصنع «تشيليابينسك» للحديد والصلب، أندريه جارتونغ، خلال منتدى اقتصادي إلى أن فروعاً رئيسة من الهندسة الميكانيكية قد «تنهار» قريباً.

وفي الثالث من ديسمبر (كانون الأول)، أفادت وكالة «إنترفاكس» الروسية بأن حالات عدم السداد انتشرت في مختلف أنحاء الاقتصاد، حيث تأخرت الشركات الكبرى والمتوسطة بنسبة 19 في المائة من المدفوعات بين يوليو (تموز) وسبتمبر (أيلول)، في حين تأخرت الشركات الصغيرة بنسبة 25 في المائة من المدفوعات في الفترة نفسها.

وحسب وزارة التنمية الاقتصادية الروسية، فقد انخفض الاستثمار في البلاد، وتسببت العقوبات في ارتفاع تدريجي لتكاليف الواردات والمعاملات المالية، مما أدى إلى زيادة التضخم. كما قال مسؤول مالي روسي كبير سابق، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع: «ما يحدث هو صدمة إمداد نموذجية في البلاد».

صناعة الدفاع مهددة

تأتي هذه التحديات في وقت حساس بالنسبة إلى صناعة الدفاع الروسية. فعلى الرغم من ضخ بوتين مبالغ ضخمة من التمويل الحكومي في هذا القطاع، مع تخصيص 126 مليار دولار في موازنة العام المقبل، فإن معظم الزيادة في الإنتاج كانت ناتجة عن تعزيز القوة العاملة لتشغيل المصانع العسكرية على مدار الساعة وتجديد مخزونات الحقبة السوفياتية. ومع ذلك، ومع استمرار الحرب ودخولها عامها الثالث، وارتفاع خسائر المعدات العسكرية، فإن القوة العاملة في القطاع قد وصلت إلى أقصى طاقتها، وإمدادات الأسلحة السوفياتية تتضاءل بسرعة.

وتقول جانيس كلوغ، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن التكاليف المتزايدة والعقوبات المشددة على واردات المعدات تجعل من الصعب على قطاع الدفاع الروسي بناء الأسلحة من الصفر. ووفقاً لتقرير صادر هذا العام عن الباحثَين في المعهد الملكي للخدمات المتحدة بلندن، جاك واتلينغ ونيك رينولدز، فإن 80 في المائة من الدبابات والمركبات القتالية المدرعة التي تستخدمها روسيا في الحرب ليست جديدة، بل جُدّدت من المخزونات القديمة. ويضيف التقرير أن روسيا «ستبدأ في اكتشاف أن المركبات بحاجة إلى تجديد أعمق بحلول عام 2025. وبحلول عام 2026 ستكون قد استنفدت معظم المخزونات المتاحة».

ثقة الكرملين

على الرغم من هذه التحديات يبدو أن الوضع لا يثير قلقاً في الكرملين. وقال أكاديمي روسي له علاقات وثيقة مع كبار الدبلوماسيين في البلاد: «لا يوجد مزاج ذعر». وأضاف أن المسؤولين في الكرملين يعدّون أن «كل شيء يتطور بشكل جيد إلى حد ما». ووفقاً لهذا الرأي، فإن روسيا تواصل تحقيق تقدم عسكري، وفي ظل هذه الظروف، لا يرى الكرملين حاجة إلى تقديم أي تنازلات جادة.

وتزيد الاضطرابات السياسية في العواصم الغربية -بما في ذلك التصويت بحجب الثقة في فرنسا، مع التصويت المرتقب في ألمانيا، بالإضافة إلى اعتقاد الكرملين أن ترمب قد يقلّل من دعمه لأوكرانيا- من الثقة داخل روسيا.

وقد تصدّى بوتين لانتقادات متزايدة بشأن زيادات أسعار الفائدة ورئيسة البنك المركزي، إلفيرا نابيولينا، قائلاً في مؤتمر الاستثمار إن كبح جماح التضخم يظل أولوية بالنسبة إليه. ومع الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل البطاطس التي ارتفعت بنسبة 80 في المائة هذا العام، يواصل بوتين دعم نابيولينا وزيادات أسعار الفائدة، رغم شكاوى الشركات الكبرى. وقالت كلوغ: «من وجهة نظر بوتين، لا يمكن السماح للتضخم بالخروج عن السيطرة، لأنه يمثّل تهديداً لاستقرار النظام السياسي، ولهذا السبب منح نابيولينا تفويضاً قوياً».

لكن المستشارة السابقة للبنك المركزي، ألكسندرا بروكوبينكو، ترى أن الضغط من الشركات الكبرى لن يهدأ. وقالت: «عندما يكون التضخم عند 9 في المائة، وسعر الفائدة عند 21 في المائة، فهذا يعني أن السعر الرئيس لا يعمل بشكل صحيح، ويجب البحث عن أدوات أخرى. أولوية بوتين هي الحرب وتمويل آلتها، ولا يمتلك الكثير من الحلفاء، والموارد المتاحة له تتقلص». وأضافت أنه من المحتمل أن تتعرّض نابيولينا لمزيد من الضغوط مع استمرار الوضع الاقتصادي الصعب.

ومع تزايد الضغوط على بوتين، أصبحت الصورة في الغرب أكثر تفاؤلاً بشأن فرص التغيير في روسيا، وفقاً لمؤسسة شركة الاستشارات السياسية «ر. بوليتيك» في فرنسا، تاتيانا ستانوفايا.

وأضافت: «بوتين مستعد للقتال ما دام ذلك ضرورياً... لكن بوتين في عجلة من أمره. لا يستطيع الحفاظ على هذه الشدة من العمل العسكري والخسائر في الأرواح والمعدات كما كان في الأشهر الأخيرة».